×

  بحوث و دراسات

  السيادة والدولة القومية.. في العلاقات الدولية الجديدة



*د. السيد ولد أباه

في كتابه الأخير «ماهي السيادة؟»، يطرح الفيلسوف الفرنسي جيرار ميريت الإشكالات الراهنة المتولدة عن انحسار معيار «السيادة الوطنية» في البناء الأوروبي، ملاحظاً أن نموذج الدولة القومية تَشكَّل تاريخياً من تفكك الإمبراطوريات الأوروبية، واليوم يواجه مصاعبَ جمةً بالرجوع إلى نوع جديد من التكتل الإقليمي الأوروبي.

ووفقاً لميريت، فقد نشأت الدولة القومية من ظاهرتين متلازمتين، هما: قيام وحدات وطنية محدودة في مجال إقليمي ضيق ناتج عن انقسام أوروبا، وانبثاق نمط جديد من الحكامة السياسية يناسب هذه التجزئة، ويستند إلى محددين رئيسيين هما: السيادة المطلقة والتمثيل الانتخابي.

ما تتعين ملاحظتُه هنا أن هذا النموذج هو حالياً في طور التجاوز، كما أنه لم ينجح عملياً خارج السياق الأوروبي الذي لا يشكل سوى مساحة ضئيلة من العالم، وإن اعتقد نفسَه روحَ الكون وضمير الإنسانية.

 وفي الوقت الذي نشهد فيه تنظيم انتخابات برلمانية أوروبية حاسمة (9 يونيو) يتركز الصراع فيها بين القوى المدافعة عن السيادة القومية والقوى المطالبة بتجذير البناء الإقليمي وفق معيار السيادة المتقاسمة، نلاحظ على المستوى العالمي تحولَين بارزين هما: طرح روسيا في تصادمها مع الغرب فكرة «الدولة - الحضارة» بديلاً عن الدولة القومية (الأوروبية)، وبروز خطاب أفريقي ولاتيني أميركي متصاعد ضد نموذج الدولة الوطنية بصفته لا يتلاءم مع الحقائق المجتمعية والثقافية للقارة السوداء والعالم الأميركي الجنوبي. لقد لاحظ عدد من الفلاسفة الغربيين (مثل ميشال فوكو وجورجيو أغامبن وتوني نغري) أن مسار الدولة القومية في أوروبا تشكل تاريخياً وفق اتجاهين هما: تحويل الحرية إلى مبدأ للنظام السياسي مع إلغاء هذا المبدأ عملياً من خلال مقولة السيادة المطلقة التي تكرس الولاء الكلي للمؤسسات المتحكمة «شرعياً»، وتحويل كل أساليب القهر والاستغلال إلى خارج المجال الإقليمي السيادي، بما يفسر تلازم ظواهر الاستعباد والاستعمار مع النظم الديمقراطية التحررية في الداخل.

لقد ظل السؤال المحوري المطروح في الفكر السياسي المعاصر هو: لماذا انفردت الساحة الغربية بنموذج الدولة القومية الليبرالية الديمقراطية، في حين فشلت كل المحاولات لتصدير هذا النموذج في محدداته الأساسية وتفصيلاته المؤسسية؟ قيل إن الهند هي الديمقراطية الأكبر في العالم، لكن نُفيت عنها السمةُ الليبرالية من حيث النظام الاجتماعي وطبيعة حضور الدين في الشأن العمومي. كما أن اليابان، وإن اعتمدت أساليبَ الحكم السياسي الديمقراطي، فإنها بقيت من حيث بنيتها المجتمعية والثقافية مختلفة عن نموذج الدولة القومية الغربية. وفي أميركا اللاتينية وأفريقيا جنوب الصحراء جرت محاولات متعثرة لاستيراد النموذج الليبرالي القومي، وقد خلص عددٌ من مفكري المنطقتين إلى أن نظام التدبير السياسي فيهما لا يتناسب مع معيار المجموعة الوطنية المغلقة والكيان المركزي المحتكر للعنف العمومي، باعتبار طابع التعدد القومي في الدولة الواحدة وغياب الفردية المعيارية التي هي أساس المواطنة في الدولة الليبرالية الحديثة. وفي روسيا، دافع عدد من الفلاسفة والمفكرين عن نموذج «الدولة - الحضارة» التي تختلف نوعياً عن الكيان الوطني المركزي، وتقتضي بذاتها آليات خاصة للحكم ولضبط العلاقة بين الدولة والمجتمع، كما تحدّث الرئيس بوتين عن مسلك «الديمقراطية السيادية» في بلاده.

لقد ساد الاعتقاد بأن حركية العولمة التقنية الاقتصادية ستؤدي إلى تنميط نظام الحكم السياسي في مختلف بلدان العالم، بالانتقال من نمط الدولة الوطنية إلى حالةٍ ما بعد قومية تنتفي فيها كلياً محدداتُ السيادة (الإمبراطورية بلغة توني نغري ومايكل هاردت). بيد أن الذي حدث هو بروز ديناميكية مضادة للعولمة، تركزت في الدول الليبرالية الغربية، وإن اتخذت شكلاً من أشكال الأيديولوجيا المحافظة غير الليبرالية (الديمقراطيات اللاليبرالية، حسب اصطلاح المفكر الأميركي فريد زكريا). ما نشهده حالياً هو بروز حالة تصدع أيديولوجي حاد في العالم بين ثلاث نزعات متعارضة هي: العولمة الليبرالية التي تتبناها أحزاب اليمين التقليدي ووسط اليسار، والعولمة غير الليبرالية التي تتركز حاليا في الصين، والتيار السيادي القومي الصاعد في الغرب المناهض لحركية العولمة في صيغتيها الليبرالية وغير الليبرالية.

خلاصة هذا التصدع، هي الاتجاه المتنامي إلى انفصام العلاقة الأصلية بين الديمقراطية في دلالتها السيادية القوية (الإرادة الحرة المطلقة) والليبرالية من حيث هي منظومة قيم وحقوق. في الغرب يتمحور الصراع بين القوى الليبرالية والسلطوية على أساس تركة السيادة، وخارج العالم الغربي تؤدي سردية السيادة دوراً أساسياً في الصراع من أجل الاستقلالية الاستراتيجية والتميز داخل النظام الدولي.

*أكاديمي موريتاني

*وجهات.كوم


30/06/2024