*فلاح المشعل
تخيل نفسك متقاعداً تنتظر راتب التقاعد لشراء الأدوية، كما في كل شهر، ولن يأت الراتب المعيشي! ويحار الموظف حين يلتقي زوجته في حيرة تدبير الاقتراض ثمن إيجار الشقة الشهري، بعد أن توقف استلامهما الراتب منذ شهرين، أما الذين يتقاضون راتب الإعانة الاجتماعية، فهؤلاء ينتسبون إلى حطام المجتمع الذي صارت نسبته تتصاعد بعد شهرين من انقطاع الراتب، وهم يدخلون في الشهر الثالث! قصص وحكايات مشبعة بالبؤس وغصة الكلام عن مليون عائلة في مدن كردستان تمضي شهرها الثالث بدون راتب المعيشة، وإليكم تقدير تفاعلات وتداعيات ذلك اجتماعياً وأخلاقيا!
خلافات الحكومة المركزية مع حكومة الإقليم، يضمها سجل كبير فيه خلافات بشؤون النفط والغاز وواردات المنافذ وتوطين الرواتب و..و.. وبعضها لا يخلو من أجندات سياسية وضغوطات خارجية تمارسها أطراف عراقية للضغط السياسي على حكومة الإقليم، ومساع لتخريب تجربة الإقليم وإحداث بلبلة داخلية من خلال الضغط الشعبي…إلخ!
ملف سياسي وإداري وعدم توافق بشؤون توزيع الثروة والقرار والدور بين المركز والإقليم، وأنا لست بصدد فتح هذا الملف الشائك الذي أصبح إحدى علامات الفشل السياسي بين الطرفين، وباب واسعة تدخل من خلالها النزعات العدائية بين بغداد وأربيل، ولا انحاز لطرف ضداً لآخر، فالطرفان موضع ملامة ونقد.
لست معنياً بما يحصل من نزاعات سياسية، ولا أجد معاني أخلاقية أو إنسانية تربط واقعاً معيشياً برهانات سياسية، ويدفع ثمنها نحو خمسة ملايين مواطن كردي عراقي!
حكومة المركز غير معفاة من التهمة بتجويع وإفقار شعب كردستان، وتعريضه للإذلال والفاقة! وهي غير مبرئة تحت أي سبب سياسي أو موقف من رئيس حكومة الإقليم أو مدخولات النفط أو تهريبه، أو غيرها من الأسباب العملية التي تدعو للمواجهة الصريحة بين الفرقاء الذين تشاركوا في إنتاج النظام السياسي بعد 2003، لكن الإشكالية التي برزت في العلاقة بين بغداد وأربيل، وتشكل أحد مظاهر السلبية في التجربة السياسية بعد عقدين من الزمن، تتجلى في ترحيل الأزمات ودفعها بحلول ترقيعية وعدم إنجاز حلها بقوانين راسخة، حتى تتفاقم وتبلغ مرحلة العقدة والانغلاق!
شعب كردستان صار يدرك أنه أصبح الجسر الذي تعبر عليه الأجندات الخارجية ومخالفات وخلافات السياسيين بين بغداد وأربيل، وأنهم في آخر قائمة الاهتمامات لدى الحكومتين للأسف الشديد!
لكن الملام الأول هي حكومة المركز في بغداد، عليها أن تجتهد في إبعاد وعزل شعب كردستان ومعيشتهم عن صراعها مع حكومة أربيل، أو معاقبتها وتحريض شعب كردستان ضد حكومته كهدف نهائي، كما تبغي بعض الجهات السياسية المأزومة جراء تطور كردستان!
ثمة مسالك عديدة لذلك كما في القضاء ومجلس النواب والحكماء من السياسيين المتعقلين، وعدم تعريض الشعب العراقي الكردي في أربع محافظات لعقاب جماعي دون سبب أو جريمة ترتكب!
إيقاف رواتب شعب كردستان لن يؤثر معيشيا على عائلة الساسة و أثرياء وأغنياء كردستان، لا يؤثر في الحيتان والقطط السمان، بل يؤثر في الطبقة الوسطى والفقيرة من الموظفين في مسالك الدولة، الذين يعتمدون كأساس معيشي على الراتب الشهري للمعلم والمدرس والمهندس والطبيب والأستاذ الجامعي والمتقاعد، برغم بؤس الراتب، وكذلك المعالون بمؤسسة الرعاية الاجتماعية.
منطق السياسة لا يعرف الأخلاق، هذا مفهوم ثابت، لكن السلطة والتعامل مع الرعية فهي محكومة بمعيارية أخلاقية ومعاملات الراعي والرعية، كما هي علاقة الله والعباد تقوم على مبادئ العدالة وسلطة الحق، وليس الهوى السياسي المتحول دوماً، أو نزعات التصالح أو التخالف، حق العيش والمعاش مكفول دستوريا وأخلاقيا، وقبل ذلك شرعيا!