×

  رؤى حول العراق

  كيف يمكن انقاذ العراق من أزمته البيئية-المناخية الخانقة؟



*خالد سليمان

 

نحن لا زلنا في بداية فصل الصيف، انما "قهر الشمس الهابط"* يجبر السكان في الكثير من البلدان العربية، العراق ودول الخليج تحديداً، على البقاء بين جدران بيوتهم طوال النهار. في مدن مثل بغداد والبصرة تبدأ الحياة والحركة والأعمال بعد مغيب الشمس غالباً، ذلك ان الحرارة تبلغ نصف الغليان ان لم تتخطاه.

 قبل أيام، رفعت شركات النفط العالمية في حقل غرب القرنة النفطي في محافظة البصرة الراية البنفسجية بعدما بلغت الحرارة 52° درجة مئوية. وتلجأ الشركات الى رفع الراية البنفسجية كإشارة تحذير للعاملين واتخاذ أعلى درجات الحيطة والحذر، ذاك ان الأشعة فوق البنفسجية تؤدي الى الإصابة بضربة الشمس، وتعمل على قتل الخلال الحية في الجسم بحسب البيانات العلمية. وتُعد الأشعة فوق البنفسجية العامل الخارجي الأكثر تهديداً للكائنات الحية، بما في ذلك الإنسان.

انها المرة الأولى تبلغ الحرارة نصف الغليان، بل تتخطاه في شهر يونيو (حزيران) بحسب المراقبين والأكاديميين البيئيين. يشير الأكاديمي والأستاذ في العلوم البيئية في جامعة البصرة د.

 شكر الحسن الى ان المنطقة لم تشهد في تاريخها مثل هذا الارتفاع في درجات الحرارة في شهر يونيو (حزيران). ويقول الحسن، "بناءً على ذاكرتي الشخصية من جهة والبيانات المتوفرة لدي عن أنماط الطقس منذ العقد الأخير من القرن العشرين، فإن درجات الحرارة كانت تلامس نصف الغليان ليوم أو يومين ومن ثم تهبط الى أقل من نصف الغليان، وذلك في نهايات شهر يوليو (تموز) وأوائل شهر أغسطس (آب) وليس في حزيران".

يقول لي الباحث عبر الهاتف من البصرة، "لا أعرف كيف أصف هذه الحرارة، انها حقاً خارج والأحساس البشري، انها أشبه بالهواء الخلفي للمُكيف، ساخن جداً ولا يوصف".

تشير الزميلة الصحفية هبة ماجد من مدينة كربلاء بحس فكاهي الى ان الغلاف الجوي تم رفعه عن العراق، وإلا من أين نزلت علينا كل هذه السخونة، أما الزميلة الصحفية من مدينة الديوانية، منار الزبيدي، فتسأل بدروها عن أحوال الحيوانات البرّية وكيف تتحمل هذا الغليان الذي يجتاح مناطق في وسط وجنوب العراق، خاصة في ظل شح المياه وفقدان الغطاء النباتي؟، ولكن المشكلة كما أشارت لها الزميلتان لا تكمن في الحرارة فقط، بل في انقطاع التيار الكهربائي المستمر، ما يدفع بالأهالي بالاعتماد على المولدات الكهربائية، وهي بالإضافة الى توليد المزيد من الحرارة داخل المدن، لا تفي بالغرض ولا تساعد على تشغيل أجهزة التكييف.

 

لماذا البنفسج في العراق؟

ان نم رفع الراية البنفسجية في العراق عن شيء، انما ينم ليس عما تم التغاضي عنه خلال العقود المنصرمة تجاه النظم البيئية في العراق، بل عن تدميرها واخراجها قسراً عن الخدمة، بينما البلد يواجه آثار قاسية ناجمة عن الاحترار العالمي.

ولو عدنا الى البيانات الشحيحة عن فقدان الغطاء النباتي في العراق يتبين لنا حجم الأضرار التي ألحقت بالنظم البيئية جراء العمران العشوائي والتجريف بفعل فاعل وغياب سياسة البيئة في البرامج الحكومية. ففي العقود الماضية تقلصت المساحات الخضراء من 50 الى 17 في المئة بحسب مرصد (العراق الأخضر).

وعلى الرغم من ان المرصد المذكر يرجع الأسباب الى آثار تغير المناخ، انما الأسباب الحقيقية كما تم ذكرها في تصريحات للعضو في المرصد عمر عبداللطيف، توضح تقصير واضح في توفير المساحات الخضراء من قبل الحكومة وكذلك المجتمعات.

ويمكن التعرج هنا الى تراجع مساحات الأهوار العراقية جراء سياسات عراقية غير مستدامة في استغلال المياه وكذلك أثر سياسات كل من تركيا وإيران المائية غير المنصفة تجاه العراق الذي فقد ما يقارب 70 في المئة من التدفق المائي عبر النهرين الرئيسيين (دجلة والفرات) والأنهار الفرعية.

 وتعد الأراضي الرطبة التي بالكاد تتنفس اليوم جراء التجفيف والتبخر، من بين اهم الخزانات الطبيعية لالتقاط الكربون وتبريد الجو.

وكشف مسح أجرته وزارة الزراعة العراقية مؤخراً، عن فقدان إقليم كردستان 50 بالمئة من غاباته الاصطناعية و30 بالمئة من غاباته الطبيعية خلال نصف قرن مضى.

 ويقول مدير عام مديرية الغابات في اقليم كوردستان هلكوت عبد الرحمن في تصريحات صحفية قناة روداو، إنه "بموجب وثيقتين، إحداهما تعود إلى عام 1957، قام خبير غابات في كردستان والعراق بإجراء مسح لمساحة الغابات الطبيعية في إقليم كوردستان وكانت تقدر مساحتها بـ 5 ملايين دونم".

أما الوثيقة الثانية بحسب المسؤول ذاته فتعود الى من وزارة الزراعة والموارد المائية في حكومة إقليم كُردستان وهي مسح علمي لغابات كُردستان الطبيعية يعتمد على بيانات الأقمار الصناعية، وتؤكد على بقاء 2.5 مليون دونم من الغابات الطبيعية في كردستان فقط.

ما أود الإشارة اليه هنا هو ان الغطاء النباتي يعد خطاً من خطوط المواجهة الفعالة أمام الآثار الناجمة عن الاحترار العالمي، ذلك انه يبرّد متوسط درجة الحرارة العالمية بحوالي 0.5 درجة مئوية بحسب العلوم المناخية، مما يعني أن جهود العمل المناخي العالمية والإقليمية لا يجب أن تركّز على خفض انبعاثات الكربون فقط، فهناك خدمات أخرى كبيرة وشاملة تقدمها الغابات، لكنها ليست مرئية لصانعي السياسات.

 

التدهور البيئي قبل تغير المناخ

وفي السياق العراقي حصل تدهور بيئي كبير قبل ان تشتد آثار تغير المناخ المتمثلة بارتفاع درجات الحرارة، تكرار العواصف الترابية، تراجع الهطول المطري وتدهور التربة.

وتقف عوامل متعددة وراء التدهور البيئي في العراق بما في ذلك فقدان الغطاء النباتي. كانت أشجار النخيل تبلغ 32 نخلة في ثمانينات القرن المنصرم، انما تراجع هذا العدد جراء الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988) والتدهور السياسي بعد 2003 الى حوالي 12 مليون، أي فقدان أكثر من نصف بساتين النخيل.

وتشير إحصاءات رسمية الى ارتفاع العدد الى 21 مليون وفق بيانات وزارة الزراعة لعام 2023. في جميع الأحوال فقد العراق أكثر من ثلث بساتين النخيل التي كانت تشكل قبة خضراء أمام موجات الحرارة، فضلاً عن بساتين الحمضيات التي تكاد ان تختفي في مناطق كثيرة في البلاد.

علاوة على ذلك، كانت هناك مساهمة كبيرة للأهوار الطبيعية-التاريخية في التقاط الحرارة وتبريد الجو. وتعد الأراضي الرطبة من أهم الخزانات الطبيعية في تخزين الكربون في العالم. كانت تتراوح مساحة الأهوار العراقية بين 9650 الى 1050 ألف كلم مربع في ثمانينات القرن المنصرم، انما لا تتجاوز المساحة الكلية اليوم 2200 كلم وهي أيضاً معرضة للتراجع والاندثار بعد تراجع التدفق المائي بشكل كبير في نهري دجلة والفرات جراء تشييد سدود عملاقة على منابع النهرين في تركيا وتغيير مجرى الأنهر القادمة من إيران، فضلاً عن الإدارة الفقير وغير المستدامة محلياً للمصادر المائية.

بالإضافة الى العوامل المذكورة، يقف التوسع العمراني وانشاء البساتين الاصطناعية بقوة وراء هذا التراجع المخيف في المساحات الخضراء. هناك مناطق واسعة اتسمت تاريخياً بأنواعها الأصلية والمحلية من الأشجار والنباتات تم تحويلها الى بساتين اصطناعية ومصايف. وتم بذلك القضاء على الخزانات الطبيعية للكربون والحرارة في غياب السياسات والمعايير البيئية، الأمر الذي ترك المجتمعات والنظم البيئية أمام قهر الشمس الحارق في عراق تميز تاريخياً بتنوع بيولوجي غني وفريد من نوعه على مستوى المنطقة.

 

انقاذ العراق من قهر الشمس الهابط، يمكن؟

بالإضافة الى العوامل الجغرافية-الطبيعية وتأثر أجزاء واسعة في العراق بالمناخ المداري الجاف والارتفاع العالمي في درجات الحرارة، يعود قسم من أسباب تأثر البلد بآثار الأزمة المناخية أكثر من غيره إلى تخلف إدارة واستغلال المصادر الطبيعية والنظم البيئية، وكذلك اثر الصناعة النفطية المكلف على النظم الأيكولوجية. لقد كشفت موجات الحر القاسية هذا العام عن غياب شبه مطلق لسياسات بيئية من شأنها حماية المجتمعات من الآثار الاقتصادية والصحية الناجمة عن الحرارة فوق الـ 50 درجة مئوية.

ان تقليل الخسائر الناجمة عن الأزمة المناخية يستوجب إدارة متكاملة للمصادر الطبيعية من جانب ودمج الجيل القديم من البنى التحتية بما في ذلك العمارة ومحطات توليد الطاقة بجيل جديد يعتمد إدارة موثوقة ومرنة في مواجهة آثار تغير المناخ المتمثلة بالفيضانات والجفاف والحرارة في وقت واحد. على سبيل المثال، تستوجب إدارة المياه تحولاً جذرياً من التركيز بشكل رئيسي على الاستجابات الآنية وتوفير المياه للشرب إلى اتباع نهج متوازن يشمل النظم الأيكولوجية واستعادة المساحات الخضراء والأراضي الرطبة التي فقدها البلد في العقود الأخيرة. وذلك من خلال دمج الحلول القائمة على الطبيعة بالتكنولوجيا الحديثة في معالجة وتدوير المياه الآسنة واستغلالها في التشجير أو إعادة التشجير، الأمر الذي يساهم ليس في إيجاد خزانات خضراء لامتصاص الحرارة فحسب، بل حتى في حماية مصادر المياه العذبة وانقاذها من المياه المستخدمة التي يتم تفريغها في الأنهر دون معالجة.

بالإضافة الى كل ذلك، تعد الحلول القائمة على الطبيعة إحدى الوسائل الفعالة لمواجهة ندرة المياه في المستقبل. وبإمكانها إعادة تأهيل النظم البيئية أو خلق نظم أيكولوجية معدلة أو اصطناعية في تطبيقات متنوعة في جميع مجالات الحياة والسياسات المائية.

 وذلك من خلال الاستغلال المستدام للموارد الطبيعية وتسخيرها، لدعم النمو الاقتصادي طويل الأمد ليشمل الصحة البشرية وسبل العيش والإصلاح البيئي، بما في ذلك التنوع البيولوجي. ويمكن للقطاعات الحكومية والخاصة والمجتمعات والهيئات العلمية لعب دور فعال في هذا المجال، وذلك عبر سياسات بيئية-لامركزية مثل إعطاء الدور والصلاحيات للحكومات المحلية، فسح المجال أمام الجامعات والهيئات العلمية لإجراء البحوث العلمية وإيجاد الحلول للأزمة البيئية-المناخية وفقاً لطبيعة العراق والمنطقة. إشراك القطاع الخاص في إدارة البنى التحتية للمياه واستعادة النظم الأيكولوجية، إشراك المجتمعات المحلية وتمكينها في إيجاد الحلول، ذلك انها أكثر التصاقاً ببيئاتها الطبيعية وتعي المشكلات من خلال معارفها الفطرية-الطبيعية بالنظم البيئية، وكذلك مساهمة المؤسسات الدولية (الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، الوكالات الدولية) في إعادة تأهيل النظم البيئية.

إن السدود وأنظمة المعالجة والخزانات وقنوات المياه التقليدية، لم تعد قادرة وحدها على الاستجابة للمتغيرات المناخية، وذلك بسبب قدمها من جهة وزيادة الطلب على المياه والطاقة من جهة أخرى، عدا عن احتياج النظم التقليدية إلى المزيد من الطاقة، بينما الاستناد الى الإدارة المستدامة-المرنة للموارد بما في ذلك المياه البديلة (المياه الآسنة أو الثقيلة)، الطاقة المتجددة، الاستثمار في الموارد البشرية والتكنولوجيا الحديثة، فيمكن ان يعود بفوائد كبيرة للنظم البشرية والبيئية.

 على سبيل المثال، تقتضي السياسات الجديدة في إدارة المياه إنشاءات جديدة على نطاق الري، الفوترة، المباني، البنى التحية وما إلى ذلك، الأمر الذي يستوجب إنشاءات جديدة تحل محل البنى التحتية القديمة التي تقتصر على جمع مياه الأمطار والفيضانات من خلال شبكاتها التقليدية وتصريفها إلى المجاري، بينما تقتضي الإدارة المتكاملة خزنها واستثمارها ضمن أهدافها التنموية.

 

مدن مكتظة بالسكان

يتوقع ان تسكن 70٪ من السكان في المدن بحلول عام 2050، ما يضاعف الطلب ليس على المياه فقط، بل على خدمات بيئية-صحية من شأنها حماية مدن مكتظة من الغليان والصراعات الاقتصادية-الاجتماعية التي ستنجم عنه. أي ان الحياة الحضرية لا تتجسد في مستوى الثراء الذي يتمتع به الأفراد، بل استنشاق الهواء النظيف، الوقاية من الحر، حق الوصول إلى التعليم، الخدمات الصحية والمياه الصالحة للشرب.

يستوجب كل ذلك الإدارة المتكاملة للموارد والتركيز على خمس استراتيجيات أساسية وهي: المدينة النابضة، قرب الخدمات من المواطنين وفرص الوصول إليها، كفاءة استخدام الموارد والمسؤولية البيئية، إفساح المجال أمام عمل الطبيعة، وأخيراً المشاركة والتشاور.

ان معالجة التراكيز الملحية في الأنهار العراقية وإصدار قوانين خاصة بها، خطوة مهمة نحو استعاد المساحات الخضراء، خاصة ان الظروف المناخية الحالية وسياسات دول الجوار في بناء السدود على الأنهار الدولية، تزيد من الترسبات الملحية. يضاف الى ذلك صعود اللسان الملحي من الخليج الى الشط العرب ومنه الى النهرين والأهوار ما يهدد المتبقي من الأراضي الصالحة للزراعة والتشجير. لقد أصبح فرض قانون حماية البيئة، شرط من شروط الحفاظ على النظم البيئية ولا يمكن تجاهله. كما ان التنوع الأحيائي (النبات والحيوان) وحمايته يحتاج الى تأسيس محميات طبيعية واشراك المجتمعات المحلية في إدامتها، وهو أمر يعود بفائدة بيئية-اقتصادية كبيرة للمجتمعات ببلد ترتفع درجة الحرارة فيه أسرع مرتين إلى سبع مرات من الارتفاع العالمي.

إضافة الى كلما ذكر، يحتاج العراق اليوم الى تكثيف جهود دبلوماسية مائية بغية الوصول الى اتفاقيات ثنائية وثلاثية مع كل من تركيا وإيران وسوريا من أجل ضمان حقوقه المائية. وللوصول الى اتفاق يرضي جميع الأطراف يمكن وضع القانون الدولي للمياه (اتفاقية 1997 لقانون استخدام المجاري المائية الدولية) كأساس لإبرام أي اتفاق بين الدول الثلاث على الرغم من عدم اعتراف تركيا بهذه الاتفاقية الدولية ومعارضتها لها. كما يمكن الإستفادة من اتفاقيات إقليمية وقارّية مثل مجلس نهر الميكونغ جنوب شرق آسيا ومنظمة استثمار نهر السنغال غرب أفريقيا والاتفاقات الأوروبية على أحواض الأنهار الدولية. وتنص اتفاقية 1997 لقانون استخدام المجاري المائية الدولية على منع التأثيرات العابرة للحدود ومراقبتها والحد منها، ضمان الاستخدام العادل والمنصف للمياه المشتركة والتعاون من خلال الاتفاقيات ثنائية أو متعددة الأطراف والهيئات المشتركة.

*جملة مقتبسة من قصة (الجرافيتي 2042) للقاص والروائي محمد خضير


07/07/2024