تتسم بالاستقلالية وعدم التبعية لأي جهة حكومية
*ملف خاص في مجلة"المجلة"اللندنية
شهد دشتي:تعد المرجعية الرمز الديني الأعلى لدى الشيعة الإمامية في زمن الغيبة الكبرى (غيبة الإمام الثاني عشر) لما تمثله لهم من عمق عقائدي، لذا نجد أن جميع ما يصدر عن المرجعية الدينية يكون لزاما على مقلديها الامتثال له والعمل به، وهذا ما يدل على قوة تأثيرها على أتباعها ومقلديها.
ولعبت المرجعية الدينية في العراق منذ تأسيسها حتى وقتنا الراهن أدوارا مختلفة، ولم يكن دورها قاصرا على الجانب الشرعي فقط، بل كان لها دور على الصعيد الاجتماعي والثقافي والسياسي لما تشكله من عمق وثقل في الأوساط الشيعية.
وساهم سقوط نظام صدام حسين عام 2003 في زيادة وتأثير دور المرجعية الدينية في السياسة العراقية، وذلك بسبب تحقيق الاستقرار السياسي للمرجعية واختفاء ملاحقة مراجع الدين وفرض الإقامة الجبرية عليهم واغتيالهم من قبل الحكومات العراقية السابقة.
لقد أدى انهيار مؤسسات الدولة الرسمية والتحديات السياسية والاجتماعية والأمنية التي عانى منها العراق في تلك الفترة إلى بروز الدور السياسي للمرجعية، بالإضافة إلى غياب شخصية قيادية ومؤثرة على الساحة السياسية العراقية من العوامل التي زادت من فعالية المرجعية الدينية التي كان لها دور كبير في إرساء الديمقراطية العراقية من خلال سن دستور للعراق وإقامة انتخابات مبكرة تعد الأولى من نوعها في العراق للتخلص من سلطة الاحتلال الأجنبي.
عوامل داخلية وخارجية
يعد شكل النظام السياسي بعد عام 2003 من أهم العوامل التي منحت المرجعية مساحةً ودورا أكبر في الظهور على الساحة السياسية وذلك بسبب ضعف النظام السياسي العراقي الذي أتاح للمرجعية التدخل والتأثير في الكثير من القضايا السياسية، عكس الحكومات العراقية السابقة التي اتسمت بالقوة والسلطوية مما أدى إلى تضاؤل دور المرجعية السياسي وهذا ما ظهر جليا على مر تاريخ المرجعيات الدينية، فكلما كان النظام السياسي قويا ضعف وتضاءل دور المرجعية السياسي والعكس صحيح.
بالإضافة إلى أن العوامل المحلية والإقليمية والدولية الدائرة في المحيط العراقي تؤثر في قوة أو ضعف دور المرجعية السياسي، وهذا ما ظهر واضحا في موقف مرجعية النجف الحالية إزاء القضايا السياسية مقارنةً مع موقف المرجعية الدينية قبل سقوط النظام العراقي.
نلاحظ على مر تاريخ مراجع الدين أن البيئة المحيطة بالمرجعية تؤثر في مدى فعالية ودور المرجعية في التصدي للقضايا السياسية، فبعض مراجع الدين آنذاك لم يكن باستطاعتهم التصدي للقضايا السياسية بسبب الضغوطات والاضطهادات والاغتيالات بالإضافة إلى فرض الإقامة الجبرية التي مورست ضد المؤسسة الدينية.
لذا يمكننا اعتبار تدخّل مرجعية النجف الحالية المتمثلة في السيد علي السيستاني في القضايا السياسية من باب تغليب المصلحة العامة والمصلحة الشرعية التي تقع على عاتق المرجع الديني من باب الولاية الحسبية، وذلك بسبب عدم تبني مرجعية النجف مبدأ التدخل في القضايا السياسية (الولاية العامة للفقيه).
تعتبر مؤسسات الدولة الرسمية في العراق هي المخولة باتخاذ قرار السياسة الخارجية، إلا أن هناك جهات غير رسمية تقوم هي الأخرى بالتوجيه والتأثير في قرارات السياسة الخارجية، فالأحزاب التي شاركت في العملية السياسية العراقية بمختلف فئاتها وعرقياتها لها دور مهم وفعال في التأثير على مجريات السياسة الخارجية، بالإضافة إلى جماعات الضغط والرأي العام التي لها قوة داخلية في توجيه قرار السياسة الخارجية.
بناءً عليه، يمكننا اعتبار المرجعية الدينية إحدى أهم المؤسسات غير الرسمية التي تؤدي دورا في توجيه السياسة الخارجية العراقية بعد عام 2003 والتأثير في سياستها، حيث أثّرت في القضايا العامة التي تهدد استقرار وسيادة العراق وعدم جعله ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، كما لعبت دورا على مستوى توجيه القرار السياسي الخارجي وليس على مستوى اتخاذ القرار كونها تمثل جهة غير رسمية في الدولة العراقية.
لعبت المرجعية الدينية منذ تأسيسها أدوارا مختلفة في المحافل الخارجية ولم يكن دورها قاصرا على الجانب الداخلي العراقي فحسب، وإنما كان لها دور في الكثير من القضايا أبرزها القضية الفلسطينية التي حظيت باهتمام جميع مراجع الدين وكذلك "ثورة التنباك"، و"المشروطة"، و"المستبدة"، وغيرها من القضايا الخارجية عن طريق إصدارها للفتاوى الدينية من أجل الضغط على صانع القرار أو إصدار بيانات استنكار أو تأصيل نظريات سياسية.
على الرغم من توقف الدور السياسي الخارجي للمؤسسة الدينية في عهد حكومات حزب "البعث"، فإنه بعد سقوط النظام العراقي السابق، لعبت مرجعية السيد السيستاني دورا سياسيا خارجيا لا يقل عن سابقتها، حيث سعت المرجعية الدينية إلى التأثير على قرارات السياسة الخارجية العراقية من خلال البيانات الصادرة من مكتب المرجعية في النجف أو من خلال خطب الجمعة التي يلقيها ممثلوها أو من خلال اللقاءات الخاصة التي جمعت المرجع السيد السيستاني مع قيادات الدولة الرسمية ورؤساء الدول.
كان لهذه الأدوات والأساليب تأثير وتطابق بين رؤية المرجعية الدينية ورؤية الدولة الرسمية بخصوص القضايا المتعلقة بسياسة العراق الخارجية ولو بدرجات متفاوتة على حسب حجم وطبيعة القضايا عكس تأثير المرجعية على مجريات القضايا المتعلقة بالسياسة الداخلية العراقية، ولعل هذا الأمر طبيعي كونها جهة غير مخولة باتخاذ القرار السياسي الخارجي.
تجدر بنا الإشارة إلى أن تأثير واهتمام المرجعية في القضايا الخارجية لا ينفصل عن اهتمامها بالقضايا الداخلية، فالكثير من القضايا الداخلية مثل الدستور والانتخابات تتقاطع مع قضايا خارجية من باب تدويل المسألة العراقية. وبالتالي فإن استقرار السياسة الداخلية له دور مؤثر في نجاح واستقرار السياسة الخارجية العراقية.
بالإضافة إلى أن صانع القرار الخارجي يدرك تماما أن المرجعية باستطاعتها أن تغير موازين قرارات السياسة الخارجية من خلال الفتاوى الدينية وحشدها للجماهير للضغط على صانع القرار لإثنائه عن اتخاذ أي قرار سياسي خارجي لا يحظى بشعبية جماهيرية، وهذا ما ظهر جليا في استجابة الشعب العراقي بكافة أطيافه لفتوى الدفاع الكفائي التي صدرت عام 2014 ضد تنظيم "داعش" بعد تقدمها الجغرافي في المناطق الشمالية والغربية في العراق.
عابرة للحدود
ومع النمو المتزايد لمختلف أنواع الفاعلين من غير الدول، (اللادولتيين) في مختلف المجالات حسب اختصاصها وأهدافها، فمنها ما يختص بالجانب السياسي، أو الإنساني، أو الاقتصادي، أو الديني وغير ذلك، بحيث أصبح لهؤلاء الفاعلين تأثير خارج حدودهم الجغرافية بسبب مواكبة التطورات المجتمعية وزيادة أدوات تأثيرهم الإعلامية، نجد أن المرجعية الدينية ليست استثناء، بل أصبحت المرجعية من المؤسسات العابرة للحدود القومية، بسبب تمتعها بقوة تأثيرها الديني والسياسي خارج حدودها الجغرافية على أتباعها والمؤمنين بها.
فقد أصبحت المرجعية تتمتع بقوة تأثيرها الديني، وذلك بسبب وجود مقلدين ينتمون لمختلف دول العالم لتلقي تكاليفهم الشرعية من المرجع الديني، وبالتالي فإن تمركز المرجعية في دولة ما لا يعني أنها مختصة بشؤون مقلدي هذه الدولة وحيزهم الجغرافي فحسب، وإنما يرجع إليها المكلفون من مختلف دول العالم مما أضفى عليها تأثيرا عابرا للحدود القومية، فجميع مراجع الدين باختلاف مبانيهم الفقهية لهم تأثير ديني على مقلديهم وهذا من المسلمات لدى الشيعة الإمامية.
أما التأثير السياسي للمرجعية فيعتمد على الاختلافات في المباني الفقهية بين مراجع الدين، فالمرجع الديني الذي يتبنى مبدأ الولاية العامة للفقيه يكون تأثيره السياسي واضحا على أتباعه ومقلديه سواء عسكريا أم ماليا، بخلاف المرجع الذي يتبنى الولاية الخاصة للفقيه والمتمثلة حاليا في مرجعية النجف التي تنأى بنفسها عن التدخل في الشأن العام للدول الأخرى إلا في حدود توجيه النصح والإرشاد على الرغم من أن نسبة مقلديها عالية خاصة في الدول الخليجية، بل أفتت المرجعية بحرمة مخالفة القوانين الداخلية وحثت مقلديها على الالتزام بقوانين الوطن، وبالتالي فقد اقتصر تأثير مرجعية النجف الحالية على القضايا المتعلقة بالشأن الداخلي للعراق.
تعد المرجعية كما ذكرنا من المؤسسات غير الرسمية التي تنفرد ببعض الخصائص عن غيرها من المؤسسات، حيث تتسم المرجعية بالاستقلالية وعدم التبعية لأي جهة حكومية، وهي تعتمد على الاستقلالية الإدارية من خلال تقسيم أعمال الحوزة واشتمالها على لجان لتنظيم أعمالها، بالإضافة إلى استقلالها المالي عن طريق الحقوق الشرعية والأخماس وفقا للمذهب الجعفري. كذلك انفردت المرجعية بشرط الأعلمية وكيفية اختيار المرجع الديني مما أعطى للمرجع شخصية مستقلة وقيادة دينية مؤثرة لا توجد في غيرها من المؤسسات.
أدوار مختلفة
لقد لعبت المرجعية منذ تأسيسها أدوارا مؤثرة في القضايا السياسية الداخلية والدولية بنظامها التقليدي الحوزوي الموروث دون أن تتحول إلى نظامٍ مؤسسي على النمط الحديث، كما لا ننكر أن المرجعية شهدت تطورا مؤسسيا تدريجيا من خلال انتشار المؤسسات الدينية والثقافية التابعة لها في مختلف دول العالم أو من خلال المؤسسات التي ورثتها من السيد الخوئي كمؤسسة الخوئي على سبيل المثال والتي تعد من أهم المنظمات غير الحكومية والشيعية الوحيدة المعترف بها من قبل الأمم المتحدة في عام 1998 بصفة مستشار عام.
كما اتخذت المرجعية أذرعا إعلامية وعلاقات دولية من خلال المؤسسات الخارجية التابعة لها، أو من خلال رجال الدين الموجودين في شتى بقاع العالم أو السياسيين الذين يتصل عملهم بالسياسة العراقية، وهو ما يؤكد دور المرجعية في العلاقات الدولية بشكل عام والسياسة العراقية بوجه خاص، ولو اختفت تحت تسميات عديدة. وبالتالي كلما كانت المرجعية نظاما مؤسسيا محافظا على الثوابت الشرعية زاد دورها وحضورها الدولي في مختلف الأصعدة.
تواجه المرجعية النجفية في وقتنا الراهن عدة تحديات مختلفة من أهمها الاستقرار السياسي للعراق، لذلك تسعى المرجعية منذ تصديها للمشهد السياسي إلى المحافظة على استقرار الوضع الداخلي العراقي وخاصة أننا شاهدنا مؤخرا صراعات وعدم استقرار للوضع السياسي بين مجلس النواب والحكومة العراقية حول بعض المناصب والقضايا السياسية مما أدى إلى خروج الشعب العراقي في مظاهرات حاشدة مطالبين بتحسين الأوضاع والتغيير والإصلاح السياسي، والخدمي، والاقتصادي، وغيرها.
قامت المرجعية بالتزام الصمت وآثرت عدم التدخل والانحياز لطرف دون طرف من أجل الحفاظ على وحدة الصف وتجنب إراقة الدماء، بالإضافة إلى أن بعض الأطراف السياسية لم تستجب لتوجيهات المرجعية بإصلاح الوضع السياسي ومحاربة الفساد مما دفعها إلى إغلاق أبوابها في وجه جميع السياسيين من مختلف الطوائف وإلغاء الخطبة السياسية من صلاة الجمعة والتي تعد ضمن الوسائل الإعلامية لنقل توجيهات وآراء المرجعية.
من جملة التحديات التي تواجه المرجعية مسألة التجاذبات والصراعات الإقليمية والدولية على الأراضي العراقية التي أصبحت مؤخرا من جملة التحديات التي تهدد استقرار وسيادة العراق، وتسعى المرجعية في وقتنا الراهن إلى مغادرة قوات التحالف الأراضي العراقية التي زادت من حدة هذا الصراع في المنطقة.
كما أن التحديات المحلية والإقليمية والدولية التي تواجه العراق بشكل خاص والعالم بشكل عام، فرضت على المرجعية أن تفعّل وسائلها الإعلامية بشكل مكثف وأن يكون لها حضور ميداني واسع من خلال الحضور المباشر أو اللقاءات الخاصة أو البيانات التوجيهية.
إن تدخل المرجعية في القضايا السياسية بحسب ما تقتضيه المصلحة العامة للشعب العراقي دفع البعض إلى أن يدعوها إلى اعتماد مبدأ فصل الدين عن السياسة، وأن يقتصر دورها على الأمور الشرعية، إلا أن المرجعية كان لها رأي آخر، فاستطاعت أن تحقق الأمن والاستقرار في العراق ولو بشكل نسبي سواء اختلفنا أو اتفقنا مع طريقة وآلية عمل مرجعية النجف.