رأت الباحثة في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي نيكول غرايفسكي أن التزام روسيا بسوريا لم يتزعزع، بعدما سيطرت الفصائل الإرهابية المسلحة على حلب بشكل سريع.
إن تقدم المتمردين السوريين بقيادة هيئة تحرير الشام لا يعكس تدهور الاهتمام الروسي، لكن تدهور القوات البرية المتعددة الجنسيات التي تدعم الرئيس السوري بشار الأسد. وليس الأمر أن روسيا لا تفكر بالانسحاب من سوريا وحسب ــ بل هي تبدو مستعدة لمضاعفة استثماراتها هناك، حتى لو اضطرت إلى الاعتماد على القوات المدعومة من إيران، وتعاون القوى الإقليمية للقيام بذلك.
وكتبت غرايفسكي في مجلة "ذا أتلانتيك" أن سوريا مهمة لموسكو لأن التدخل هناك سنة 2015 سمح للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعكس رواية التراجع الروسي التي ترسخت منذ انهيار الاتحاد السوفييتي. لن تكون روسيا بعد الآن التي تجاهلها الرئيس باراك أوباما آنذاك ووصفها بأنها "قوة إقليمية" متراجعة، بل ستكون راعية حاسمة لحكم الأسد، وعلى هذا النحو، هي ستعيد كتابة دليل التدخل الخارجي في الشرق الأوسط. إن التدخلات التي قادتها الولايات المتحدة، مثل غزو العراق وحملة حلف شمال الأطلسي في ليبيا، حطمت الدول وأفرزت فوضى. كان لروسيا تأثير معاكس، إذ حافظت على السيادة السورية والنظام الإقليمي.
لفهم الموقف العسكري الروسي في سوريا، يجب الأخذ بالاعتبار أنه عندما تدخلت موسكو هناك لأول مرة في سبتمبر (أيلول) 2015، فعلت ذلك ببصمة خفيفة مدهشة وخطة طويلة الأمد لتحديث وتعزيز الجيش السوري. نشرت موسكو فقط ما بين 2500 إلى 4500 فرد في سوريا، مركزة على القوة الجوية والدفاعات الجوية والقوات الخاصة، في حين اعتمدت على إيران ووكلائها لتزويد القوات البرية. عبر العمل من قاعدة حميميم الجوية، دعم الطيران التكتيكي الروسي العمليات البرية. استهدفت القاذفات البعيدة المدى في روسيا كما السفن الحربية الروسية في البحر الأبيض المتوسط، مواقع عميقة داخل سوريا. وساهمت موسكو بأنظمة دفاع جوي متقدمة كأنظمة إس-400 وإس-300 وبانتسير، جنباً إلى جنب مع قدرات حربية إلكترونية.
وأرسلت موسكو بعض وحدات العمليات الخاصة والشرطة العسكرية والمستشارين وفرق المدفعية إلى سوريا. لكن لاستعادة الأراضي من المتمردين، اعتمدت بشكل شبه كامل على شبكة من القوات المدعومة من إيران، ومن ضمنها الحرس الثوري ووحدات الحشد الشعبي العراقية وميليشيات فاطميون الأفغانية وزينبيون الباكستانية وحزب الله.
وفي نهاية المطاف، سعى الكرملين إلى بناء الجيش العربي السوري كقوة قتالية محترفة قادرة على تأمين الحكومة السورية بشكل مستقل. وبدا نهج روسيا مستداماً - حتى في 2022، عندما أطلقت روسيا غزوها الكامل لأوكرانيا، وعدلت وجودها العسكري في سوريا حسب المقتضى. أعادت موسكو نشر بعض الطائرات ونظام الدفاع الجوي إس-300 في أوكرانيا، لكن قاعدة حميميم الجوية ظلت تعمل بشكل كبير. الأهم من ذلك هو أن الكرملين قلص وجوده الضئيل على الأرض، واعتمد بشكل أكبر من ذي قبل على القوات المدعومة من إيران التي نقل إليها بعض مراكز قيادته.
تغيرات
غيّر غزو أوكرانيا موقف موسكو في الشرق الأوسط بطريقة أخرى وفق الكاتبة. فمنذ انخراطها في سوريا، كانت موسكو توازن بدقة بين مطالب إيران وإسرائيل. في 2018، وافقت على إبقاء القوات الإيرانية على بعد نحو 50 ميلاً من مرتفعات الجولان. وبدأ غزو أوكرانيا بتحويل هذا التوازن، حيث دفع اعتماد موسكو على الطائرات الإيرانية بدون طيار إلى التقرب أكثر من المحور التابع لطهران.
ولم يمثل أي من هذا مشكلة كبيرة لروسيا، إلى أن هاجمت حماس إسرائيل في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023. ثم مع امتداد الصراع في غزة إلى المنطقة المحيطة، صعدت إسرائيل من استهداف مستودعات الأسلحة في سوريا إلى القضاء بشكل منهجي على أصول وأفراد إيران وحزب الله وهم من ذوي القيمة العالية هناك. ولم يعد بإمكان روسيا أن تظل محايدة تجاه الضربات الإسرائيلية، في حين تعمل على تعميق اعتمادها على القوات البرية المدعومة من إيران. وتفاقم الوضع مع تآكل حزب الله بسبب الهجوم الإسرائيلي على لبنان والذي كان في نهاية المطاف إحدى القوى التي اعتمدت عليها موسكو للحفاظ على الوضع الراهن في سوريا.
لكن هذه النكسات لن تدفع روسيا إلى الخروج من سوريا. فلدى الكرملين الكثير على المحك. استغل تدخله في سوريا كرافعة لإعادة بناء نفوذه في الشرق الأوسط، كما ضمنت موسكو عقوداً اقتصادية مربحة لإعادة إعمار سوريا.
خيارات روسيا
بالنظر إلى المخاطر، ستضطر موسكو إلى التكيف بدلاً من الانسحاب. من المرجح أن تسعى إلى تعزيز التعاون العسكري مع إيران، بما في ذلك عبر إيجاد دور للميليشيات والمجندين العراقيين في سوريا. وتشير التقارير إلى أن هذا يحدث بالفعل. كما كانت إيران تجند على قنوات تلغرام المقاتلين لتجديد ألويتها السورية. قد تساعد هذه التعزيزات في تعويض خسائر حزب الله، لكن من غير المرجح أن تكون فعالة كالحملة التي قادتها روسيا وإيران خلال هجوم حلب سنة 2016.
ومن المرجح أن تحاول روسيا أيضاً التفاوض مع تركيا، التي تدعم بعض الفصائل المسلحة. فمنذ يوم السبت، تجنبت موسكو بشكل غير معهود انتقاد تركيا بشأن أنشطة المتمردين. ويشير هذا التقييد الذاتي إلى أن روسيا تستعد لمبادرة دبلوماسية - ربما مبادرة تسمح لروسيا بالحفاظ على وجودها في بعض أجزاء سوريا، مع استيعاب المصالح التركية في الشمال الغربي.
وما كانت روسيا لتسعى إلى مثل هذا الترتيب، لو لم تكن ضعيفة عسكرياً. لم تفقد قوات الوكلاء الإيرانيين قوتها وحسب، فقوات الفصائل المسلحة في سوريا مجهزة ومنسقة بشكل أفضل بكثير مما كانت عليه سنة 2015. وإذا استمرت في التقدم إلى حمص من موقعها الحالي في حماة، فستفصل عملياً القواعد الروسية في اللاذقية وطرطوس عن الانتشار المتواضع لموسكو في أماكن أخرى من سوريا.
ليست مجرد أرض
لا يرى الكرملين أن الحرب في أوكرانيا تحل محل طموحاته في الشرق الأوسط، وذلك لأن سوريا ليست مجرد موقع عسكري. هي حجر الزاوية في مطالبة روسيا بوضع القوة العظمى، ومسرح يمكنها من تثبيت نفوذها الدبلوماسي وروايتها المضادة للتدخل الغربي. ربما تعدل موسكو تكتيكاتها لكن التخلي عن سوريا يعني التنازل عن شيء أثمن بكثير من الأرض، الموقف الذي اكتسبته روسيا بجهد كبير، كوسيط قوة لا غنى عنه في الشرق الأوسط.