×

  رؤى حول العراق

  تغيير سوريا... وعلاقات العراق المستقبلية مع واشنطن وطهران وأنقرة



 

*الشرق الاوسط-بغداد: حمزة مصطفى: لم تنتهِ، حتى بعد مرور شهرين على الزلزال السوري، ارتداداته على دول المنطقة والإقليم والعالم. ومع أن علاقات نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد كانت جيدة ظاهراً مع سلطات بغداد، وباطناً مع الفصائل العراقية المسلحة الموالية لإيران، تلتزم بغداد بقدر من الحذر إزاء التغيير «المفاجئ» في سوريا. وبقدر ما كان وضع النظام السوري السابق بالنسبة لبغداد مثار قلق بسبب تداخل تلك العلاقات مع عواصم تربطها ببغداد علاقات متباينة، منها طهران وأنقرة وواشنطن، فإن التغيير السوري لا بد أن يؤثر على الصلات المستقبلية بين العراق وهذه العواصم.

بغداد سعت دائماً إلى البقاء على مسافة متساوية مع دول «جارة» ومؤثرة، بعضها كان لها نفوذ في سوريا قبل التغيير، مثل إيران وتركيا وروسيا. واليوم يتزايد الاهتمام -وكذلك الحذر- بمستقبل العلاقات مع تركيا، التي تبدو المستفيد الأكبر، وإيران رغم خسارتها المدوية، وطبعاً إدارة دونالد ترمب الامريكية التي لديها مقاربات مختلفة ليس على صعيد سوريا، بل المنطقة والعالم.

وبناءً عليه، بات لزاماً على الحكومة العراقية رسم سياسة جديدة حيال هذه الدول، وكذلك الأخذ في الحساب الإشكاليات التي تحكم الحكومة مع الأطراف السياسية العراقية المتحالفة مع إيران، سواء تلك التي تنتمي إلى «الإطار التنسيقي الشيعي» الحاكم، أو الفصائل المسلحة الموالية لإيران. وكانت الأخيرة بدأت تعلن رفضها الصريح حل نفسها، أو حتى نزع سلاحها مثل «النجباء» و«أنصار الله الأوفياء».

في الوقت عينه، تريد الحكومة، التي يترأسها محمد شياع السوداني، بناء علاقة جيدة مع واشنطن رغم تكاليفها الباهظة، لا سيما طروحات ترمب على صعيدي غزة ولبنان و«الديانات الإبراهيمية» وغيرها من القضايا الحرجة.

 

تناقض تصريحات

اليوم، تسعى الحكومة العراقية إلى التعامل مع سلاح الفصائل وفق رؤية تخضعها لمنطق الدولة، في حين تعلن الفصائل دائماً مواقف مخالفة حيناً، ومواربة حيناً، حيال ما يجري. وبينما أعلنت بعض الفصائل، مثل حركة «النجباء» التي يتزعّمها أكرم الكعبي، «تعليق» عملياتها ضد إسرائيل والمصالح الامريكية، فإن فصيل «أنصار الله الأوفياء» أكد أنه لن ينزع سلاحه، ولن يحل نفسه.

الكلام عن حل الفصائل جاء إثر ورود «معلومات» بشأن تهديدات تلقتها بغداد من مبعوث خاص للرئيس الامريكي دونالد ترمب قبيل تنصيبه بنحو أسبوعين، إذ أوصل المبعوث رسالة امريكية واضحة حيال الفصائل المسلحة «التي يجب أن ينزع سلاحها»، وإلا فإنه لن تكون واشنطن قادرة على منع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من توجيه ضربات لها.

ولكن، بعيداً عن مضمون هذا التهديد الذي لم تؤكده الحكومة العراقية، ولم تنفه، كان رئيس الوزراء محمد شياع السوداني قد نجح سابقاً في منع إسرائيل من توجيه 3 ضربات للفصائل، من خلال وساطة مع الإدارة الامريكية خلال عهد الرئيس السابق جو بايدن. أما اللافت الآن، فإنه بعد إعلان زعيم «تيار الحكمة» عمار الحكيم، قبل تنصيب ترمب بنحو أسبوعين، أن الحكومة العراقية تلقّت تهديدات هدفها الضغط على الفصائل لنزع سلاحها، نفى وزير الخارجية فؤاد حسين، الاثنين الماضي، خلال ندوة حوارية في بغداد، سماع أي تهديدات من الإدارة الامريكية الجديدة.

بل ما يزيد الغموض، أن تصريح وزير الخارجية، النافي تلقي بغداد أي تهديدات تتعلّق بالفصائل المسلحة، وكلام الحكيم المؤكد وجود ضغوط وتهديدات، يتناقضان مع موقفين للرئيس العراقي عبد اللطيف رشيد ورئيس الوزراء السوداني.

السوداني، الذي كان قد زار إيران والتقى المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، سمع من الأخير كلاماً عن أهمية تقوية «الحشد الشعبي»، وأن العمل جارٍ «على دمج الفصائل المسلحة ضمن الأطر القانونية والمؤسساتية». لقد قال السوداني في كلمة له، إن «العراق له خصوصية في التعامل مع إرادة البقاء»، لافتاً إلى أن «العراقي من أكثر الشخصيات اعتداداً بنفسه... ولا يمكن أن يكون خاضعاً لأحد، أياً كان». وأردف: «تصوير بلدنا بأنه يتبع لأي دولة أمر يتنافى مع الشخصية التاريخية للعراق».

وفي سياق التناقض الكلامي بين كبار المسؤولين العراقيين، نقل عن الرئيس العراقي عبد اللطيف جمال رشيد قوله في حوار متلفز أن «الفصائل المسلحة باتت تأتمر بتوجيهات الحكومة... والحشد الشعبي هو جزء من القوات الأمنية، ولا يوجد مبرّر للحديث عن دمجه بوزارتي الدفاع والداخلية». ثم أضاف أن «الفصائل، هي فصائل عراقية، وقرارات الحكومة الأخيرة نصّت على أن كل نشاطاتها يجب أن تكون بتوجيه من الحكومة، ومنذ فترة هناك هدوء». وبيّن أن «بعض الفصائل مرتبطة بالحشد الشعبي، ومن ثم فهو جزء من القوات الأمنية».

وحول ما يُقال عن دمج الحشد الشعبي بوزارتي الدفاع والداخلية، أوضح رشيد أن «الحشد الشعبي جزء من القوات الأمنية، ولا يوجد مبرر لإثارة هذه الموضوعات، والحكومة مسيطرة على الوضع، ولا توجد مشكلات منذ فترة».

 

بغدادان أم بغداد واحدة؟

أما بالنسبة لسوريا، فقد أحدثت المفاجأة السورية إرباكاً في الكيفية التي يمكن أن تتعامل بها بغداد مع الرئيس الجديد في سوريا، أحمد الشرع، المعروف سابقاً بـ«أبو محمد الجولاني». وحقّاً، تعددت وجهات النظر العراقية على صعيد التعامل مع الوضع السوري الجديد، سواء على صعيد الداخل العراقي، أو من خلال علاقة بغداد مع كل من طهران وأنقرة، وأيضاً واشنطن التي تنظر للوضع السوري الجديد من خلال أكثر من منظور. فهناك علاقتها الاستراتيجية مع إسرائيل، وعلاقتها التحالفية مع تركيا، مع مواصلة دعمها «قسد» التي تحاربها تركيا. وبالطبع، هناك العلاقة العدائية بين طهران وواشنطن، وتداعياتها على بغداد.

لذا تبدو بغداد حائرة، بل لعلها في سياق علاقاتها الخارجية تبدو «بغدادين» لا بغداد واحدة... فهناك «بغداد الرسمية» وأيضاً «بغداد الموازية».

«بغداد الرسمية» تمثلها الحكومة وما معها من القوى السياسية، سواء من قبل الشركاء الكرد والعرب السنة؛ حيث هم مع الحكومة الرسمية التي يُهيمن عليها الشيعة، أو من قبل بعض قوى وقيادات «الإطار التنسيقي» الشيعي الذين يميلون إلى أن يكون للحكومة دورها الأول والرئيسي في التعامل مع ملفات الخارج.

وفي المقابل نجد «بغداد الموازية»، التي تتمثل في بعض قوى «الإطار التنسيقي» التي إما لديها علاقات تحالفية مع إيران منذ زمن المعارضة، ولم تتمكن من التخلي عنها... وإما تلك القوى التي تملك أجنحة مسلحة.

على صعيد العلاقة مع دمشق، لم تتقدم حكومة السوداني كثيراً في الملف السوري، باستثناء إعادة فتح السفارة العراقية في دمشق، وإرسال وفد أمني برئاسة مدير جهاز الاستخبارات. والسبب الرئيسي في ذلك يعود إلى قوة نفوذ العراق غير الرسمي أو الموازي الذي لا يزال يتأثر برؤية طهران إلى ما يجري في سوريا؛ نظراً للخسارة الكبيرة التي لحقت بإيران بعد سقوط نظام الأسد.

الأمر نفسه ينطبق على الوضع مع أنقرة، ففي حين تسعى حكومة السوداني إلى الوصول لتفاهمات ثنائية مع أنقرة على صعيد عدد من الملفات السياسية والاقتصادية، بما فيها طريق التنمية والمياه والشراكة الاقتصادية، فإن ثمة مَن يرى أن تركيا تتدخل في الشأن العراقي، عن طريق ملف «حزب العمال الكردستاني» الـ«ب ك ك». وللعلم، امتلك الحزب علاقات جيدة مع الفصائل المسلحة في منطقة سنجار، التي تعد إحدى العقد الاستراتيجية لطهران للوصول إلى سوريا قبل خروج سوريا من المعادلة تماماً. وبينما تشجع قوى كردية وسنية خطوات السوداني حيال تركيا فإن القوى السياسية الشيعية لا تؤيده.

في أي حال، تبدو العلاقة بين بغداد وكل من طهران وواشنطن هي الأكثر التباساً، وهي مع تعثرها بوصول دونالد ترمب إلى السلطة في البيت الأبيض فإنها ملتبسة على صعيد الموقف الامريكي من طهران، والموقف الإيراني من امريكا... وبينهما العراق، الحريص على ألا تكون أرضه ساحة لتصفية الحسابات بين الطرفين، والعامل ليكون وسيطاً أو ناقل رسائل أميناً بينهما.

خلال زيارة السوداني «الخير» إلى إيران، تضاربت الآراء حول إذا كان مكلفاً بصفته «وسيطاً» بنقل رسالة إلى القيادة الإيرانية، أو أنه نقل فقط تهديداً امريكياً إلى طهران. والحال، أن الموقف الرسمي العراقي بقي كما هو حيال العلاقة المشتبكة بين طهران وواشنطن ودور العراق فيها.

 

التعامل و«الرمانات الثلاث»

سياسي عراقي مستقل يرى أن «السبب في تحاشي توضيح الموقف الرسمي العراقي من إيران لجهة العلاقة مع الولايات المتحدة أو العكس... هو أن العراق يسعى لأن تظل علاقته متوازنة بين الطرفين، وفي الوقت نفسه أن يكون وسيطاً مقبولاً بينهما، ويسعى مرة ثالثة ألا يكون طرفاً في أي مواجهة محتملة».

ويضيف السياسي العراقي -الذي طلب إغفال ذكر اسمه- في حواره مع «الشرق الأوسط» أن «العراق كمن يحمل ثلاث رمانات في يد واحدة، وهي مهمة تبدو صعبة في وقت كان لا أحد يعرف توجهات ترمب في اليوم التالي بعد التنصيب».

وحول ما يبدو مواقف متضاربة بشأن الزيارة إلى طهران وما بعدها، خصوصاً بعد تنصيب ترمب، يقول السياسي العراقي «المشكلة التي باتت تواجه المسؤول الرسمي العراقي هي أنه بات يتعامل مع إيرانيين لا إيران واحدة. وهذا ما واجهه السوداني خلال زيارته إلى إيران».

ويوضح «بينما كانت مباحثات السوداني مع الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان طبيعية، وفيها مساحة واسعة من التعاطي مع مختلف الملفات، بدا لقاء المرشد الإيراني على خامنئي مختلفاً، إذ إن الأخير تدخّل حتى في دعوة السوداني إلى تعزيز الحشد الشعبي، الذي هو مؤسسة عراقية، وهو ما يعني أن خامنئي استفز الإدارة الامريكية الجديدة بشأن الموقف من الفصائل المسلحة».

وحقّاً، انعكس هذا التداخل على طبيعة الأمور داخل قوى «الإطار التنسيقي» الشيعي الحاكم، التي أخذت تتناقض مواقفها، سواء على صعيد حل الفصائل المسلحة أو على صعيد العلاقة المستقبلية مع ترمب.

وفي هذا السياق، يقول عضو البرلمان العراقي، علي نعمة، عن «الإطار التنسيقي» الشيعي، إنه لا توجد مخاوف لدى «الإطار» من سياسات الرئيس الامريكي دونالد ترمب. وأردف: «لا مخاوف عند (الإطار) من ترمب، والترويج لمخاوف بشأن فرض أي عقوبات على العراق أمر غير حقيقي، وبعيد عن الواقع».

ثم أضاف: «بغداد وواشنطن لديهما علاقات جيدة على مختلف الأصعدة، ونحن نسعى ونعمل على تعزيز تلك العلاقة خلال المرحلة المقبلة». وتابع: «الولايات المتحدة دولة مؤسسات، ولديها سياسة ثابتة في التعامل مع الدول. وتغير الرئيس الامريكي لا يعني تغير تلك السياسة، واتخاذ قرارات عدائية تجاه الدول الصديقة لواشنطن، ومن بينها العراق».

 

حساب الأكلاف والالتباسات العراقي مع تركيا

** علاقة بغداد مع إدارة الرئيس دونالد ترمب الجديدة، لا تزال محفوفة بمزيد من المخاوف كون مقاربة ترمب على صعيد العلاقة مع إيران لم تتضح بعد.

 وهو ما يعني استمرار القلق داخل العراق حيال هذا الأمر، لأن من شأن طبيعة علاقة طهران مع واشنطن تحديد مستقبل العلاقة مع بغداد. فرهاد علاء الدين، مستشار العلاقات الخارجية لرئيس الوزراء محمد شياع السوداني، كتب في «الشرق الأوسط» أخيراً أن بغداد «تريد بناء علاقة شراكة استراتيجية متكاملة مع واشنطن». وأضاف، في مقاله الذي حمل عنوان «العلاقة بين العراق وامريكا استراتيجية ومؤسساتية»، إن «العراق يمثل اليوم فرصاً كبيرة للشركات الامريكية في قطاع الطاقة؛ حيث تُجرى مناقشات مع شركات كبرى مثل (إكسون موبيل) و(شيفرون)، إلى جانب مبادرات تشمل شركات مثل (جنرال إلكتريك) و(بايكر هيوز) و(كي بي آر) و(هاليبرتون). وتُقدر قيمة المشاريع المخصصة للشركات الامريكية بعشرات المليارات من الدولارات خلال السنوات القليلة المقبلة. كما أعربت مؤسسات مالية، بما في ذلك بنك إكسيم (EXIM) وصندوق النقد الدولي، عن اهتمامها بدعم هذه الجهود».

وتابع: «من المتوقع أن يعلن رئيس الوزراء عن مبادرة مالية غير مسبوقة قد تُحدث تحولاً في بيئة الأعمال في العراق وتزيد من تعزيز علاقاته بالولايات المتحدة». هذه العلاقة التي لا تتأثر بما يمكن أن تكون عليه العلاقات مع تركيا، تتأثر كثيراً في العلاقة مع واشنطن، الأمر الذي يدفع العراق لأن يناغم وتوجهات ترمب الاقتصادية والتجارية أكثر من الملف السياسي. تركيا، من جهتها، أرسلت الأسبوع الماضي وزير خارجيتها هاكان فيدان إلى بغداد، وهي تريد لبغداد أن تتقدم خطوة على صعيد مشاركتها محاربة حزب العمال الكردستاني والتقدم خطوة أخرى باتجاه العلاقة مع دمشق. ومع أن لبغداد رؤيتها المختلفة عن رؤية تركيا على صعيدي حزب العمال أو الإدارة الجديدة في دمشق فإنها تتشارك مع تركيا على الصعيد الاقتصادي. ثم إن الملف التجاري هو لصالح تركيا لكون العراق مستورداً رئيساً للسلع التركية، ولذا يهم بغداد تحمّس أنقرة لطريق التنمية الذي يعول عليه العراق كثيراً في مستقبله الاقتصادي والتنموي.


02/02/2025