*زيد العلي
مجلة"The National"/ الترجمة والتحرير: محمد شيخ عثمان
في العراق، تصاحب نهاية كل دورة برلمانية حملة انتخابية مليئة بالمواقف الشعبوية التي تقوّض السياسات العامة والاقتصاد الوطني وأي مظهر من مظاهر الوحدة في البلاد. من المقرر إجراء الانتخابات البرلمانية العراقية المقبلة في نوفمبر/تشرين الثاني، وكما هو متوقع، بدأت الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة إقليم كردستان في أربيل بالفعل تبادل الاتهامات.
على مدار الأسابيع القليلة الماضية، انهارت جهودٌ استمرت عامين لتسوية نزاع مستمر حول إدارة موارد النفط والغاز، حيث سارع كلا الجانبين إلى حشد ما تبقى من قواعدهما العسكرية. في الشهر الماضي، أعلنت حكومة إقليم كردستان عن إبرامها عقودا جديدة مع موردين دوليين لزيادة إنتاج الغاز الطبيعي. رفضت بغداد هذه الترتيبات على الفور، وردّت جزئيا بقطع التحويلات المالية عن حكومة إقليم كردستان، مما يعني عمليا أنها لن تتمكن من دفع الرواتب الأساسية لموظفي القطاع العام. هذه هي المرة الثالثة التي تقطع فيها بغداد الدعم عن حكومة إقليم كردستان خلال العشرين عاما الماضية، مما سيكون له أثرٌ دائمٌ يصعب تجاوزه.
يعود النزاع حول الموارد الطبيعية إلى صياغة دستور عام 2005. وعلى الرغم من اعتماد النص في استفتاء حظي بتأييد 80 في المائة من السكان، فإن هيكله الفيدرالي للحكومة والأحكام المتعلقة بالموارد الطبيعية لا تمثل صفقة حقيقية بين القوى السياسية الرئيسية في البلاد، والتي استنكر الكثير منها النظام الفيدرالي فور دخوله حيز النفاذ في عام 2006. وهناك العديد من الحجج حول كيفية تفسير هذه الأحكام، لكن الحقيقة هي أن الغالبية العظمى من ساسة بغداد لا يتفقون مع طريقة كردستان في قراءة الأحكام ولم يتفقوا أبدا.
منذ ذلك الحين، سعت حكومة إقليم كردستان إلى بناء قطاع نفطي مستقل خاص بها، رغم إصرار بغداد على توقيع وزارة النفط الاتحادية جميع العقود الدولية. في عام ٢٠١٣، أبرمت حكومة إقليم كردستان اتفاقية غير قانونية مع الحكومة التركية، تسمح لها بموجبها باستخدام خط أنابيب مملوك بشكل مشترك لأنقرة وبغداد لتصدير نفطها دوليا (دون موافقة بغداد). أثار ذلك غضب الحكومة الاتحادية، ورفعت دعوى قضائية أمام محكمة دولية، حكمت لصالحها وأمرت تركيا بتنسيق جميع الصادرات المستقبلية مع وزارة النفط في بغداد، ودفع مليارات الدولارات كتعويضات للعراق.
الحقيقة هي أن هذه مشاكل تقنية يمكن إيجاد حلول لها إذا توفرت الإرادة السياسية الكافية لحلها.
ومنذ ذلك الحين، أصرت أنقرة على إبقاء خط الأنابيب مغلقا حتى تتفق بغداد وحكومة إقليم كردستان على سياسة نفطية مشتركة ، وهو الأمر الذي عجز الجانبان عن القيام به خلال العامين الماضيين.
يتضمن النزاع عددا من القضايا المعقدة التي تحتاج إلى حل، بما في ذلك ما يجب فعله بشأن الديون المستحقة على حكومة إقليم كردستان. لكن الحقيقة هي أن هذه مشاكل فنية، والحلول متاحة لها إذا توفرت الإرادة السياسية الكافية لحلها. وهذا هو أكثر ما افتقدته هذه الملحمة المؤسفة.
عندما بدأ النزاع عام ٢٠٠٥، كان ميزان القوى مختلا لصالح حكومة إقليم كردستان، ويعزى ذلك أساسا إلى الصراع الداخلي والخلل في بغداد. كانت لدى حكومة إقليم كردستان فرصة ذهبية للتوصل إلى اتفاق ملائم كان من شأنه أن يحظى بقبول بغداد أيضا. إلا أنها تجاوزت حدودها ودفعت باتجاه تسوية لم يكن من المرجح أن تقبلها بغداد على المدى البعيد.
بعد عقدين من الزمن، أصبحت بغداد الآن أقوى اقتصاديا وعسكريا من حكومة إقليم كردستان. ينتقل العديد من الشباب الكرد العراقيين إلى بغداد بحثا عن فرص اقتصادية، وهو أمر لم يكن ليخطر على بال قبل بضع سنوات. لدى الحكومة الاتحادية الآن فرصة لاستخدام نفوذها المكتسب حديثا للتفاوض على ترتيب جديد يتماشى مع مصالح كلا الجانبين. لكن بدلا من ذلك، يزداد التباعد بين الجانبين.
لطالما اعتمدت بغداد سياسة قائمة على حاجتها إلى الاستثمار الأجنبي لدعم الجهود الشاملة لإعادة بناء البنية التحتية الأساسية. وسواء شاءت بغداد أم أبت، لا تزال حكومة إقليم كردستان تتمتع بنفوذ دولي، لدرجة أن التوصل إلى حل ناجح لإدارة الموارد الطبيعية سيسهم بشكل كبير في تحقيق الأهداف الاقتصادية للحكومة الاتحادية، حتى في القضايا التي لا ترتبط مباشرة بحكومة إقليم كردستان.
ظلت السياسة الأمريكية تجاه العراق في هذا الشأن ثابتة على مر الزمن وتعاقب الإدارات.
ومؤخرا، لخص وزير الخارجية ماركو روبيو المسألة بإيجاز عندما قال إن الاقليم الكردي هو "الركيزة الأساسية لنهجنا تجاه العراق"، والذي يتضمن جزءا منه منح الكرد العراقيين "شريان الحياة الاقتصادي الذي يسمح لهم بالازدهار والنجاح".
من الخطأ الاستهانة بصعوبة التوصل إلى حل مرض، فلكي يكون أي اتفاق مستداما، يجب أن يستند إلى اتفاق سياسي شامل جديد حول ماهية الفيدرالية ومبادئها الأساسية.
لا تزال الفيدرالية في العراق غير محددة المعالم حتى الآن. لا يوجد اتفاق مشترك حول ماهيتها أو كيفية عملها. إذا كان هناك ما ينبغي على بغداد فعله، فهو الدخول في حوار هادف ومستمر مع حكومة إقليم كردستان لتعريف الفيدرالية ومبادئها الأساسية. وهذا يتطلب القبول بأن الفيدرالية يجب أن تقوم على أساس التضامن بين شعوبها ومناطقها، لا على انعدام الثقة والشعبوية.
إذا قبل هذا المبدأ البسيط، فإن النتيجة المباشرة هي أنه لا يمكن للحكومة الاتحادية، تحت أي ظرف من الظروف، قطع التحويلات الاتحادية عن حكومة إقليم كردستان أو أي جزء آخر من البلاد.
إن القيام بذلك هو معاقبة للسكان المحليين في حكومة إقليم كردستان على نزاع سياسي خارج عن سيطرتهم، مما يسبب ألما ومعاناة فورية للمواطنين الذين من المفترض أن يتمتعوا بحقوق متساوية في حياة كريمة.
قد تكون لدى بغداد مخاوف مشروعة في نزاعها مع حكومة إقليم كردستان، لكن عليها إيجاد وسائل أخرى للضغط.
ولإنصاف بغداد، فقد ترددت في الاستثمار بكثافة في علاقتها مع حكومة إقليم كردستان، نظرا للشكوك المستمرة بأنها ستحاول مرة أخرى الانفصال عن المركز في أقرب فرصة. ولا بد من معالجة هذه المخاوف أيضا إذا أردنا التوصل إلى اتفاق دائم.
في ظل هذا السياق، من غير المنطقي توقع أي تقدم في هذه المسألة قبل الانتخابات البرلمانية المقبلة. ولكن إذا كنا نأمل في حلّها، فعلى جميع الأطراف المعنية المضي قدما بعقل منفتح، وبحسن نية، وعلى أسس سليمة.
وإلا، فعلى قراء هذه المقالة أن يتوقعوا ظهور شكاوى ومناشدات مماثلة في هذه الصفحات مرة أخرى في عام ٢٠٢٩، قبيل الانتخابات البرلمانية المقبلة.