×

  رؤا

السيستاني ينتقد الميليشيات: الضغط لإعادة التوازن إلى المشهد السياسي العراقي

16/02/2025

مركز الامارات للسياسات

مركز الإمارات للسياسات هو مركز تفكير أُسِّس في مدينة أبوظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة في سبتمبر 2013، أي خلال الفترة التي شهدت اضطرابات ما يسمى "الربيع العربي"، ليدرس مهدِّدات الدولة الوطنية في المنطقة العربية والخليجية، سواء أكانت نابعة من الداخل أم من التفاعلات الإقليمية والدولية؛ وليستشرف مستقبل المنطقة، وتأثير المشاريع الجيوسياسية المختلفة فيها؛ وليرسم خريطة توزيع القوة في العالم والمنطقة وموقع دولة الإمارات في هذه الخريطة. https://epc.ae/ar/home

*وحدة الدراسات العراقية 20-11-2024

 

نقاط أساسية:

**وجَّه المرجع الشيعي الأعلى في العراق، السيد علي السيستاني، بعد أعوام من مقاطعة الطبقة السياسية، انتقادات عبر المقربين منه إلى "الإطار التنسيقي" الحاكم والمليشيات المرتبطة به، وإلى مؤسسات أمنية وقضائية.

**ينبع الموقف الجديد للسيستاني من إحساسه بخطر تفرُّد القوى الشيعية المقربة من إيران بالقرار السياسي العراقي، والاستيلاء على مقدرات الدولة، وتهديدها استقلالية المرجعية الشيعية ومؤسساتها الاقتصادية والاجتماعية والأمنية.

**من المرجح أن تتخذ مرجعية السيستاني خطوات لتفعيل دورها الضامن لاستعادة التوازن في المشهد السياسي عبر تحريك أدوات مختلفة، من بينها توجيه انتقادات تُفقِد أطراف أو مؤسسات غطاءها الشرعي، وتحريك الشارع باتجاهات محسوبة، ودعم مشاركة التيار الصدري في الانتخابات النيابية المقبلة.

 

استشراف الخطر المقبل

 بعد أكثر من أربعة أعوام على توقُّف المرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني عن التعليق شبه الأسبوعي على شؤون البلاد، من على منبر صلاة الجمعة من الحضرة الحسينية في كربلاء، بعث مؤخراً سلسلةً من الرسائل عبر المقربين منه انطوت على إشارات لافتة إلى نفاد صبره تجاه سياسات القوى السياسية المهيمنة على الحكومة والمليشيات الشيعية المرتبطة بها، فضلاً عن إدانات غير مسبوقة لأداء الأجهزة الأمنية والقضاء في العراق.

أدت مرجعية السيستاني دوراً مركزياً في مرحلة صوغ أدوات النظام السياسي العراقي ما بعد عام 2003، ابتداءً من تدخله المباشر في كتابة الدستور والحث على التصويت عليه، ودعم أول تكتل سياسي شيعي باسم "الائتلاف العراقي الموحد" في أول انتخابات نيابية شهدها العراق نهاية 2005.

وعلى الرغم من قرار السيستاني مقاطعة الطبقة السياسية والنأي عنها منذ العام 2012، بعد ظهور معالم الفشل والفساد والصراع الذي كان يمكن أن تنعكس آثاره على المكانة الروحية للمرجعية نفسها، فإن أدواته استمرت فعالة في ترتيب العملية السياسية وخطوطها الأساسية، وارتكزت رؤيته منذ ذلك الحين على الحفاظ على الحد الأدنى من توازن القوى بين الأطراف الشيعية الرئيسة ومشاركة الجميع في السلطة وترك تحديد الحصص لصندوق الانتخابات، والحيلولة دون هيمنة جهة واحدة مهما كانت على المشهد السياسي الشيعي أو التدخل لفرض التوازن، وهو ما ظهر في عدة مناسبات، ومنها على سبيل المثال:

*دعم السيستاني انقلاب حزب الدعوة الإسلامية على زعيمه نوري المالكي عام  2014 وحرمانه، بالتعاون مع مقتدى الصدر وعمار الحكيم، من رئاسة الحكومة للمرة الثالثة، والتي كان يمكن أن تجعل المالكي متفرداً في الحكم على حساب القوى الشيعية الأخرى.

*تزكية عادل عبد المهدي لتولي رئاسة الوزراء في إطار صفقة تقاسم السلطة بين التيار الصدري وبين الميليشيات والقوى الولائية عقب انتخابات عام  2018، بعد أن كاد الانقسام بينهما يقود إلى مواجهة مباشرة.

*دعم الشباب المنتفضين في حراك "تشرين 2019" ضد حكومة عبد المهدي، وإرسال رسالة مباشرة إلى عبد المهدي بالاستقالة، ما يشير إلى أن مرحلة تشرين كانت تمثل تهديداً جدياً للنظام السياسي برمته.

*السكوت عن انقلاب الإطار التنسيقي الشيعي على فوز التيار الصدري في انتخابات عام 2021 وإجهاض مشروع حكومة الأغلبية السياسية التي كان يمكن أن تجعل الصدر متفرداً في حكم الشيعة.

*التقرب من مقتدى الصدر واحتضانه بعد سحب أتباعه من البرلمان واعتزال العمل السياسي، لمنع تفرد قوى "الإطار التنسيقي" بالسلطة.

 وفي تلك النقطة الأخيرة تُمكن الإشارة إلى أن فشل نواب الحركات الناشئة، لاسيما المستقلون ونواب كتلة "إشراقة كانون" المحسوبة على ميثم الزيدي، قائد فرقة العباس القتالية، المقرب من السيستاني، في ملء ولو جزء من الفراغ الذي خلقه انسحاب الصدر، فضلاً عن تفكك حركة تشرين الاحتجاجية بوصفها عامل ضغط وتهديد للوسط السياسي الشيعي، خلق وضعاً خطيراً بالنسبة لمرجعية السيستاني التي كان التوازن بين القوى الشيعية مصدر استقرار لها.

ولا جديد في القول إن قوى الإطار التنسيقي الأكثر قرباً من إيران سابقت الزمن تحت عباءة حكومة محمد شياع السوداني، وفي ظل اختلال التوازن الشيعي الذي كان التيار الصدري طرفه التقليدي، لابتلاع الدولة والسيطرة على مقوماتها الأساسية والتمدد في المجالات الاقتصادية والأمنية والسياسية، الأمر الذي بدأ يهدد بتقويض الكيان الاقتصادي (اقتصاد الكفيل)، والأمني (حشد العتبات)، والاجتماعي الذي أنشأه السيستاني حول العتبات الشيعية، ليكون حاضنةً ودرعاً للمرجعية الدينية الشيعية التقليدية في النجف ورافعةً لمركزية دورها باعتبارها عاصمة للتشيع في العالم، مع وصول عدد الطلاب في مدارسها الدينية إلى أكثر من 30 ألف طالب عراقي وأجنبي، يدرسون ويعيشون مع عوائلهم على نفقة المؤسسات الثقافية التابعة للعتبات الشيعية التي تخضع لسلطة المرجع الشيعي الأعلى مباشرة.

وقد بانت ملامح خطر تفرد الميليشيات الولائية عبر تحريك أدواتها لإضعاف ألوية "حشد العتبات" التابعة للسيستاني، من طريق تجميد إجراءات فك ارتباطها عن هيئة الحشد الشعبي التي تهيمن القوى الولائية على قرارها وربطها مباشرةً برئيس الوزراء، والتدخل في شؤونها التنظيمية وزرع الانقسامات داخلها  والتضييق عليها مالياً إلى الحد الذي اضطر العتبة الحسينية إلى تولي دفع رواتب مقاتلي لواء "أنصار المرجعية"، أحد فصائل "حشد العتبات" الأربعة، بالإضافة إلى "فرقة العباس"، و"الإمام علي"، و"لواء علي الأكبر".

وأمام هذا التحدي، جاء التلويح بتحريك الشارع عبر دعوة حميد الياسري آمر لواء "أنصار المرجعية" إلى التظاهر في محافظة المثنى مطلع شهر يونيو الماضي، احتجاجاً على الفساد والدعوة إلى تعيين حاكم عسكري في المحافظة، وكان الأمر فيما يبدو أشبه بتنبيه الميليشيات الولائية وحلفائها إلى أن الواقع على الأرض يختلف عن الواقع الافتراضي الذي خلقته آلة الدعاية الولائية الممولة بسخاء من الخزينة العامة، وأن كل إجراءات الدعاية لنجاحات قوى الإطار في إدارة الدولة لن تمنع انفجار السخط الشعبي مرة أخرى وتحوله إلى تظاهرات واسعة على شاكلة "ثورة تشرين"، في حال وجدت الجماهير الغاضبة قيادةً جديدة مثل حميد الياسري، مدعومةً من السيستاني.

 

 رسائل مُبطَّنة

في مؤشر على أن حركة الياسري لم تكن خطوةً انفعالية مرتجلة، شرع السيستاني في إرسال رسائل تحذير أكثر وضوحاً حين نشر مكتبه الخاص جواباً مطولاً على "استفتاءات" لبعض المقلدين، فيما يخص ظاهرة انتشار المخدرات في العراق، أوضح فيها حرمة تعاطي المخدرات والاتجار بها، وقال إن المسؤول الذي يتهاون في مكافحة المخدرات عليه الاستقالة، قبل أن يضيف بأن "الجهات العليا التي بيدها زمام الأمور عليها مسؤولية كبرى في تطهير الأجهزة الأمنية والقضائية من الفاسدين والمفسدين"، وعُدَّ ذلك أقوى موقف نقدي يصدر عن المرجع الشيعي الأعلى، ليس تجاه هذا النشاط الإجرامي الذي يشكل أحد مصادر تمويل الميليشيات فحسب، وإنما ضد القضاء العراقي أيضاً.

والسؤال الأكثر إثارة كان عن موقف السيستاني من الاعترافات التي تُنتزَع من المتهمين تحت التعذيب، الذي أدانه السيستاني بأشد العبارات حين قال "وأما من يقوم بالوقيعة بالأبرياء ويعرّضهم للتعذيب لانتزاع الاعترافات الباطلة منهم طمعاً في بعض المال فإن الكلمات لا تفي ببيان ما يتحمله بذلك من الإثم والذنب".

 ولكون التعذيب ممارسة روتينية لدى الأجهزة الأمنية العراقية، لم تُفهَم الدلالة الخاصة لهذه الإشارة إلا بعد أيام، حين نشرت حسابات فرقة العباس القتالية، مقطع فيديو لـقائدها ميثم الزيدي يتحدث إلى جمع من مقاتلي الفرقة عن قضية قائد لواء في قوات الحشد الشعبي اُعتُقِلَ وعُذِّبَ وحكم عليه بالسجن ظلماً، مُوجهاً انتقادات لاذعة وغير مسبوقة إلى القضاء والقوى الأمنية. وجاء كل ذلك، بعد الضجة الإعلامية التي ثارت حول محاولات أطراف في الحشد الشعبي الاستيلاء بالقوة على قطعة أرض مملوكة لأسرة بغدادية في حي الجادرية وسط بغداد، وهي القضية ذاتها التي كان السيستاني تدخل شخصياً فيها قبل عدة أشهر عبر استقبال الأسرة المتضررة ودعوة السلطات المختصة إلى القيام بواجباتها في حفظ الأمن والقانون، ما دفع رئيس الوزراء إلى تكليف وزير الداخلية بتشكيل لجنة تحقيق عاجلة لمتابعة الجناة وإنصاف الأسرة من دون التوصل إلى نتائج.

تُعد هذه الرسائل القوية الأولى من نوعها التي تصدر من السيستاني منذ سنوات، لكن لا يبدو أنها أحدثت الأثر المرجو، فبعد أيام منها بُرِّئَ عمر نزار الضابط في قوات الرد السريع التابعة لقوات الشرطة الاتحادية المسيطر عليها من قبل ميليشيا "منظمة بدر"، والذي عُدَّ المتهم الأول في مجزرة جسر الزيتون عام 2019 في الناصرية التي قُتل وجرح فيها المئات من المتظاهرين، ما عدّه مراقبون خطوةً كبيرة أخرى باتجاه إغلاق ملف جرائم اغتيال الناشطين وقتل المتظاهرين، وتحدياً سافر للمرجع الأعلى من ناحية أخرى. كما أُعلن عن تأجيل محاكمة نور زهير المتهم الرئيس فيما عرف بقضية "سرقة الأمانات الضريبية" بسبب سفره إلى خارج البلاد، وهي القضية التي يُعتقد بأن زعامات سياسية شيعية رئيسة ضالعة فيها.

 

 خيارات متشابكة

على رغم أن مرجعية السيستاني لم تتجنب الانتقادات الصادرة من حركات مدنية واحتجاجية حول تمكينها الأحزاب الشيعية الطائفية من السلطة، ومنح الشرعية إلى المليشيات عبر فتوى "الجهاد الكفائي"، وعدم اتخاذ موقف حاسم من انخراطها في العمل السياسي بخلاف القانون وتحويلها هيئة الحشد إلى سلطة موازية لسلطة الحكومة الشرعية المنتخبة، إلا أنه لا أحد يشكك في قدرة السيستاني على ترتيب أوراق العملية السياسية وفي تحريك الشارع إذا اضطر لذلك، سواء في شكل مباشر أو غير مباشر، ما يسوغ الترقب الحذر لخطوات السيستاني المقبلة، وطريقة تعاطيه مع قضايا مثل التوازن الشيعي ودعم الدولة وتقويض المليشيات.

في المقابل، يرى المشككون أن الأوان قد فات لتدارك الأمور، لاسيما بعد التحولات في المشهد الإقليمي في العام الأخير، وانخراط العراق بشكل غير مسبوق في الاستراتيجية الإيرانية ما بعد "طوفان الأقصى" وانفتاحه أمام سناريوهات خطرة يتضمن بعضها المواجهة المباشرة والمفتوحة مع القوات الأمريكية وفي شكل أكثر خطورة مع إسرائيل.

وفي كل الأحوال، ما عادَ السيستاني الذي بلغ مؤخراً عامه الرابع والتسعين يملكُ رفاهية انتظار انقشاع التلبد الإقليمي من أجل التحرك لإعادة التوازن للعملية السياسية في العراق على الأقل، ومديات تلك التحركات قد تتراوح بين المزيد من التأثير في المعادلة الانتخابية عبر توسيع قاعدة المرشحين المقربين من المرجعية في الانتخابات من طريق تكريس تجربة "إشراقة كانون" أو إنتاج تجارب انتخابية جديدة، أو استمرار الضغط إعلامياً، أو دعم حركات احتجاجية بالتعاون مع الصدر أو من دونه، أو كل تلك الخيارات معاً.

ومن الجهة الأخرى، يمتد مجال تحرُّك المرجعية لاستعادة التوازن إلى حثّ مقتدى الصدر، الزعيم السياسي الوحيد الذي لا يزال على تواصل شخصي مع السيستاني، على كسر قرار اعتزال العمل السياسي، والتعاطي بواقعية مع ميزان القوى القائم، لاسيما في ظل دعوات نوري المالكي العلنية المتكررة للصدر بفتح صفحة جديدة في العلاقات وإعادة بناء التحالف القديم بين حزب الدعوة الإسلامية والتيار الصدري.

 

الاستنتاجات

تندرج تحركات مرجعية السيستاني منذ العام 2003 في نطاق صياغة معادلة تتيح استقرار الوضع العراقي وخصوصاً الشيعي، بما يسمح لمؤسسة المرجعية الاحتفاظ باستقلاليتها عن القرار السياسي للدولة، لكن سيطرة أي طرف شيعي على الدولة سيعني بالضرورة الحد من استقلالية المرجعية، وهذا ما بدأت بوادره تظهر أخيراً بعد سيطرة قوى الإطار التنسيقي على القرار السياسي في العراق، وقبل ذلك عند تمكُّن نوري المالكي (2006-2014) من فرض نفسه رئيس حكومة قادراً على ممارسة الضغوط على المرجعية أو تقويض سطوتها الروحية وإمكاناتها الاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي تتيح لها أن تكون بدورها اكثر استقلالية عن الأحزاب وعن إيران في معركة منتظرة لاختيار خليفة السيستاني.

وما يمكن افتراضه حول عدم قدرة المرجعية على التعايش مع أي نمط يهدد بالهيمنة السياسية على القرار العراقي، يجري تلمُّسه في سعيها المتواصل للتوصل إلى حالة توازن بين القوى الشيعية بصرف النظر عن خلفياتها، ما يسوغ عدم مساندة السيستاني لحقوق الصدر بتولي الحكومة بعد انتخابات 2021 عبر إقصاء "الإطار التنسيقي"، في مقابل عدم مساندة "الإطار" في سعيه لتحويل غياب الصدر عن المشهد السياسي إلى واقع دائم.

إن كل ذلك يُحيل إلى فرضية مفادها أن السيستاني يدعم أن تعيد الانتخابات المقبلة، سواء كانت مبكرة أو في موعدها، التوازن الى المشهد الشيعي، كما يُحيل إلى استخدامه الضغوط المناسبة لفرض ذلك ومنها التلويح بتحريك الشارع أو توجيه انتقادات تُفقِد أطراف أو مؤسسات غطاءها الشرعي، وأيضاً المضي قُدماً نحو دعم تيار سياسي معتدل ومتوازن مقرب من المرجعية يكون له دور أكثر فاعلية من دور "إشراقة كانون" في ضمان التوازن السياسي.

  مواضيع أخرى للمؤلف
←  السيستاني ينتقد الميليشيات: الضغط لإعادة التوازن إلى المشهد السياسي العراقي
←  الاندفاع التركي نحو التطبيع مع دمشق.. الدوافع والتوقعات
←  ​ثلاثة سيناريوهات محتملة لمسار المليشيات العراقية
←  طريـــــق غــــير مفــــروش بالــــورود
←  الصراع على رئاسة مجلس النوّاب.. ما الخطوة التالية؟
←  الوجود العسكري الأمريكي في العراق: هل بات انهاؤه مطروحاً على الطاولة؟
←  الأبعاد الجيوسياسية والاقتصادية لمشروع «طريق التنمية» وفُرص نجاحه
←  الحركة الصدريّة.. أزمة المرجعية الفقهية ورحلة البحث عن مرجع جديد
←  تداعيات قرار التحكيم الدولي بعدم قانونية تصدير نفط كردستان عبر تركيا