×

  رؤا

الهجوم الإسرائيلي على إيران: الدلالات والتداعيات والسيناريوهات المحتملة

17/06/2025

 

تريندز للبحوث والاستشارات/ قسم الدراسات الاستراتيجية

14-06-2025

في تطور لافت للنظر ومثير للتوتر في منطقة الشرق الأوسط، شنَّت إسرائيل، فجر يوم الجمعة، 13 يونيو الحالي، هجوما عسكريّا واسع النطاق على إيران، في عملية أَطلَقت عليها اسم “الأسد الصاعد” ، وُصِفت بأنها الأكبر على الإطلاق التي تتعرّض فيها طهران في تاريخ المواجهات بين البلدين، وأثارت الكثير من التساؤلات حول حدود تأثيرها وتداعياتها الإقليمية والدولية. وتعرِض هذه الورقة طبيعة هذه الهجمات، وأبعادها، وتداعياتها، وسيناريوهات المواجهة المحتملة بين البلدين ضمن نطاق تفاعلاتها، التي يبدو أنها قد تستمر أيّاما، أو حتى أسابيع.

 

أولا- ماذا حدث؟

وُصِفت عملية “الأسد الصامد”، وفقا للبيانات الرسمية الإسرائيلية، أنها تستهدف بشكل مباشر التهديد الإيراني لبقاء إسرائيل. وشارك في هذه العملية أكثر من 200 طائرة مقاتلة إسرائيلية، استهدفت أكثر من 100 هدف داخل الأراضي الإيرانية، من بينها منشآت نووية ومصانع صواريخ باليستية، إضافة إلى قادة عسكريين بارزين وعلماء ذرّة في إيران.

وأشارت وسائل إعلام إيرانية، وشهود عيان، إلى وقوع انفجارات، كان أبرزها في منشأة تخصيب اليورانيوم في نطنز.

 وفي المقابل، أعلنت إسرائيل حالة الطوارئ تحسّبا لهجمات صاروخية أو بطائرات مُسيّرة قد تنفّذها إيران كإجراء انتقامي.

وبالتزامن مع الضربات الجوية، كشف تقرير لموقع “أكسيوس”، نقلا عن مسؤول إسرائيلي، أن جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد) نفّذ عمليات تخريب سرّية داخل إيران استهدفت مواقع الصواريخ الاستراتيجية، والمنظومات الدفاعية الجوية الإيرانية.

وأسفرت الضربات الإسرائيلية عن خسائر بشرية ومادية كبيرة. فقد أعلن الحرس الثوري الإيراني مقتل قائده الأعلى، حسين سلامي، بينما أكدت وسائل إعلام رسمية مقتل عدد من القيادات العسكرية داخل مقارّ وحداتهم في طهران، بينهم رئيس أركان القوات المسلحة، وقائد الحرس الثوري، وقائد قيادة الطوارئ الإيرانية، فيما أفادت مصادر إسرائيلية بقتل أكثر من 20 من كبار القيادات العسكرية في إيران، من بينهم أيضا قائد قوات الجوفضائية، أمير علي حاجي زادة، في اختراق هو الأكبر في تاريخ إيران العسكرية.

من جهة أخرى، أكدت تقارير رسمية مقتل عدد من العلماء النوويين الإيرانيين، من بينهم فريدون عباسي ومحمد مهدي طهرانجي، إضافة إلى أربعة آخرين، ليرتفع عدد القتلى من العلماء النوويين إلى ستة. ومع ذلك، أوضحت الشركة الوطنية الإيرانية لتكرير وتوزيع النفط أن منشآت التكرير والتخزين لم تتعرّض لأي ضرر، وأن الأنشطة مستمرة كالمعتاد.

وبالنسبة لردود الأفعال الإقليمية، فقد جاءت كلّها منسجمة في رفضها للهجوم الإسرائيلي. فقد أدانت دول مجلس التعاون الخليجي، فرادى، الهجوم الإسرائيلي، معربة عن خشيتها من تداعياته السلبية على حالة الأمن الإقليمي المضطرب أصلا.

وعلى النسق نفسه، أدانت وزارة الخارجية المصرية الهجوم واعتبرته تصعيدا إقليميا خطيرا يقوّض الاستقرار في المنطقة.

 ولكن تركيا هاجمت العملية الإسرائيلية بقوة، حيث وصفها المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية بأنها “عدوان همجيّ” غير مشروع، محذّرا من أن استمرار التصعيد قد يؤدي إلى توتر أوسع لا يمكن احتواؤه بسهولة.

وعلى المستوى الدولي، أكدت الولايات المتحدة أنها لم تشارك في الهجوم الإسرائيلي، لكن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وصف العملية بالممتازة، وقال إن واشنطن تدعم إسرائيل كما لم يدعمها أحد من قبل. كما قال لصحيفة “وول ستريت جورنال”، إنه وفريقه كانوا على علم بخطط إسرائيل للهجوم على إيران. أما الأطراف الدولية الحليفة أو القريبة من إيران، وعلى رأسها روسيا والصين وكوريا الشمالية، فقد أعربت عن رفضها الشديد للعملية، معبرة عن مواقف حادة إزاء إسرائيل.

فقد أكدت وزارة الخارجية الروسية أن الضربة كانت “غير مبرَّرة” ووصفتها بأنها انتهاك صارخ لميثاق الأمم المتحدة، محذّرة من أن هذه التصرفات الأحادية قد تجرّ المنطقة إلى صراع مفتوح. من جهتها، أعربت الصين عن “قلق عميق” حيال العملية الإسرائيلية، داعية جميع الأطراف إلى خفض التصعيد والعودة إلى الحوار، مع التأكيد على رفض أي انتهاك لسيادة إيران.

أما المواقف الأوروبية، فقد اتّسمت بالدعوة إلى التهدئة ورفض التصعيد، وإنْ جاءت بنبرة أكثر دبلوماسية. فقد دعا الاتحاد الأوروبي، عبر الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، إلى “ضبط النفس الفوري”، مؤكدا أن التصعيد العسكري في هذا التوقيت الحسّاس قد يؤدي إلى عواقب وخيمة على الأمنّين الإقليمي والعالمي، منبها إلى أهمية استئناف المساعي الدبلوماسية.

وفي بريطانيا، عبّر رئيس الوزراء، كير ستارمر، عن “قلق بالغ” حيال التطورات، مطالبا بخفض التوتر بين تل أبيب وطهران، داعيا الحلفاء إلى العمل لمنع أي انفجار محتمل في الشرق الأوسط. وأعربت فرنسا عن موقف مشابه، حيث شدّدت على ضرورة الامتناع عن أي خطوات من شأنها أن تدفع المنطقة إلى نزاع مفتوح، معتبرة أن المسار الدبلوماسي لايزال متاحا، ويجب إعطاؤه الأولوية.

وعلى مستوى المنظمات الدولية، أدان الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، التصعيد العسكري في المنطقة، محذّرا من عواقب استمرار العنف.

 

ثانيا- الرد الإيراني المتوقع وتداعياته:

بُعيد انطلاق عملية “الأسد الصاعد”، سارعت طهران بالرد بإطلاق نحو 800 مُسيّرة وصاروخ كروز نحو إسرائيل، وفقا للمصادر الإيرانية، أو 100 مُسيّرة، وفقا للمصادر الإسرائيلية، مشيرة إلى أنّ العملية الإيرانية أُطلِق عليها مسمّى “عملية الوعد الصادق 3”.

وقد تمّ إفشال هذه العملية والتصدي لجميع الطائرات المُسيّرة الإيرانية حتى قبل دخولها الأجواء الإسرائيلية.  وفي الواقع، يتوقف حدوث الردّ الإيراني والردّ الإسرائيلي العكسي على عوامل عدة، وهي:

 

تقييم نتائج عملية “الأسد الصاعد”:

 بمعنى هل ستكتفي إسرائيل بما حقّقته من نتائج لضربات مفاجئة للمنشآت وللعسكريين والعلماء الإيرانيين، أم ستواصل ضرباتها بشكل متتالٍ، إلى حين تدمير كل المنشآت النووية عبر توجيه ضربات تعجيزية جديدة لتلك المنشآت، واغتيالها قادة الحرس الثوري الإيراني.

 

طبيعة رد الفعل الإيراني:

 بمعنى هل ستكتفي إيران بتوجيه المُسيّرات التي أطلقتها نحو إسرائيل، أم سوف تستمر في مهاجمة إسرائيل بوسائل وطرق مختلفة، خصوصا أن الضربات الأولى الإيرانية لم تُحقّق فعليا نجاحات ذات بأس على الأرض، وتم التصدي لمعظمها من قِبَل إسرائيل.

 

القدرات العسكرية الإيرانية:

 أُثيرت تساؤلات كثيرة حول عدم قدرة الدفاعات الجوية الإيرانية على التصدي لهذا الهجوم الواسع، في ظل امتلاك طهران منظومات دفاع جوي متطورة، ولاسيّما مع تسريع طهران مؤخرا وتيرة نشر أنظمة رادار OTH في مواقع استراتيجية، من أجل تعزيز قدراتها على الرصد بعيد المدى بشكل كبير، على مسافات تتجاوز 3000 كيلومتر[12]. وهنا تم طرح تفسيرات عدة، من بينها:

 

عنصر المفاجأة:

 الذي شكّل عاملا مهمّا في نجاح الضربات الإسرائيلية، من دون الحديث عن أن الهجوم الجويّ الإسرائيلي في أكتوبر 2024 أحدث أضرارا بالغة بأنظمة الدفاع الجوي؛ ما قد يجعلها غير فاعلة في حال وقوع ضربة إسرائيلية واسعة النطاق، وأضعف قدرة صناعة الصواريخ الباليستية الإيرانية.

 

اختراق الداخل الإيراني:

 من قِبَل عملاء إسرائيل الذين نجحوا في تحديد أماكن إقامة العسكريين والعلماء الإيرانيين بدِقّة متناهية.

 

وجود قوات إسرائيلية على الأراضي الإيرانية

 ذكرت “جيروزاليم بوست” أن إسرائيل أنشأت قاعدة مُسيّرات في الداخل الإيراني، وذلك على غرار ما فعلته أوكرانيا مؤخرا في روسيا.

 

تكنولوجيا التشويش والحرب الإلكترونية:

 التي استخدمتها إسرائيل في طائراتها ومسيراتها، والتي ساعدت على الهروب من رصد الرادارات الإيرانية.

تأكيد إسرائيل أنها استَخدمت قوات كوماندوز من داخل إيران في استهداف أنظمة الدفاع الجوي الإيرانية فضلا عن الاستهداف المباشر لها في الضربات الجوية الإسرائيلية الأولى.

 

موقف الحلفاء والداعمين:

 يُعدّ موقف الحلفاء والداعمين لكلا الطرفين في غاية الأهمية في استمرار المواجهة بين الدولتين، خصوصا أن إسرائيل تحظى بمباركة أمريكية، ودعم غربي، في حين لا تحظى إيران بالدعم ذاته من حلفائها التقليديّين، روسيا والصين، اللتين تتبنّيان موقف عدم التصعيد، وعدم جرّ المنطقة إلى حرب واسعة.

 

ثالثا- دلالات الهجوم الإسرائيلي وتداعياته

يشكّل الهجوم الإسرائيلي على إيران نقطة تحوّل استراتيجية في مشهد الصراع الإقليمي، ويحمِل دلالات عميقة تتجاوز كونه مجرد ضربة عسكرية. فمن الناحية السياسية، يعكس هذا الهجوم تحوّلا واضحا في عقيدة الردع الإسرائيلية، من سياسة “الغموض البنّاء” والضربات المحدودة، إلى استراتيجية الضربات الاستباقية Pre-emptive Strikes واسعة النطاق، التي تستهدف العمقَين الإيرانيّين العسكري والعلمي، في وقت لم يكن فيه هجوم مباشر وواسع النطاق من إيران قد وقَع.

أولى الدلالات الجوهرية لهذا الهجوم تَتمثّل في كسر الخطوط الحمراء التقليدية التي كانت تحكُم العلاقة بين إيران وإسرائيل منذ الثورة الإسلامية عام 1979.

فعلى مدار أكثر من أربعة عقود من العداء والتوتر، التزمت تل أبيب وطهران – ضمنيا – بضوابط غير مكتوبة تمنع الانزلاق إلى مواجهة شاملة، خصوصا عبر تجنّب توجيه ضربات مباشرة إلى العمق الإيراني، أو استهداف منشآت نووية وعلمية حساسة. لكن ما جرى في هجوم 13 يونيو 2025 شكّل تحوّلا جذريا، وخروجا علنيا على تلك المعادلات.

فتنفيذ إسرائيل عملية جوية ضخمة داخل إيران يُعدّ سابقة غير معهودة. ولم تقتصر الضربة على البنى التحتية، بل شملت اغتيال شخصيات بارزة في هرم القيادة العسكرية الإيرانية، من بينهم رئيس هيئة الأركان محمد باقري، وقائد الحرس الثوري حسين سلامي؛ وهو ما يُعدّ خرقا صريحا وغير مسبوق للخطوط الحمراء، التي لطالما منعت هذا المستوى من التصعيد. كما أنها استهدفت 25 عالما تم تأكيد مقتل اثنين منهم على الأقل.

لذا، تعكس هذه الخطوة تحوّلا في العقيدة الأمنية الإسرائيلية نحو نهج أكثر عدوانية، يقوم على توجيه ضربات استباقية مباشرة إلى قلب التهديد، حتى لو كلّف ذلك المجازفة بحرب واسعة. كما تشير إلى قناعة إسرائيلية بأن الردع التقليدي لم يعد كافيا، وأن المواجهة – مهما كانت كلفتها – أفضل من استمرار تراكم القدرات الإيرانية العسكرية والنووية، رغم أن المؤشرات تشير إلى أن إيران قريبة من امتلاك سلاح نووي.

 

رسائل حازمة موجّهة

علاوة على ذلك، يحمِل الهجوم رسائل حازمة موجّهة إلى كلّ من الداخل الإسرائيلي والدولي، خصوصا في ظل التحديات السياسية التي يواجهها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو؛ إذ يسعى الأخير إلى إعادة توجيه الانتباه من الأزمات الداخلية والخلافات الحزبية إلى “التهديد الإيراني”، بما يعزّز صورته كزعيم أمنيّ حازم. كما أن الرسالة الدولية موجّهة إلى كلّ من واشنطن وأوروبا، بأن إسرائيل لن تنتظر التوافقات الدبلوماسية أو نتائج المفاوضات النووية، وستتصرف بمفردها عندما ترى ذلك ضروريّا.

كما تكشف العملية الإسرائيلية عن اختراق استخباراتي إسرائيلي عميق داخل إيران، سواء من حيث دِقّة الأهداف أو من حيث استهداف شخصيات رفيعة مثل محمد باقري وحسين سلامي.

 وهذا في حدّ ذاته رسالة إلى النظام الإيراني بأن بنيته الأمنية والعسكرية ليست محصّنة، حتى في عمق العاصمة طهران.

فضلا على ذلك، يُمكن فهْم الهجوم الإسرائيلي على إيران في يونيو 2025 بوصفه محاولة واعية لإعادة رسم قواعد الاشتباك الإقليمي، التي ظلت لعقودٍ قائمة على مبدأ “الضربات المدروسة” و”الردود المحسوبة”. فإسرائيل، من خلال هذه العملية، لم تكتفِ برد على حدث معين، بل سعت إلى إعادة تعريف السقف المسموح به في معادلة الردع، وبعث رسالة مفادها أن أي تهديد مباشر أو غير مباشر لأمنها – سواء من إيران أو من أذرعها – سيُقابَل بردّ واسع وغير تقليدي. وفي السياق ذاته، فإنّ الهجوم لا يُخاطب إيران وحدها، بل يمتدّ إلى كافة وكلائها في المنطقة – من حزب الله في لبنان، إلى الحشد الشعبي في العراق، والحوثيين في اليمن.

 فإسرائيل تسعى من خلال هذا التصعيد إلى كبح قدرة إيران على إدارة المعركة بالوكالة، وحرمانها من “ترف” التصعيد غير المكلف؛ أي أن أي هجوم ضدّ إسرائيل – حتى إن نُفّذ بأيادٍ غير إيرانية – سيُحمّل إيران تبعاته بشكل مباشر.

في المجمل، تتخطى دلالات العملية الحسابات التكتيكية إلى رسم مشهد استراتيجي جديد، يُحتمل أن يعيد خلط أوراق النفوذ الإقليمي ويختبر حدود صبر الأطراف الكبرى، خصوصا إذا ما قادت هذه الضربة إلى تصعيد متبادل أو ردّ عسكري إيراني مباشر واسع على إسرائيل أو حلفائها، ولاسيّما بعد ما تبيَّن أن أمريكا ربّما أعطت الضوء الأخضر.

وسوف يكون للهجوم الإسرائيلي على إيران تداعيات كبيرة على الأمن الإقليمي في حال اتّسع نطاق الحرب والمواجهات، والمنطقة التي لطالما كانت ساحة للتجاذب بين طهران وخصومها؛ إذ إن وقوع مثل هذا الهجوم واسع النطاق يفتح الباب أمام سيناريوهات متعدّدة تتراوح بين التصعيد العسكري، والاشتباك بالوكالة، والضغطَين السياسي والأمني على دول المنطقة.

وقد يدفع الهجوم إيران إلى تفعيل وكلائها الإقليميين؛ في محاولة للرد غير المباشر على إسرائيل، وهذا يشمل ميليشيا حزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن، والحشد الشعبي في العراق، وربّما فصائل شيعية في سوريا.

 وقد شهدنا بالفعل إشارات أولية من الحوثيين بإدانة الضربة الإسرائيلية؛ ما يعزز احتمال انخراطهم في ردود متفرقة تشمل البحر الأحمر أو منشآت خليجية. ولكن الأمر السيء لإيران أن هذه الأذرع لم تعُد كما كانت من قبل، بل تم إضعافها بصور كبيرة؛ ما يلقي بالمسؤولية على طهران، التي يتعيّن عليها أن تقود المواجهة بشكل مباشر في حال قرّرت الرد.

علاوة على ذلك، سيكون أمن الممرات البحرية والتدفقات النفطية عرضة لخطر متزايد. فمضيق هرمز، شريان الطاقة العالمي، قد يتعرّض لتهديدات مباشرة من البحرية الإيرانية أو عبر أذرعها؛ ما سيؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط كما بدأ بالفعل بعد الهجوم، إذ ارتفع سعر خام برنت بنسبة تفوق 9%.

فضلا على ذلك، سيضع هذا الهجوم علاقات واشنطن مع حلفائها الإقليميين في موقف شديد التعقيد، ولاسيّما في الشرق الأوسط، حيث المصالح متشابكة، والحساسيات عالية.

فرغم النفي الرسمي للتورط المباشر في العملية، فإن مؤشرات عديدة – أبرزها تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب – تشير إلى تنسيق أو عِلم، أو حتى موافقة ضمنية أمريكية، على الضربات الإسرائيلية. ففي منشور له على منصة “تروث سوشيال”، حذّر ترامب إيران من أن “الهجمات القادمة المخطط لها ستكون أكثر وحشية”، معلنا أن “كميات كبيرة من الأسلحة الأمريكية الأكثر فتكا في العالم في طريقها إلى إسرائيل”، داعيا طهران إلى إبرام اتفاق “قبل ألا يبقى شيء” وإنقاذ ما تبقّى من “الإمبراطورية الفارسية”.

ولا تُعَدّ هذه التصريحات فقط غطاء سياسيا للهجوم الإسرائيلي، بل هي رسالة مباشرة لطهران بأن التصعيد القادم سيكون أوسع وأكثر دموية، وأن الولايات المتحدة مستعدة لتوفير غطاء ناري وتسليحي متقدّم، حتى وإن لم تكن هي من يضغط على الزناد. هذا الخطاب يعزز الرواية الإيرانية بأن إسرائيل لم تتحرك منفردة، بل ضمن توافق مع واشنطن؛ ما يجعل المصالح الأمريكية، التي يمكن لإيران أن تصل، محلّ استهداف.

وإذا ما قرّرت إيران الرد، فإنها قد تعتبر المصالح والقواعد الأمريكية جزءا من بنك الأهداف؛ الأمر الذي ينذر بتوسيع رقعة الصراع من مواجهة بين إيران وإسرائيل إلى اشتباك إقليمي واسع.

 

رابعا- السيناريوهات المحتملة:

تظل الصورة غير مكتملة والخلاصات المستنتجة غير دقيقة أو كافية، إلى أن يتضح بشكل دقيق مدى تأثير الضربة الإسرائيلية على المنشآت والمواقع الإيرانية، وإلى أن يتبلور بشكل يقيني حدود الرد الإيراني المحتمل. ومع ذلك يمكن الإشارة إلى السيناريوهات المحتملة التالية.

 

حرب شاملة:

طالما حذّرت إيران من أنّ أي هجوم إسرائيلي (أو أمريكي أو منسّق بين إسرائيل والولايات المتحدة) على منشآتها النووية سوف يُفضي إلى حربٍ شاملة. والواقع أنّ العملية الإسرائيلية تجاوزت مجرد الهجوم على المنشآت النووية الإيرانية لتطال برنامج الصواريخ الباليستية والقيادات العسكرية رفيعة المستوى وعلماء نويين ومناطق سكنية في قلب العاصمة طهران؛ ما دفع بعض المراقبين إلى الإشارة إلى هذا السيناريو.

وفي ظل هذا السيناريو، سوف تواصل إسرائيل ضرباتها للعمق الإيراني، وتقوم إيران بالرد وتستعين بحلفائها التقليديين، خصوصا جماعة الحوثي والميليشيات العراقية، التي عملت إسرائيل على إضعافهم خلال الفترة الماضية. وفي ظل هذا السيناريو سوف تستمر المواجهة بين إيران وإسرائيل لعدة أسابيع أو أشهر، تشهد خلالها المنطقة اضطرابات أمنية وعسكرية غير متوقعة، وتتوقف المفاوضات الإيرانية الأمريكية حول البرنامج النووي الإيراني.

ولكن دون هذا السيناريو الشامل عقبات كثيرة، يتعلق أهمها بالتزام الولايات المتحدة بالدفاع عن إسرائيل في حالة اندلاع حرب مفتوحة بينها وبين إيران، وضعف قدرات الدفاع الجوي الإيراني، ولاسيّما بفعل هجوم أكتوبر 2024 الإسرائيلي عليها، وتضعضع القدرات العسكرية، بما في ذلك قدرات الحرب اللامتماثلة، لوكلاء إيران، وعدم استعداد الطرفين بالجملة للتورط في حربٍ مفتوحة.

 

المواجهة المحدودة:

يتمثّل هذا السيناريو في استمرار توجيه إسرائيل ضربات عدة أخرى للمنشآت النووية وللعلماء وللبرنامج الإيراني للصواريخ البالستية. وبدروها، وكرد فعل لحفظ ماء الوجه، تقوم إيران بتوجيه مئات المُسيّرات والصواريخ نحو إسرائيل، التي يتم التصدي لمعظمها على الأراضي الأردنية والعراقية، وذلك من خلال تصدّي القوات الأمريكية والفرنسية والبريطانية المتواجدة في المنطقة لها.  وفي ظل هذا السيناريو، سوف تضغط الولايات المتحدة على إيران لعدم التصعيد، مقابل التزام إسرائيل بعدم توجيه ضربات جديدة لإيران، على أن يتم تسريع عملية المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني مع الولايات المتحدة الأمريكية.

ومع ذلك، يدفع البعض بأنّ المواجهة العسكرية المباشرة بين إيران وإسرائيل تتجه إلى صراعٍ مفتوح، يأخذ بعض الوقت، من الهجمات والهجمات المضادة، ولكن في إطار محكوم بمعنى ألا يُفضي إلى مواجهةٍ شاملة. وفي ظل شروع إيران بالفعل في الرد على عملية “الأسد الصامد” الإسرائيلية. وفي أسوأ حالات هذا السيناريو، يلِج الصراع الإسرائيلي-الإيراني في حلقة مفرغة من الهجوم والهجوم المضاد.

 

الانخراط الأمريكي:

كما بيّنا، نفَت الولايات المتحدة تورطها أو تنسيقها مع إسرائيل في الهجوم على إيران. ومع ذلك، وصف مصدر مقرب من مكتب نتنياهو هذه الأجواء بأنها “ستار دخاني مثالي”، مؤكدا أن المسؤولين الأمريكيين كانوا مطلعين بالكامل على الخطة رغم المسرحيات الإعلامية.

 ولكن الانخراط الأمريكي في أي عمليات عسكرية ضد إيران قد يكون مشروطا بمهاجمة الأخيرة للقوات والقواعد الأمريكية في المنطقة، أو اندلاع حرب شاملة مع إسرائيل، أو انسحاب إيران من المفاوضات النووية، التي من المقرر أن تنتظم جولتها السادسة في 15 يونيو المقبل. وبما أنّ أيا من هذه الشروط ذو احتمال ضئيل في التحقق، فإنه يُستبعد أي انخراط أمريكي مباشر في أي عمليات عسكرية ضد إيران، اللهم إلا في إطار مساعدة إسرائيل في الدفاع ضد الهجمات الجوية والصاروخية الإيرانية.

 

سيناريو أكتوبر 2024:

تشير تطورات الأحداث إلى سيناريو مشابه لما حصل في أكتوبر من العام المنصرم، حينما شنّت إيران هجوما بالمسّيرات والصواريخ الباليستية ردا على الاستهداف الإسرائيلي رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، في طهران واغتيال زعيم حزب الله، حسن نصر الله، أعقبه هجوم إسرائيلي. ومن ثم، انتهت العمليات العسكرية.

بيد أننا سوف نشهد، وهو المرجّح، سيناريو أقوى ممّا حدث في أكتوبر 2024 دون المواجهة الشاملة؛ بمعنى أن إيران ستسعى إلى الرد بطريقة تُبقي على هامش التصعيد، مع التصعيد بشكل لا متماثل؛ كالإيعاز للحوثيين باستهداف مواقع وموانئ إسرائيلية بالمُسيّرات والصواريخ الباليستية.

  مواضيع أخرى للمؤلف
←  الهجوم الإسرائيلي على إيران: الدلالات والتداعيات والسيناريوهات المحتملة
←  الاتفاق الالماني- البريطاني وتقاسم التهديدات
←  العالم بعد فوز دونالد ترامب
←  الشرق الأوسط في الاستراتيجية الأمريكية: مصالح حيوية وتحديات معقدة
←  عصر طرق الحرير الجديدة في الشرق الأوسط
←  انسحاب بايدن وسيناريوهات وصول هاريس إلى البيت الأبيض
←  المناظرة الرئاسية الأولى بين جو بايدن وترامب.. القضايا والتداعيات
←  مصرع الرئيس الإيراني.. الأبعاد والتداعيات والسيناريوهات المحتملة
←  حدود وتأثيرات التصعيد الإيراني الإسرائيلي المتبادل
←  د. سرحد سها كوبكجوغلو:مشروع طريق التنمية العراقي التركي
←  الاتجاهات الاستراتيجية في عام 2024
←  بريكس والسعي لنظام متعدد الأطراف.. التطلعات والتحديات
←  بريكس والدعوة إلى إعادة التوازن للنظام الدولي
←  ​آثارالانتخابات على الحرب في اوكرانيا ومنطقة الخليج العربي وسوريا
←  تحوُّلات أولويّات الاستهداف عند التنظيمات الإرهابيّة
←  عودة العلاقات السعودية – الإيرانية.. أبعاد الاتفاق والانعكاسات المحتملة
←  دور الأناشيد “الجهادية” في الاستقطاب الرقمي
←  غياب المراجعة الفكرية لـ “الإخوان” وحضور التراجع السياسي منير أديب
←  الأمن النووي… قلق عالمي دائم
←  تراجع حركة النهضة التونسية.. الأسباب والدلالات
←  حرب الرقائق.. اختبار رئيسي لهيمنة أمريكا الاقتصادية
←  الأمن السيبراني في 2023: تحولات وتحديات عصر الذكاء الاصطناعي
←  أوجه التشابه بين “الإخوان المسلمين” و”إخوان الصفا”: تعاليم ورسائل سياسوية باسم الدين
←  أنظمة الإنذار المبكر ودورها في التصدي للإرهاب
←  قيود طالبان على المرأة ومستقبل الإرهاب في أفغانستان
←  بغداد ـ واشنطن.. المسار المعقد في حكومة السوداني
←  جزر المحيط الهادي.. منطقة متجددة للصراع الجيوسياسي بين واشنطن وبكين
←  العراق: ما بعد انتخاب الرئيس
←  الانتخابات النصفية 2022 وصراع السيطرة على الكونغرس
←  العلاقات التركية-الأمريكية.. فرص التقارب وتحدياته ومكاسب متبادلة
←  دلالات مقتل زعيم تنظيم الدولة وأبعاده
←  التنمية المستدامة والمواطنة الصالحة