تمثل العلاقة بين العراق والولايات المتحدة الأمريكية مساحة جدل سياسي دائم، ونقطة تستحق التوقف عندها مع كل حكومة تتشكل في العراق أو مع طبيعة الإدارات الأمريكية سواء أكانت ديمقراطية أو جمهورية؛ لِما لِواشنطن من أثر على الحكومات العراقية في تحديد بوصلة مواقفها تجاه عدد من الملفات وضبطها، سواء كانت داخلية أو خارجية، فضلًا عن أن تشكيل حكومة محمد شياع السوداني رئيس مجلس الوزراء العراقي يتزامن مع العودة الأمريكية إلى منطقة الخليج العربي ومنطقة الشرق الأوسط بشكل عام وأهمية العراق للولايات المتحدة الأمريكية في هذا الوقت بشكل خاص، ما يدفعنا إلى دراسة مستوى العلاقة المتوقعة بين الطرفين في ضوء عدد من المحددات، منها معطيات هذه العلاقة في الحكومات السابقة، وخارطة الطريق التي رسمتها اتفاقية الإطار الاستراتيجي، والرؤية الأمريكية لحكومة السوداني المدعومة من حلفاء إيران، وطبيعة الدور الإيراني في العراق وضبطها لهذه العلاقة، فضلًا عن طبيعة المتغيرات الإقليمية والدولية التي مهدت إلى تشكيل مسار أمريكي متفاعل مع العراق. وقد يكون من المهم أن تجيب هذه الدراسة عن المدى الذي يمكن أن تصل إليه علاقة بغداد وواشنطن في ظل مجموعة تحديات يمكن أن تواجه الطرفين.
أولًا- إرث من الصداقة والتوتر:
منذ غزو الولايات المتحدة الأمريكية للعراق في 9 نيسان/إبريل 2003، شهدت العلاقات بين البلدين تباينًا في مستوياتها من التقارب والتباعد، فبعد التغيير في النظام أصبحت واشنطن صاحبة النفوذ المؤثر في العراق بحكم الأمر الواقع، وبعد إعلان الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن في 1 أيار/مايو 2003 انتهاء العمليات العسكرية في العراق(1)، عاد ليؤكد على عزم الولايات المتحدة الأمريكية تحقيق النصر في العراق، عندما ذكر في خطاب ألقاه في 30 تشرين الثاني/نوفمبر 2005: “سوف يتم تحقيق النصر بتوفر العزيمة، ولكن ليس في موعد محدد ولم يسبق أن تم تحقيق النصر في أي حرب في السابق بناءً على جدول زمني ولن يحدث ذلك في هذه الحرب أيضًا”(2).
إن هدف تحقيق هزيمة الإرهاب في العراق كان عنصرًا رئيسًا في الحرب الطويلة ضد الإرهاب الدولي وفق الاعتقاد الأمريكي، وقد وضعت لتحقيقه ثلاثة مسارات:
1- المسار السياسي الذي يتمثل في إنجاح نظام سياسي يتبنى الديمقراطية، وقادر على ضمان حقوق جميع المواطنين.
2- المسار الأمني الذي يتمثل في العمل على هزيمة الإرهاب، وبناء القوات الأمنية العراقية وتطويرها.
3- المسار الاقتصادي الذي يتمثل في إيجاد اقتصاد قوي ناجح قادر على الاستمرار، دون الحاجة إلى مساعدات خارجية.
إن ما اتبعته الولايات المتحدة الأمريكية من سياسة في العراق منذ العام 2003 إلى غاية الآن لا يشير إلى أنها نجحت في دعم الاستقرار السياسي، بقدر ما تبنت سياسة تضمن عدم حسم الملفات بين الأطراف وبقائها إلى أطول مدة ممكنة. وهو ما نتج عنه حالة من الإرباك في الوضع السياسي العراقي، الذي انعكس سلبًا على مختلف القطاعات وبشكل أساسي وأكثر وضوحًا في الوضع الأمني. وهناك من يرى أن الولايات المتحدة الأمريكية قد ارتكبت العديد من الأخطاء في العراق، مستندين في ذلك إلى إقرار العديد من المسؤولين الأمريكيين بارتكاب العديد من الأخطاء في العراق بسبب عدم فهمهم للواقع العراقي، وعدم وجود خطة بعد انتهاء العمليات العسكرية. غير أن الأمر قد يكون عكس ذلك تمامًا، وأنه تم بموجب خطة ورؤية واضحة لصانعي السياسة الأمريكية، تهدف إلى إشاعة نوع من الفوضى لإرباك الحكومة العراقية، وتغذية الخلافات السياسية بين الأطراف بما يضمن تعزيز حالة انعدام الثقة بينها، وتزايد مخاوف كل طرف من الطرف الآخر وبما يضمن الحاجة إلى واشنطن كطرف ضامن.
وبحسب وجهة النظر الأمريكية حددت طبيعة العلاقات العراقية – الأمريكية بما تم توقيعه من اتفاقية – الإطار الاستراتيجي، التي وقعت عام 2008 في عهد حكومة نوري المالكي وتعنى بالعلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية مع العراق، والاتفاقية الأمنية المعروفة باسم اتفاقية وضع القوات، ويفترض أن هذه اتفاقيات توفر ضمانة كافية لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية في العراق والمنطقة، ومن جانب آخر تساعد العراق على تخطي التحديات التي يواجهها، وفرض سيادته وتعزيزها.
عملت الولايات المتحدة الأمريكية، بعد تولي الرئيس باراك أوباما السلطة في 20 كانون الثاني/يناير 2009، بشكل تدريجي عل خفض العديد من قواتها العسكرية في العراق، مع تنامي قدرات القوات العسكرية والأمنية العراقية، إذ أعلن الرئيس أوباما، أثناء خطاب له في كامب ليجون في 27 شباط/فبراير 2009 (3)، أن المهمة القتالية للقوات الأمريكية في العراق ستنتهي في 31 كانون الأول/ديسمبر 2011.
أثرت مجموعة من الأسباب على تراجع الاهتمام الأمريكي بالعراق، إذ إن الاستراتيجية التي تبناها الرئيس السابق باراك أوباما استندت إلى التخلي عن فكرة أن التهديدات الأمنية ترتبط جوهريًا بالحلول العسكرية لا السياسية، وإعطاء مجال أوسع للدبلوماسية النشطة، فضلًا عن الاهتمام الأمريكي المتزايد بمواجهة قضايا ذات تأثير مباشر بمكانة الولايات المتحدة الأمريكية. ومن هذه القضايا الأزمة المالية، وكيفية التعامل مع القوى الصاعدة التي تؤثر في مكانة الولايات المتحدة الأمريكية على المستوى العالمي. وفي الوقت الذي يرى فيه الرئيس السابق أوباما أن الولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة الوحيدة التي تمتلك مقومات القيادة العالمية، فإنه لا يرى ضرورة للتعبير عنها بالقوة العسكرية، وإقحامها في قضايا دون توافر رؤية واضحة، مما يمكن أن يرهق القوة العسكرية بتدخلات غير محددة الأهداف، ولهذا اتبع الرئيس أوباما سياسة مفادها التوجه إلى الداخل وتقليل الالتزامات الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية.
بعد الأحداث التي حصلت في الموصل في 10 حزيران/يونيو 2014 وسيطرة تنظيم داعش الإرهابي على المحافظة وما تلاها من أحداث تمثلت في سيطرة التنظيم على محافظتي صلاح الدين والأنبار، وأجزاء من محافظتي كركوك وديالى، وتواجده في عدد من المناطق المحيطة بالعاصمة بغداد، وما مثلته تلك الأحداث والتطورات من خطورة كبيرة على وحدة العراق وسيادته، فضلًا عما يمثله من خطورة على دول المنطقة والعالم، كان من المفروض أن تشكل مرحلة جديدة في التعاون بين العراق والولايات المتحدة الأمريكية، وهذا الفرض يستند إلى عدد من المعطيات منها اتفاق الإطار الاستراتيجي بين العراق والولايات المتحدة الأمريكية، كما أن المصلحة الأمريكية تتطلب نجاح تجربة التغيير في العراق ونجاح عمليته السياسية وتجربته الديمقراطية، وعلى الرغم من موافقة الرئيس الأمريكي باراك أوباما في شهر آب/أغسطس2014، أي بعد مرور نحو شهرين على سيطرة تنظيم داعش على الموصل وصلاح الدين والمدن الأخرى، على تنفيذ ضربات جوية ضد تنظيم داعش، فإن حجم الدعم الأمريكي للعراق بموجب الاتفاق الموقّع لم يكن بمستوى المخاطر والتهديدات الإرهابية التي تعرض لها العراق، نتيجة الاعتقاد الأمريكي بأن حكومة نوري المالكي كانت تنفذ سياسة إيرانية في العراق والمنطقة.
بعد تولي حيدر العبادي رئاسة الوزراء في العراق في 9 أيلول/سبتمبر 2014، تطورت العلاقة بين البلدين بشكل إيجابي على المستوى الأمني والسياسي، إلا أن إصدار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمرًا تنفيذيًا بتاريخ 27 كانون الأول/ديسمبر 2016 يتضمن حظر دخول مواطني سبع دول من ضمنها العراق إلى الولايات المتحدة (4)، شكلت رؤية أمريكية جديدة لتعاطيها مع العراق الذي رفض القرار، وأدى إلى تراجع الرئيس ترامب فيما بعد باستثناء العراق من هذا الحظر.
تدهورت العلاقة بين واشنطن وبغداد في عهد حكومة عادل عبد المهدي، على الرغم من محاولات عبد المهدي التودد إلى إدارة ترامب إلى حد طلب زيارة البيت الأبيض، فإن طلبه لم يتم الاستجابة له لكونه مدعومًا من إيران وتم تنصيبه من قِبل قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني وحلفاء إيران السياسيين والفصائل المسلحة، مما كان ينذر بمواجهات مفتوحة خصوصًا في ظل توتر العلاقة بين واشنطن وطهران على خلفية الملف النووي الإيراني، ووصلت ذروة المواجهة في 31 كانون الأول/ديسمبر 2019عندما هاجم آلاف العراقيين من أنصار الفصائل شبه العسكرية الموالية لإيران، السفارة الأمريكية في بغداد احتجاجًا على قصف أمريكي لأحد فصائل الحشد الشعبي(5)، أوقع عددًا من القتلى، وكان هذا القصف ردًا على إطلاق عشرات الصواريخ على منشآت للجيش الأمريكي في العراق. وفي الثالث من كانون الثاني/يناير 2020، قُتل قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوي الإيراني ومبعوث طهران إلى بغداد، وأبو مهدي المهندس، نائب رئيس الحشد الشعبي، في غارة أمريكية قرب مطار بغداد (6). وردّت إيران بعد أيام قليلة بإطلاق صواريخ على قاعدتين يتمركز فيهما جنود أمريكيون في العراق. وعلى أثر ذلك طلب مجلس النواب العراقي ذو الأغلبية لحلفاء إيران، قرارًا من الحكومة بإنهاء وجود القوات الأجنبية في البلاد، حيث كان يتمركز 5000 جندي أمريكي على الأراضي العراقية، إلا أنه لم يُنفَّذ من حكومة عادل عبد المهدي، التي تعاطت مع القرار ببراغماتية سياسية وورقة ضغط للقبول به للعب دور الوسيط بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية.
عادت العلاقات لتشهد مسارًا جديدًا بعد تولي مصطفى الكاظمي رئاسة الوزراء في أيار/مايو 2020، إذ زار الأخير واشنطن مرتين، الأولى التقى فيها الرئيس ترامب في 20 آب/أغسطس 2020 والثانية التقى فيها الرئيس بايدن في 26 تموز/يوليو2021، وسعى الكاظمي إلى أن يكون العراق وسيطًا لحلحلة الخلافات بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران. إلا أن جهوده في التقرب من واشنطن اصطدمت بالمعارضين الداخليين الموالين لإيران، لاسيما الفصائل الشيعية المسلحة.
وعلى الرغم من أن حكومة الكاظمي حاولت تفعيل الجوانب المختلفة والمفيدة في الاتفاقية، فإن السبب الرئيسي لاهتمامها بها يتعلق أساسًا بالتحديات الآنية التي كانت تواجهها بخصوص قوى الميليشيات، التي تضغط على الحكومة لإخراج القوات الأمريكية من البلد، في إطار تغوّلها العام على الدولة والمجتمع.
ثانيًا- المتغيرات الدولية وأثرها في العلاقات العراقية – الأمريكية:
إن أي معالجة موضوعية للاستراتيجية الأمريكية الراهنة تجاه العراق لابد أن تتطرق إلى التحولات الفكرية والتغيرات السياسية الإقليمية والدولية التي رافقت تَبَلوُر رؤى جديدة للسياسة الخارجية والاستراتيجية الأمريكية على حدٍ سواء، وعليه فإن التعرض للاستراتيجية الأمريكية تجاه العراق هو تشخيص سياسي للمشروع الاستراتيجي الأمريكي الأشمل في الشرق الأوسط.
أرسلت إدارة بايدن تلك الإشارة إلى أن الشرق الأوسط لم يعد أولوية للسياسة الخارجية للولايات المتحدة، إذ أشار الرئيس بايدن إلى أنه يريد تقليص مشاركة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وإعادة التركيز على أولويات الأمن القومي مثل روسيا والصين بالانتقال من أدوات الاشتباك العسكرية إلى الأدوات المدنية. فخلال حملته الانتخابية أطلق وعدًا بـإنهاء الحروب في أفغانستان والشرق الأوسط، التي كلفت دماءً وأموالًا لا تقدر بثمن، وأضاف “إن هذه الحروب تستنزف فقط قدرتنا على القيادة في قضايا أخرى تتطلب اهتمامنا وتمنعنا من إعادة بناء أدوات القوة الأمريكية الأخرى”، لكن يبقى السؤال المهم بشأن كيفية نشر الدبلوماسية بنحو فعال في منطقة تعج بالصراع العنيف، إذ يرى وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن أن روسيا والصين تندرجان ضمن أولويات السياسة الخارجية. ولذلك لديهما فرصة لتبنّي نظرة استراتيجية طويلة الأمد تجاه العراق، ومع استمرار السياسة الخارجية الأمريكية في التحوّل نحو المنافسة بين القوى العظمى، فلن يؤدي دعم الأمن والديمقراطية في العراق إلى كبح المطامع الإيرانية فحسب، بل إلى تحقيق طموحات روسيا والصين أيضًا.
بيد أن الظروف الإقليمية والدولية غيرت قليلًا من سياسة حكومة بايدن، وخدمت سعي الإطار إلى تشكيل حكومته، وأجادوا اللعبة عندما قدّموا محمد شياع السوداني لتشكيل الحكومة الجديدة؛ لكونه شخصية غير جدلية ولديه اطلاع وخبرة في تفاعل العلاقات الدولية والإقليمية بحكم عمله في الحكومات السابقة. وسارعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى مدّ جسور التواصل مع السوادني منذ الأيام الأولى لإعلان ترشيحه وحتى تكليفه، ومن ثمَّ تشكيل حكومته، لتكون السفيرة الأمريكية في بغداد “إلينا رومانوسكي” أول من قدّم التهاني إلى السيد السوداني عند تكليفه رسميًا وبعد نيله الثقة من البرلمان(7)، ويعكس حراك السفيرة الأمريكية توجهًا واقعيًا يعبر عن تعاطي الأمريكيين مع القرار الداخلي للقوى السياسية ليعكس صورة جديدة، تختلف عما يجري تسويقه بفرض الأجندة الأمريكية على قرار القوى السياسية، أو دعمهم لشخصيات محددة لتولي الحكومة، أو حتى دعمهم لبقاء حكومة الكاظمي، إذ باتت الأخيرة تحض على ضرورة تحقيق الاستقرار وإنهاء الفوضى التي خلفتها تداعيات استمرار الانسداد السياسي بتشكيل حكومة جديدة، تحت ضغط مشاكل الطاقة التي يواجهها حلفاؤها الأوروبيون بسبب تداعيات استمرار الحرب الروسية ضد أوكرانيا.
إن تأثير الظروف الدولية على سياسية واشنطن تجاه العراق اتضحت جلية من خلال تشكيل الحكومة العراقية الحالية. فتشكيل الحكومة بشكلها الحالي لم ينل دعم واشنطن أو هو ليس في مصلحتها، لكنها تحملت أن يكون تشكيل الحكومة بهذا الشكل من أجل الاستقرار، بسبب أن ما حدث في العراق من انعدام للاستقرار وتأخر في تشكيل الحكومة أخَّرَ قدرة بغداد على اتخاذ قرارات استراتيجية؛ منها زيادة إنتاج النفط، واتضح ذلك من تصريح السفيرة الأمريكية في العراق، آلينا رومانوسكي، التي أكدت في تصريح لها في 15 تشرين الأول / أكتوبر 2022 “أن اتفاقية الإطار الاستراتيجي هي التي توجه علاقات واشنطن مع الحكومة العراقية الجديدة، وأن “التقدم في تحقيق مصالحنا المشتركة مهم للعراقيين”، وأننا نتمنى “عراقًا يحارب الفساد ويخلق فرص العمل، وعراقًا مستقرًا من خلال مؤسسات أمنية حكومية قوية، وخاليًا من تنظيم داعش، وعراقًا مرنًا للتعامل مع التغير المناخي”(8).
ثالثًا- الاستدارة نحو الضبط:
عكست العملية المطولة التي أعقبت احتجاجات تشرين الأول/أكتوبر2019 واستقالة عادل عبد المهدي، السير خطوة إلى الوراء بالنسبة إلى الديمقراطية العراقية. لذلك دعمت واشنطن إجراء الانتخابات المبكرة في10 تشرين الأول/أكتوبر 2021. وبعد إعلان نتائجها تركزت معظم تصريحات المسؤولين الأمريكيين على تعزيز الحوار الوطني بين القوى السياسية، لتجاوز الأزمة والمضي في ترسيخ أمن العراق واستقراره، وعلى مواصلة الإدارة الأمريكية دعم العراق، وتعزيز الشراكة بين بغداد وواشنطن وفق اتفاقية الإطار الاستراتيجي بين البلدين.
بدأ الانفراج لأزمة الانغلاق السياسي مع انتخاب عبد اللطيف رشيد رئيسًا للجمهورية في 13 تشرين الأول/أكتوبر2022(9)، وتكليف حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، ومن ثم المصادقة عليها في جلسة مجلس النواب التي عقدت في 27 تشرين الأول/أكتوبر 2022. وأثبت منح الثقة قدرة السوداني، رغم الخلافات الداخلية الحادة داخل الإطار التنسيقي الداعم له، على إنجاز هذا التشكيل في وقت قياسي غير مسبوق في كل حكومات ما بعد 2003، خلال مدة 14 يومًا فقط، إذ نالت التشكيلة الوزارية للسوداني الثقة بواقع 250 صوتًا من أصل 257 عضوًا حضروا الجلسة. وهو رقم كبير جدًا يعكس ثقة البرلمان بها، ومحاولة السلطة التشريعية الهروب من شبح الفشل وعدم قدرتهم على استكمال الاستحقاقات الدستورية.
لا يبدو أن الإدارة الأمريكية بذلت جهودًا متضافرة لإحباط هذا السيناريو بوجود حكومة، حتى وإن كان داعموها حلفاء بلا إيمان، فخلال الأشهر التسعة تقريبًا الفاصلة بين الانتخابات وانسحاب النواب الصدريين، تُظهر السجلات العامة أن كبار المسؤولين الأمريكيين في وزارة الخارجية و”مجلس الأمن القومي” لم يزوروا العراق سوى مرتين، وأن وزير الخارجية أنتوني بلينكن لم يجرِ سوى عدد قليل من المكالمات مع صناع القرار في العراق، في محاولة للتأثير على التطورات على الأرض. خصوصًا بعد الصدام المسلح بين اتباع زعيم التيار الصدري وبين الفصائل المسلحة الحليفة لإيران على أبواب المنطقة الدولية وداخلها؛ ما دفع واشنطن إلى إيفاد مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط إلى العراق أيلول/سبتمبر 2022، بغرض تحذير الولايات المتحدة للأطراف العراقية بضبط الأوضاع السياسية والتحذير من أن أي استخدام جديد للسلاح يمكن أن يؤدي إلى الفوضى(10)، وربما تكون السفيرة الأمريكية الجديدة المتميزة إلى العراق ألينا رومانوسكي قد ضغطت أيضًا من أجل حل هذه المسألة بعد وصولها إلى بغداد في حزيران/يونيو 2022، ولكن يبدو أنها فعلت ذلك من دون دعمٍ كافٍ من واشنطن.
ولم يكن غياب انخراط إدارة أمريكية رفيعة المستوى في محاولات العراق لتشكيل حكومة بعد الانتخابات مجرد إغفال غير مقصود، بل قرارًا متخذًا عن سابق تصور وتصميم. ويبدو أن خطة الإدارة الأمريكية كانت تقضي بـترك العراقيين ليحلوا مشاكلهم بأنفسهم.
جرت العادة ألا تدلي واشنطن برأيها حول نتائج الانتخابات في دول أخرى، وتفضل بدلًا من ذلك التركيز على دعم المؤسسات. لكن العراق ليس بلدًا عاديًا بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بالنظر إلى أن الحكم الديمقراطي الناشئ فيه يواجه العديد من الصعوبات في ظل الضغوط التي تمارسها الأذرع الإيرانية النافذة في العراق كقوى سياسية وفصائل مسلحة.
رابعًا- إنعاش اتفاقية الإطار الاستراتيجي:
دعا السوداني في برنامجه الحكومي إلى إقامة علاقة متوازنة مع دول الجوار والقوى الدولية الفاعلة مبنيةً على الاحترام المتبادل والحفاظ على سيادة العراق (11). غير أن أبرز ما يميز العلاقات العراقية – الأمريكية هي مسألة تفعيل اتفاقية الإطار الاستراتيجي التي وقعها الجانبان في تشرين الثاني/نوفمبر 2008، وصادق عليها مجلس النواب العراقي في نهاية نفس العام، ودخلت حيز التنفيذ في شهر كانون الثاني/يناير من العام التالي 2009.
رسمت هذه الاتفاقية واسمها الكامل هو “اتفاقية الإطار الاستراتيجي لعلاقة صداقة وتعاون بين الولايات المتحدة وجمهورية العراق” أسس تعاون مشترك وطويل المدى بين البلدين في سبع مجالات رئيسية هي: السياسة والدبلوماسية، الدفاع والأمن، الثقافة، الاقتصاد والطاقة، الصحة والبيئة، تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، تطبيق القانون والقضاء.
وفي كل واحدة من مجالات التعاون هذه، حددت الاتفاقية الأهداف العامة المرتبطة بكل قطاع وهي، في أغلبها، تتصل بتقوية المؤسسات العراقية وتطوير قدراتها على تأدية مهامها بفعالية، للإشراف على إنجاز هذه الأهداف. نصت الاتفاقية على تشكيل لجنة تنسيق عليا أمريكية-عراقية، تلتقي دوريًا. مهمتها متابعة تنفيذ بنود الاتفاقية وتُمثل فيها الوزارات والمؤسسات المعنية بالمشاريع التي تُحدد في إطار الاتفاقية، هذا فضلًا عن تشكيل لجان تنسيق مشتركة، عند الحاجة، تكون من مستوى أدنى، تتكون عمومًا من الفنيين المختصين. وتقوم بالإشراف المباشر على تنفيذ المشاريع التي يتفق عليها الطرفان، تقدم لجان التنسيق هذه تقاريرها إلى لجنة التنسيق العليا.
إن برنامج اتفاقية الإطار هذه شامل وطموح ومفتوح ومرن ويقوم على الحاجات العراقية كما يحددها العراق، إذ هو يشمل كل مجالات التعاون الممكنة مع أمريكا لتطوير مؤسسات الدولة العراقية، وغير محدد بمدة زمنية معينة، ويمكن للعراق أن يخرج من كامل الاتفاقية إذا شاء من خلال إبلاغ الطرف الآخر بعام واحد قبل انسحابه منها، وللإفادة الحقيقية من هذه الاتفاقية المهمة، يحتاج العراق إلى أن يرسم رؤية متكاملة لكيفية تطوير مؤسسات الدولة وتحسين أدائها عبرها، ويشكل اللجان اللازمة ويتابع العمل من خلالها مع الجانب الأمريكي على نحو جدي ومتواصل وتراكمي. لكن لسوء الحظ ليس هذا ما حصل، إذ ذهبت هذه الاتفاقية، كأشياء أخرى كثيرة في البلد، ضحيةً لتقلبات المزاج السياسي وضعف التخطيط والحاجات الآنية للحكومات العراقية المتعاقبة، وليس الحاجات الطويلة المدى للدولة العراقية.
ركنت هذه الاتفاقية على الرفوف العراقية، أكثر من ثلاث سنوات، بعد دخولها حيز التنفيذ في بداية 2009، إلى أن دعا رئيس الوزراء آنذاك، نوري المالكي، في خريف 2012 إلى تفعيلها، بعد تصاعد المطالب الشعبية بتحسين الخدمات. لتتبع هذه الدعوة بعد أشهر في بغداد أول الاجتماعات الجدية مع نظراء أمريكيين، للتعاطي مع تحديات الخدمات والصحة والتعليم والاستثمار. ولم يتم البناء على هذه الاجتماعات والأفكار التي أثيرت، وبعضها مهم، فضلًا عن أن اضطرابات الأمن والسياسة في العراق والخصومة المتصاعدة بين حكومة المالكي وإدارة أوباما حينها، جعلت متابعة بنود الاتفاقية هامشًا مُهملًا في بغداد، وحتى مع تحسن العلاقات الأمريكية-العراقية بعد تولي حيدر العبادي رئاسة الوزراء في عام 2014، كانت هناك محاولات لتحفيز هذه الاتفاقية برغبة متبادلة بعد العام2017. فلم تُستثمر اتفاقية الإطار الاستراتيجي على نحو شامل على أساس رؤية عراقية متكاملة، بل عُمد إلى سياسة خاطئة، متواصلة منذ توقيع الاتفاقية، بانتقاء ملفات وترك غيرها، على أساس الحاجات الآنية للحكومة. وهكذا ركزت حكومة العبادي على القضايا المتعلقة بالأمن والدفاع في ضوء التحدي الذي كان يواجهه البلد ضد تنظيم داعش. وتم اعتبار الاتفاقات والتقدم الحاصل في هذا المجال على أنه جزء من اتفاقية الإطار. أيضًا، في سياق الأزمة المالية الخانقة حينها التي عاشتها حكومة العبادي، تم تفعيل الجانب المتعلق بالإصلاح الاقتصادي والمالي في الاتفاقية، وحصل تقدم مهم بهذا الصدد. لكن عندما عادت أسعار النفط إلى الارتفاع، توقفت الحكومة عن متابعة إصلاحات مهمة بدأت بها فعليًا، لكنها تخلت عنها فيما بعد. وفي عهد رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، التي مثلت منصة للمصالح الإيرانية، عاشت اتفاقية الإطار موتًا سريريًا، إلى أن “أحيتها” حكومة مصطفى الكاظمي، بإجرائها، إلى حد الآن، أربع جولات حوار، ويمثل هذا العدد الأعلى الذي قامت به أي حكومة عراقية.
وإذا ما استثنينا ملفات الدفاع والطاقة، التي تتحمس لها الشركات الأمريكية عادةً بسبب العقود المالية المرتبطة بها، ليس ثمة تقدم مطرد وتراكمي في تنفيذ بنود الاتفاقية الأخرى، التي تحولت تدريجيًا إلى ما يشبه عناوين صحفية في الإعلانات الدبلوماسية، الأمريكية خصوصًا، الواردة في تفسير الكثير من النشاطات المشتركة للبلدين. فحتى زيارات رؤساء الوزراء العراقيين لأمريكا أو لقاءات المسؤولين الأمريكيين مع نظرائهم العراقيين توضع في سياق اتفاقية الإطار الاستراتيجي. وكأن العراق أو الولايات المتحدة الأمريكية بحاجة إلى اتفاقية استراتيجية للقاء مسؤولين منهما أو عقد تفاهمات بين البلدين، حتى لجنة التنسيق العليا التي تشكلت لمتابعة تنفيذ الاتفاقية تحولت تدريجيًا إلى شكل دبلوماسي معبأ بالأمنيات والنيات الطيبة لكنه خال من المحتوى الجدي.
إن أي محاولة تفعيل لهذه الاتفاقية من قبل محمد شياع السوداني رئيس مجلس الوزراء سيصطدم بمعارضة أرادت سياسية موالية لطهران سبق لها أن رشحت السوداني لمنصبه. وبذلك سيكون من الصعب جدًا على الأخير الاتجاه لتفعيلها عطفًا على أيديولوجية بيئته السياسية التي جاء منها، والتي قد تسبب له مشاكل كثيرة ربما تصل إلى حد العداء والمواجهة في حال أقدم على هذه الخطوة.
اتضح الخلاف الأول بين بغداد وواشنطن، عندما أعلن السوداني في أول مؤتمر صحافي يعقده كرئيس للحكومة في 1 تشرين الثاني/نوفمبر2022 عن أن “لديه تخويلًا وتفويضًا من القوى السياسية بإجراء حوار مهني فني مع قوات التحالف الدولي، التي تقودها الولايات المتحدة في بلاده لتحديد الحاجة إلى تواجد التحالف الدولي كأعداد تتعلق بالمستشارين وكمهام للتدريب والمشورة وتبادل المعلومات. وفي ضوء ذلك ما سيتمخض من قرار حكومي ستلتزم به كل الأطراف السياسية وسنشرع باستكمال هذا الحوار وفق ما هو مخطط له”(12). وبعد ساعات من تصريحات السوداني ردت السفيرة الأمريكية في العراق ألينا رومانوسكي، في كلمة لها خلال منتدى السلام والاستقرار في الشرق الأوسط الذي تقيمه الجامعة الأمريكية في دهوك، كجزء من سياسة التأكيد بأن قوات بلادها باقية في العراق ولن تنسحب من العراق ولديها التزام طويل الأمد مع هذا البلد خلال المرحلة المقبلة، مع التشديد على التزام واشنطن بالبقاء في المنطقة، وأهمية أن تنعم بالأمن والاستقرار (13)، وأولويات هذا الالتزام هو تنفيذ الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة بينهما عام 2008.
إن الإحراج المتبادل بين واشنطن وبغداد حول إدراج إدارة ترامب جهات عراقية ضمن قائمة العقوبات الأمريكية، ومشاركة هذه الجهات في الحكومة الائتلافية لرئيس الوزراء محمد شياع السوداني قد يعوق هذه العلاقة في بعض الجوانب، وقد يخلق نوعًا من عدم التواصل بين الدولتين، خصوصًا بعد التسريبات التي لم يتم نفيها من الإدارة الأمريكية (14). مما يتطلب من السوداني وضع العديد من الاحتمالات حول تداعيات هذا التوجه.
على الأرجح فإن تمسك الولايات المتحدة الأمريكية بتطبيق اتفاقية الإطار الاستراتيجي قد لا يكون رغبة قصوى، من قبلها، بقدر ما يمثل تعاطيًا جديدًا لضبط العلاقة مع بغداد التي يهيمن عليها حلفاء إيران، ورسالة عابرة للجغرافية العراقية تجاه إيران بأن زمن الاستغناء الأمريكي عن العراق لم يعد مطروحًا خصوصًا بعد الحاجة الغربية إلى استمرار إمدادات الطاقة من المنطقة عمومًا والعراق خصوصًا، فضلًا عن أن محاولة واشنطن دعم محمد شياع السوداني يأتي في إطار فك ارتباطه تدريجيًا عن داعميه المقربين من السياسة الإيرانية، من خلال التزام أوَّلي بدعم محدود يمثل اختبارًا لقدرة السوداني على اتخاذ القرار المستقل.
خامسًا- إيران وتحدي العلاقة العراقية -الأمريكية في حكومة السوداني:
إن الواقع السياسي الراهن في العراق يؤكد النفوذ الإيراني في أعلى مستوياته، ولا تستطيع حكومة السوداني العراقية تجاهله، مما يعني أن الحكومة ستواجه صعوبة في التعامل مع هذا الملف، وأن الحكومة الإيرانية لا يمكن أن تفرط في مصالحها في العراق تحت أي ظرف (15)، بل قد تعمل على تصدير أزمتها الداخلية الحالية المتمثلة في الانتفاضة الشعبية ضدها إلى العراق، وهذا ما نشهده من خلال عمليات قصف لإقليم كردستان العراق والتهديد باجتياحه.
تواجه حكومة السوداني صعوبة التوازن في العلاقات الخارجية بين دول الجوار، وعلى رأسها إيران، وذلك سينعكس أيضًا على الأطراف الداخلية الفاعلة والمرتبطة بالقوى الخارجية، إذ إن عقلية الأحزاب أصبحت ترى في موارد الدولة وإمكاناتها جزءًا من ميراث يفترض أن يوزع فيما بينها، ولذلك يسعى السوداني إلى تحقيق توازن بين الدول العربية والغرب وبين إيران، إذا ما أراد الاستقرار لحكومته، خاصة أن غالبية الوزراء الشيعة مقربون من أحزاب في الإطار التنسيقي موالية لإيران، لاسيما أن البلاد في حاجة إلى استثمارات أجنبية في قطاعات متنوعة.
كان فك الارتباط الأمريكي المحدود خلال عملية تشكيل الحكومة قد ترك فراغًا، لم تتأخر طهران عن أن تشغله. فكان طبيعيًا أن ترحب إيران بإعلان تشكيل حكومة السوداني باعتبار أن الإطار التنسيقي تربطه صلات وثيقة مع إيران، ولذلك هنأ الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في 28 تشرين الأول/أكتوبر 2022، رئيس الوزراء العراقي الجديد محمد شياع السوداني بمناسبة منح الثقة لحكومته. وقال: “نهنئكم على المسؤولية المهمة لتوليكم رئاسة الوزراء وتشكيل الحكومة الجديدة”(16).
كانت أمريكا وإيران في مقدمة المهنئين بتشكيل حكومة عراقية جديدة ومنحها الثقة، وهذا يعود إلى أن للطرفين مصلحة في انتهاء الأزمة السياسية في العراق، ولكن يبقى ارتياح كلا الطرفين لهذه الحلحلة مبالغًا فيه، في ظل شارع عراقي متحفز للتصعيد.
ويعد العراق من الساحات القليلة التي تتقاطع فيها مصالح طهران وواشنطن، فالأخيرة سلمت منذ سنوات بسيطرة إيران على سلطة القرار في العراق عبر القوى الموالية لها. في حين أن إيران، رغم التهديدات التي تطلقها بين حين وآخر، تتجنب بحدود متوسطة المساس المباشر بمصالح واشنطن والغرب عمومًا في هذ البلد.
إن المقاربة الإيرانية في العراق ستسعى فيها إلى محاولة تصفير المشاكل في مرحلة حكومة عادل عبد المهدي وما رافقها من إشكالات، والعمل على إعادة تفعيل التوافقات الأمريكية – الإيرانية في الأجواء السياسية العراقية، إذ على الرغم من وصول أكثر الأجنحة المسلحة تطرفًا إلى السلطة من خلال الإطار التنسيقي، فإن تلك الأطراف ستعمل بشكل واضح على عدم استفزاز واشنطن، بتوجيه إيراني، لطمأنة الداعمين الغربيين لحكومة السوداني، وبلا شك أن جهود الأطراف الموالية لإيران ستنصب خلال المرحلة المقبلة على إعادة التموضع وترميم وجودهم في الأجواء السياسية مرة أخرى، إذ تواجه عملية إعادة ترميم الوجود السياسي للفصائل المسلحة بعد انتفاضة تشرين في عام 2019 وتصاعد موجة الغضب الشعبي ضدها مصاعب عدة، أبرزها احتمالات انطلاق موجات احتجاجية جديدة إضافة إلى النقمة الكبيرة لدى أتباع التيار الصدري، والتي ربما تمثل أبرز التحديات التي ستواجه حكومة “الإطار التنسيقي”.
كذلك ستعمل إيران على دفع الإطار التنسيقي إلى التركيز خلال المرحلة المقبلة على إضعاف التيار الصدري الذي يمثل المنافس الرئيس لتلك القوى، خصوصًا أنها لم تكن لتتمكن من تشكيل الحكومة لولا استقالة نواب الكتلة الصدرية، ولا تود الأطراف الموالية لإيران تكرار تجربة الانتخابات السابقة مرة أخرى، وهو ما سيدفعها إلى العمل على تغيير القانون الانتخابي ومفوضية الانتخابات. إضافة إلى محاولة إقصاء أي وجود لأفراد التيار الصدري في مفاصل الدولة قبل خوض أية انتخابات جديدة.
في ظل تطورات مفاوضات الملف النووي الإيراني مع المنظومة الغربية، والتي لا تؤشر لمكاسب لطهران مما يعود بها إلى النظر إلى العراق كدولة تابعة أو استمرار جغرافيته كمجال حيوي لها، فضلًا عن أن تطورات الانتفاضة للشعب الإيراني تجاه السياسات الخاطئة للسلطة الحاكمة ستدفعها إلى تصدير أزمتها الداخلية نحو مساحات هشة كالعراق، وبالتحديد أربيل التي تتهمها طهران بأنها تقدم الدعم اللوجستي لقوى المعارضة للنظام وكونها منصة لإسرائيل في استهداف الداخل الإيراني. بالإضافة إلى أنها تعتبر العراق بمثابة الرئة الاقتصادية لإيران في مواجهة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من المجتمع الدولي.
واستنادًا إلى ما تقدم، فإن طهران لن تسمح بعملية قضم تدريجي لنفوذها في العراق تقوم بها واشنطن، وفق مسارات قد تدفع لعملية فك ارتباط بين حكومة السوداني وبين حلفاء إيران أو الابتعاد عن إيران؛ لذلك ستستمر في الحضور والمراقبة والتأثير على أي خطوة قد تتسبب بالأضرار بالمصالح الإيرانية في العراق، وهذا قد يجعل مبدأ التوازن الذي أعلن عنه السوداني صعب التطبيق.
سادسًا- اتجاهات مستقبلية للعلاقة:
تبعًا لمحددات العلاقة بين بغداد وواشنطن وتحدياتها، سيكون من الصعب تشكيل قناعة متوسطة الأمد عن المواقف القادمة لهذه العلاقة، لكن كلا الطرفين سيكون على المدى المنظور في لحظات اختبار النوايا، وقد تكون حادثة مقتل المواطن الأمريكي ستيفن ترول في بغداد بتاريخ 11 يوليو 2022، بداية إخضاع حكومة محمد شياع السوداني لاختبار الحفاظ على المصالح الأمريكية في العراق، وقدرتها على وقف التهديدات المتنامية للوجود الأمريكي في العراق.
سيركز السوداني في المرحلة القادمة على ثلاثة مستويات في علاقته مع واشنطن:
الأول: استمرار الدعم الأمني والعسكري من قبل الولايات المتحدة الأمريكية للعراق، خصوصًا وأن الجماعات المتطرفة ما تزال تمثل تحديًا كبيرًا للعراق، وسيضع السوداني في حساباته أن العقلية الأمريكية تعتقد بأن القضاء على الإرهاب يمثل مصلحة أمريكية مشتركة مع العراق.
الثاني: التركيز على المبادرات الأمريكية من خلال اتفاقية الإطار التنسيقي في مجال التنمية الاقتصادية والتعليمية وتطوير القطاع المالي والمصرفي، مع الأخذ بعين الاعتبار إمكانية السوداني تحفيز واشنطن بدعم جهوده في مجال مكافحة الفساد.
الثالث: التنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية في مجال الطاقة وإمداداتها للأسواق الغربية، حتى لو كانت المواقف العراقية المتخذة تاليًا خارج رغبة أو اتفاق الدول المصدرة للنفط أوبك، خصوصًا وهو أدلى بتصريح انتقد فيه قرار منظمة أوبك خفض الإنتاج، وهذا المستوى من التعاطي مع قضية تمثل أولوية أمريكية قد يعطى رسالة اطمئنان مرحلي لها، رغم الشكوك في قدرة العراق على الخروج من اتفاقات الدول المصدرة للنفط.
كما سيتجنب السوداني التماهي مع رغبة واشنطن في الحد من النفوذ الإيراني في العراق، لأنه يدرك أن هناك تأثيرًا كبيرًا لطهران على داعميه، فضلًا عن أن التأكيد الأمريكي على نزع سلاح الفصائل المسلحة في العراق سيعده جزءًا من سياسة داخلية، وسيحاول إقناع دوائر صنع القرار في البيت الأبيض بإمكانية خضوع هذه الفصائل لعملية دمج تدريجي مع القوات الأمنية الرسمية.
أما بالنسبة إلى الرؤية الأمريكية المستقبلية تجاه العراق فستكون بثلاثة مستويات:
الأول: إعادة التمهيد لدور أمريكي أكبر في العراق والحضور المباشر، الداعم أو المراقب، لحكومة محمد شياع السوداني، وهذا ما ظهر واضحًا من خلال زيارات ولقاءات أجرتها السفيرة الأمريكية في بغداد مع رئيس الوزراء أو مع وزراء كابينته الحكومية، وهي رسالة تتجاوز الجغرافيا العراقية إلى إيران تتلخص في أنها لن تسمح بتمدد جديد لطهران أو ابتلاع القرار العراقي وستعمل على تحجيم دورها تدريجيًا أو لن تسمح بتغول حلفاء طهران على العراق، مع الأخذ في الاعتبار الاهتمام الأمريكي بصياغة أطر جديدة للعلاقة بين بغداد وأربيل.
الثاني: التركيز على أن يكون العراق ضمن نطاق الدول التي تعمل على تأمين إمدادات الطاقة، سواء للولايات المتحدة الأمريكية أو لحلفائها الغربيين أو الآسيويين، ويشكل هذا التوجه في العراق امتدادًا لرؤية الديمقراطيين في هذا الوقت لمنطقة الشرق الأوسط.
الثالث: الأدوار الأقل أهمية، والتي تتمثل في تقديم المساعدات في المجال الأمني والاقتصادي والمالي ومكافحة الفساد والتحديات المناخية التي يواجهها العراق.
خاتمة:
إن معادلة السلطة في العراق بعد العام 2003، والتي تشكلت بقرار من الولايات المتحدة، لم تكن قادرة على تحديد مستوى العلاقة مع واشنطن بالشكل الذي يدفع هذه العلاقات نحو مستويات يمكن من خلالها صناعة استقرار في المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وبالرغم من مرحلة الصداقة العراقية- الأمريكية (2003-2010) فإن صاحب القرار العراقي تاليًا أخضع هذه العلاقة إلى مصالح التفوق الداخلي لشخصه أو حزبه أو مكونه، ولم ينظر إلى هذه العلاقة على أساس المصلحة العراقية العليا بقدر ما مثل العراق منصة للمواقف الإيرانية، حتى وصل الأمر إلى تهديد الولايات المتحدة الأمريكية بقطع أو خفض مستوى هذه العلاقة أو حتى جعلها عدوًا مثلما حدث في حكومتي نوري المالكي الثانية (2010-2014) وعادل عبد المهدي (2018-2020)، مما انعكس بشكل سلبي على العراق داخليًا وخارجيًا.
ورغم أن حكومتي حيدر العبادي (2014- 2018) ومصطفى الكاظمي (2020-2022) قدمتا رغبة لإعادة صياغة العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية وفق أسس عملية يمكن أن توازن المصالح المشتركة، فإن الحكومتين اصطدمتا بذلك التأثير العميق لإيران الكابح لأي نهوض بالعلاقة مع واشنطن على أساس مبدأ التوازن، ولم تستطع حكومتا العبادي والكاظمي استثمار هذه العلاقة إلا في المستويات الأمنية، وحتى اتفاقية الإطار الاستراتيجي لم تتوافر لها الظروف السياسية والحكومية لتفعيلها.
لم تقدم الولايات المتحدة الأمريكية مقاربة جديدة للتعاطي مع العراق منذ تولي إدارة بايدن البيت الأبيض، فعناوين العلاقة في الخطاب الأمريكي استمر دون فارق بأن العراق شريك حقيقي في مكافحة الإرهاب وضرورة الحفاظ على استقراره ودعمه وأمنه ليصبح دولة ديمقراطية متكاملة. ودون انغماس صلب في هذه القضايا، فقد أدت المقاربة التي انتهجتها إدارة بايدن للملف العراقي لاحقًا والقائمة على عدم التدخل في عملية تشكيل الحكومة إلى السماح للأحزاب الحليفة لإيران بتحويل الهزيمة إلى نصر. وبذلك يبدو في هذه المرحلة أن العراق، الذي خاضت الولايات المتحدة حربين رئيسيتين في العقود الأخيرة لأجله، لم يعد أولوية بالنسبة إلى واشنطن، لكنه أولوية قصوى بالنسبة إلى طهران.
وبحكم تمتع العراق بموقع جيواستراتيجي حيوي، وكونه خامس أكبر خزان احتياطي نفطي في العالم، ويقع على الخطوط الأمامية للتصدي لجهود إيران الرامية إلى توسيع نفذوها في جميع أنحاء الشرق الأوسط، جعل واشنطن تستدير تجاه بغداد نتيجة الحاجة الأمريكية. وهذا قد يدفعها للعب دور أكبر في المرحلة المقبلة، مما يتطلب رؤية جديدة لحكومة محمد شياع السوداني تستند إلى المصلحة العراقية والبراغماتية مع هذه الاستدارة. لكن بالمجمل فإن العلاقة ستكون معقدة بسبب تصادم المصالح ومساحات النفوذ الأخرى في العراق.