×

  رؤا

منتدى الحضارات العريقة بين إرث الماضي ومقتضيات الحاضر

12/12/2022

عادل الجبوري

*كاتب ومحلل سياسي في موقع الميادين .نت و صحيفة كيهان العربي الايرانية

استضافت العاصمة العراقية، بغداد، للفترة بين 4 و6 كانون الأول/ديسمبر الجاري، منتدى الحضارات العريقة بنسخته السادسة، بمشاركة كل من العراق وإيران ومصر واليونان والصين وإيطاليا وبيرو وبوليفيا وأرمينيا والمكسيك.

وكانت فكرة منتدى الحضارات العريقة قد انطلقت من العاصمة اليونانية أثينا في الرابع والعشرين من شهر نيسان/أبريل من عام 2017، حيث عقد الملتقى الأول لممثلي عشر دول، تعدّ مهداً للحضارات القديمة، وهي:

-العراق ممثلاً لحضارة وادي الرافدين.

-اليونان ممثلةً للحضارة الإغريقية

-الصين ممثلة للحضارة الصينيَّة القديمة

-مصر ممثلة للحضارة الفرعونيَّة

-إيران ممثلة للحضارة الفارسية

-المكسيك ممثلة لحضارة المايا

-إيطاليا ممثلة للحضارة الرومانيَّة

-بوليفيا والبيرو ممثلتين لحضارة الإنكا

-أرمينيا ممثلة لحضارة الأورارتو.

 المتحدث الرسمي باسم المؤتمر أحمد الصحاف، استعرض عموم أهداف منتدى الحضارات العريقة، موضحاً في الوقت نفسه أهداف النسخة السادسة للمنتدى المنعقد في بغداد، قائلاً، "منتدى الحضارات العريقة بنسخته السادسة، سيكون شاهداً جديداً على انفتاح العراق في علاقاته الخارجية، وأن تكون بغداد نقطة لالتقاء الحوارات الهادفة، ومنحى متطوراً لأجندة القوّة الناعمة، في إطار دبلوماسية الاسترداد التي انتهجناها، مؤكِّدينَ استعادة ما يزيد على 18 ألف قطعة أثرية".

ويضيف الصحاف، "أن أهداف المؤتمر تتضمن أولاً توطيد العلاقات بين الدول الأعضاء، التي تمتلك إرثاً تاريخياً وحضارياً مُشرفاً، وثانياً استثمار فرص تبادل الخبرات للتنمية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية بين الدول، وتدريب الكوادر الوطنية ثالثاً، فيما يتمثل الهدف الرابع بأن يكون المنتدى فرصة للمطالبة باسترداد الآثار المُهَربة والمنقولة إلى غير دولها الوطنية، وتعريف العالم بالحضارات العريقة وبشتى الوسائل والبرامج كهدف خامس، وسادساً التركيز على مصادر القوة الناعمة، مُمثلة بالحضارات والعناصر التاريخية لأنها أداة لبناء السلام".

 

 لا شك في أن مثل تلك الملتقيات العالمية الكبيرة، تطلق رسائل مهمة وبليغة ومؤثرة، ترتبط في جانب منها بالعمق التاريخي والإرث الثقافي الذي شكلته حضارات ممتدة في أغوار الزمن، وفي جانب آخر، بما يمكن أن تضطلع به الدول والمجتمعات صاحبة الحضارات العريقة-القديمة من دور محوري ومفصلي في بناء الحاضر ورسم آفاق المستقبل، وفق رؤى ومتبنيات وأسس ومرتكزات سليمة بعيداً عن الحروب والصراعات العبثية المدمرة، لا سيما أن تلك الدول والمجتمعات، تشكل نحو 40% من مجموع سكان البشرية حالياً.

ولعله في مختلف الحقب والمراحل والأزمان، كانت العوامل التاريخية والثقافية والسياسية والاقتصادية والدينية والقومية والعرقية تتداخل وتتشابك فيما بينها، لتؤدي إلى اندلاع حروب دموية تقتل ملايين البشر وتلحق الدمار والخراب بمدن ودول وأقاليم كاملة، وربما كانت الحربان العالميتان الأولى(1914-1918)، والثانية(1939-1945)، من أبرز المصاديق القريبة لنا في إطار التاريخ الحديث.

واللافت في الأمر، أن جانباً من الحروب والصراعات، دار بين بعض من الدول صاحبة الحضارات العريقة، من دون أن تكون هوية تلك الحروب والصراعات وطابعها حضاريين، كما روّج ونظّر لذلك المفكر الأميركي صموئيل هنتنغتون في تسعينيات القرن الماضي، من خلال مؤلفه الشهير والمثير للجدل (صراع الحضارات Clash of civilization)، بل إنها استدرجت وأقحمت من قبل القوى الدولية الكبرى، على خلفية مشاريع وأجندات سياسية توسعية، لم يكن لها-أي لدول الحضارات العريقة-فيها لا ناقة ولا جمل، بل على العكس من ذلك تماماً، فإن شعوبها ومجتمعاتها، عاشت ويلات ومآسي هائلة من جراء الحروب والصراعات التي استدرجت إليها وأقحمت فيها.

وقد مثلت الحرب العراقية- الإيرانية(1980-1988)، مثالاً صارخاً ودليلاً دامغاً على ما ذهبنا إليه، فهي كانت جزءاً من مخطط أميركي-غربي لإغراق المنطقة بدماء أبنائها، مستخدمة عاملي القومية والمذهب لتأجيج الصراع بين الجارين العراقي والإيراني، ذلك الصراع الذي استحضر من خلال نظام حزب البعث، الذي اعترف بعض قادته مبكراً بأنه جاء إلى السلطة بقطار أنكلو-أميركي، كل النزعات والعقد التاريخية، ليجعل منها وقوداً ويطيل أمد الحرب إلى أقصى فترة ممكنة، مدعوماً بضخ متواصل بمختلف أنواع الأسلحة وببروغاندا سياسية وإعلامية واسعة، عملت جاهدة على قلب الحقائق والوقائع التاريخية والآنية وتزييفها.

ولم يكن المخطط الأميركي-الغربي، يستهدف إيران بعد انتصار الثورة الإسلامية فيها بزعامة الإمام الخميني في ربيع عام 1979 فحسب، وإنما استهدف العراق بعمقه الحضاري والثقافي والديني، وقد نجح ذلك المخطط، الذي لم تكن الحرب العراقية-الإيرانية أولى حلقاته ولا آخرها. فكثير من الصراعات والحروب الإقليمية والداخلية في آسيا وأفريقيا، بل وحتى في أوروبا، بدت كما لو أنها جزء من ذلك المخطط. ويجب أن لا ننسى أو نتناسى أن تأسيس كيان خاص باليهود الصهاينة على أرض فلسطين، قبل أربعة وسبعين عاماً، وبتخطيط وإشراف ودعم بريطاني-أميركي بالدرجة الأساس، ليتمخض عن ذلك مصادرة الحقوق وسلبها، وعنف وظلم وإجرام، وتشريد وتغييب وإرهاب، وبالتالي صراع بين ظالم ومظلوم، أخذ أبعاداً دينية وقومية وعرقية وحضارية في أرض فلسطين، التي كانت وما زالت مهداً وموطناً لكل الأديان والأعراق والحضارات الإنسانية.

ولم يقتصر استهداف القوى الدولية الكبرى لدول الحضارات العريقة ومجتمعاتها، على استعبادها ونهب ثرواتها وإخضاعها، وإنما امتد إلى تدمير إرثها ونهب موروثها الحضاري والقيمي، أو تمكين قوى وأطراف أخرى من فعل ذلك. فحركة طالبان الأفغانية، ركزت خلال فترة حكمها الأولى لأفغانستان في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي على تخريب جزء كبير من المعالم والآثار التاريخية في البلاد، بذريعة أنها تتنافى مع أحكام الشريعة الإسلامية، وكذلك فعل تنظيم "داعش" الإرهابي حينما نجح لبعض الوقت في إحكام سيطرته على مدن ومناطق عديدة في سوريا والعراق، إذ أتى على كل ما طالته يداه من معالم تراثية ومراقد ومقامات دينية ومراكز ومؤسسات ثقافية تاريخية، تدميراً وتخريباً.

وقبل ذلك، كانت القوات الأميركية وبعض الجهات التي احتمت بها، نهبت قدراً لا يستهان به من الآثار والكنوز التاريخية التي تعود إلى آلاف السنين. وهذا ما دفع وزير الخارجية العراقي، فؤاد حسين، إلى التأكيد في كلمته الافتتاحية في منتدى الحضارات العريقة أن "العراق تعرض في فترات مختلفة لسرقة ممنهجة لتهريب تراثه الثقافي، والحكومة العراقية بذلت جهوداً لوقف العمليات التخريبية ضد الآثار، ونجحت حتى الآن في استعادة أكثر من 18 ألف قطعة أثرية مهربة"، معرباً عن أمله بتعزيز التعاون الثنائي والتنسيق لإعادة جميع تلك الآثار المسروقة.

ويضيف الوزير حسين قائلاً، "إن أغلب حضارات العراق تعرضت لتهديدات مختلفة، وأن الإرهاب كان له اليد الطولى في تدمير معالمنا الحضارية"، وبالرغم من أنه لم يشر صراحة إلى المتسبب الرئيسي بما حلّ بحضارة العراق وإرثه وثروته المعنوية، كانت الصورة واضحة بالقدر الكافي ولا تحتاج إلى الكثير من الشرح والتحليل والتفسير.

وارتباطاً بالأهداف الخمسة للمنتدى المشار إليها في تصريحات المتحدث الرسمي، وارتباطاً بالإمكانيات والقدرات البشرية والمادية للدول صاحبة الحضارات العريقة، وبما تختزنه من رصيد ثقافي ومعرفي، فإنها بلا شك تستطيع أن تساهم في تعديل موازين القوى العالمية وتصحيحها لمصلحة الشعوب والأمم والمجتمعات المظلومة والمضطهدة من قبل "الكبار"، أولاً عبر الحرص على استثمار رصيدها الحضاري التاريخي المعرفي لتقوية جبهاتها الداخلية. ثانياً، البحث في كيفية توظيف كل ما تمتلكه تلك الدول وتكريسه، بما يساعدها على استعادة حضورها ودورها وتأثيرها الفردي والجماعي على السواء. ويتذكر كثيرون أن مبادرة حوار الحضارات التي طرحت من قبل الجمهورية الإسلامية الإيرانية في عهد الرئيس الإيراني الأسبق، محمد خاتمي، قبل نحو ربع قرن، في مقابل نظرية "صراع الحضارات" الغربية، ساهمت في تصحيح الرؤى والأفكار والتصورات المغلوطة، وكذلك بالنسبة إلى مفهوم "المجتمع المدني الإسلامي" في مقابل "المجتمع المدني" بهويته الغربية العلمانية المتعارضة مع قيم الأديان السماوية ومبادئها عموماً، ومع قيم الدين الإسلامي على وجه الخصوص.

ويجب هنا ألا نهمل ونتغافل عن الأبعاد والمكاسب السياسية المتحصلة من وراء منتدى الحضارات العريقة وأمثاله من الملتقيات والفعاليات ذات الطابع العالمي، فعالم اليوم الغارق في الصراعات والحروب العسكرية والإعلامية والثقافية الناعمة والخشنة، والأزمات والمشكلات الاقتصادية الخانقة، والضياع الروحي والمعنوي، يحتاج إلى معالجات وحلول جادة تفضي إلى تعديلات جوهرية وتغييرات جذرية ترتكز على المبادئ والقيم الإنسانية الصالحة.

 وسيكون المعيار الأساس لنجاح أعضاء المنتدى، هو احتواء خلافاتهم البينية وتذويبها وتطويقها، وتحويلها إلى مساحات وفضاءات للتفاهم والحوار والتعاون البناء، كما هي الحال بين مصر وإيران، حينما ردّ وزير الثقافة والسياحة والصناعات اليدوية الإيراني، عزت الله ضرغامي، على سؤال فيما إذا كان هذا المنتدى يمكن أن يكون أساساً لتنمية العلاقات الثقافية والسياحية بين إيران ومصر، بأن "مصر دولة ذات حضارة عريقة وقيمة، ونأمل أن تكون لنا في هذا المنتدى محادثات مفيدة جديرة بالحضارات". والمبدأ نفسه يصحّ على أطراف أخرى. ومن هذا المنطلق، سيكون ممكناً مواجهة النزعات التدميرية للحضارة الغربية المادية المعاصرة.

 إلى جانب كل ذلك، فإن استضافة العراق لمحفل إقليمي أو عالمي آخر، بعد استضافته لعدة محافل خلال الأعوام العشرة المنصرمة، يؤشر إلى الدور والحضور المتناميين له في الفضاء الدولي العام، سياسياً وثقافياً. ذلك الدور الذي من شأنه أن يعالج كثيراً مما تعرض له هذا البلد من نكبات وانتكاسات على مدى العقود الأربعة الماضية، ويفتح له آفاقا جديدة رحبة لتصحيح المسارات الخاطئة، والنهوض من الكبوات المتلاحقة، خصوصاً إذا كانت بوصلة التصحيح والإصلاح تؤشر إلى أن الاستثمار السليم لا يقتصر على الثروات والموارد المادية الراهنة، وإنما يشمل الثروات والموارد الحضارية المعنوية السابقة.

 

*كاتب وصحافي عراقي

*الميادين.نت

 

  مواضيع أخرى للمؤلف