×

  قضايا كردستانية

  صعود بافل طالباني: صُدَفٌ أم استراتيجيات؟



*علي إبراهيم باخ

في عامي 2015 و2016، بينما شكك الكثيرون في قدرة دونالد ترامب على الوصول إلى الرئاسة، كان فريقه، بقيادة ستيف بانون (Steve Bannon)، قد أعد خططًا جريئة لمهاجمة الهياكل التقليدية لإدارة الحكم في الولايات المتحدة، التي كانت تهيمن عليها النخب التقليدية من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، والمعروفة بطبقة “الإستابلشمنت” (Establishment). اعتمدت حملة ترامب على خطاب شعبوي يستهدف مشاعر الناخبين الذين يشعرون بالتهميش من قبل النخب السياسية، مع التركيز على قضايا مثل الهجرة والاقتصاد والأمن القومي. تمكن ترامب وفريقه من استغلال وسائل التواصل الاجتماعي بفعالية لنشر رسائلهم، مما ساهم في تحقيق فوز غير متوقع في الانتخابات الرئاسية لعام 2016. والغريب في فوزه أن الكثير حتى من الجمهوريين لم يتقبلوا الأمر ولم يعترفوا بترامب رئيسًا عليهم.

 

نظرية الأجيال ودورها في صعود ترامب

لكن السؤال هنا يكمن في أن الناس كانوا يعرفون جيدًا أن ترامب متهور وشعبوي، وأيضًا إلى حد كبير كاذب، ومع ذلك فاز. لماذا فاز؟ الإجابة لا يمكن اختصارها في عدة سطور أو فقرات، لكن سأحاول أن أكون مختصرًا للحديث عن أحد أسرار فوز الرئيس غريب الأطوار. للإجابة على هذا السؤال، يجب أن نعود إلى ستيف بانون، الذي كان متأثرًا بنظرية الأجيال.

نظرية الأجيال، التي طورها المؤرخان ويليام شتراوس ونيل هاو، تفترض أن التاريخ الأمريكي يسير في دورات زمنية تتكرر كل 80-90 عامًا، مقسمة إلى أربع مراحل:

-القمة (High): فترة من الاستقرار المؤسسي والازدهار الاقتصادي.

-الصحوة (Awakening): فترة من التمرد الثقافي والروحي ضد المؤسسات القائمة.

-الانكشاف (Unraveling): فترة من تآكل الثقة في المؤسسات وزيادة الفردية.

-الأزمة (Crisis): فترة من الاضطرابات الكبرى التي تعيد تشكيل النظام الاجتماعي والسياسي.

وفقًا لهذه النظرية، كانت الولايات المتحدة في منتصف مرحلة “الأزمة” خلال انتخابات 2016، مما يعني أن المجتمع كان مستعدًا لتغيير جذري في القيادة والسياسات. ستيف بانون، المتأثر بهذه النظرية، صمم حملة ترامب لتتوافق مع هذا السياق التاريخي، مقدمًا ترامب كقائد قادر على توجيه البلاد خلال هذه الفترة الحرجة.

بالإضافة إلى ذلك، استغل بانون وترامب الاستياء الشعبي من النخب السياسية والاقتصادية ومن الحالة العامة في أمريكا و الجمود في هياكل الحكم، مقدمين أنفسهم كبديل للنظام القائم. استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بفعالية، والتركيز على القضايا التي تهم الناخبين المتضررين من العولمة والتغيرات الاقتصادية، ساهم في جذب قاعدة واسعة من المؤيدين. بالتالي، يمكن القول إن فوز ترامب لم يكن مجرد نتيجة لشخصيته أو خطابه الشعبوي، بل كان نتيجة لاستراتيجية مدروسة استندت إلى فهم عميق للدورات التاريخية والمزاج العام للناخبين في تلك الفترة.

 

الأزمة في كردستان: أرضٌ خصبة للتغيير

مع أن تعميم التجربة الأمريكية وأدبياتها على الواقع الكردستاني غير ممكن، إلا أن الاستفادة من هذه الأدبيات يمكن أن تسهم في فهم وتعزيز توصيف الحالة الكردية. فمن المعروف أن كردستان عانت منذ عام 2014 من أزمة مالية عميقة بسبب عدة عوامل، منها تراجع أسعار النفط، والاعتماد الكبير على الإيرادات النفطية، والخلافات مع الحكومة المركزية في بغداد حول حصة الإقليم المالية. كما شهد الإقليم منذ 2009 بروز حركة التغيير التي طالبت بإصلاحات سياسية واقتصادية وتوفير الشفافية ومحاربة الفساد في حكومة الإقليم، ما أدى إلى خلق أزمة سياسية وازدياد في عمق أزمة الحكم.

لم تستطع الأحزاب التقليدية مثل الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني تقديم حلول ناجعة للأزمة السياسية المتعلقة بتقاسم السلطة أو تقديم حلول للأزمة المالية، وخاصة فيما يتعلق برواتب موظفي القطاع العام.

لم تتمكن هذه الأحزاب أيضًا من إنعاش القطاع الخاص، ونتيجة لذلك، شُلّ البرلمان الكردستاني في عام 2015 بعد توترات سياسية أدت إلى تعطيل العمل البرلماني، وسبقتها أزمة جديدة تمثلت في حرب داعش الوجودية عام 2014. ومن أجل البحث عن حلول جذرية للأزمات علها تفرض أمرًا واقعا، لجأ الإقليم إلى الاستفتاء على الاستقلال في 25 أيلول 2017، لكن هذا المسعى انتهى بخسارة الإقليم لجزء كبير من أراضيه بعد أحداث 16 أكتوبر 2017، والتي شهدت سيطرة القوات العراقية على مناطق مهمة كانت تحت سيطرة الكرد، مثل كركوك وسنجار.

 

حركة الجيل الجديد: مفاجآت كبيرة

على نحو مشابه لما شهدته الولايات المتحدة من صعود غير متوقع لشخصية مثل الرئيس دونالد ترامب الذي تحدى المؤسسة السياسية التقليدية، شهد إقليم كردستان صعود حراك الجيل الجديد (نەوەی نوێ). تأسست هذه الحركة في عام 2017 على يد رجل الأعمال شاسوار عبد الواحد، رافعة شعار محاربة الهياكل السياسية التقليدية والعمل على التغيير، وتمكنت من جذب انتباه الشباب وغيرهم من الفئات المتعطشة للتغيير.

حققت الحركة مفاجآت كبيرة بدءاً بحصولها على 8 مقاعد في انتخابات الإقليم عام 2018، واستمرت في نموها لتحقق 9 مقاعد في انتخابات مجلس النواب العراقي، ووصلت إلى 15 مقعدًا في انتخابات 2024 لبرلمان إقليم كردستان، ما جعلها القوة الثالثة في الإقليم. هنا أتصور ان نجاح هذه الحركة إلى شعاراتها الداعية للتغيير ومحاربة الفساد، وتركيزها على قضايا الشباب، واستخدامها الفعّال لوسائل التواصل الاجتماعي للوصول إلى الناخبين.

ورغم النجاح الذي حققه حراك الجيل الجديد في الانتخابات، إلا أنها لم تتمكن حتى الآن من تغيير أدوات الحكم في إقليم كردستان.

 ويرجع ذلك إلى أن الواقع يخضع لمعادلات غير انتخابية تتحكم في مفاصل القرار السياسي والأمني. فالإقليم منذ العام 1994 مقسمٌ بفعل الحرب الأهلية والانقسامات السياسية والاجتماعية بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني إلى منطقتي نفوذ، أو ما يُعرف في الشارع الكردستاني بـ(الزون الأصفر والزون الأخضر). وقد نتج عن هذا الانقسام وجود إدارتين منفصلتين، وقوتين مستقلتين للبيشمركة، وإدارتين أمنيتين مختلفتين.

 ولم يتمكن أحد، سواء من أحزاب المعارضة أو المنشقين عن الاتحاد الوطني الكردستاني مثل حركة التغيير وجماعة لاهور طالباني، من محاولة فك هذه المعادلات، و الكل خسر في النهاية أمام هذه المعادلات المتجذرة.

 

بافل طالباني: تحدّي الهياكل التقليدية

نأتي أخيرًا إلى هدف هذا المقال، وهو الخوض في ظهور وشخصية بافل طالباني الغريبة الأطوار والتي تحاول بشتى السبل أن تحارب كل الهياكل التقليدية، أولاً من داخل حزبه، وذلك في طريقة إهماله للحرس القديم وأيضًا تفرده بالحكم من خلال إبعاد ابن عمه وشريكه في قيادة الاتحاد الوطني (لاهور طالباني) ومؤخرًا في إبعاد الحرس القديم المتبقي، أهمهم (ملا بختيار وفريدون عبد القادر).

 والملاحظ في تحركاته الأخيرة خروجه عن كافة النصوص القديمة التي تجذر عليها حزبه، الذي هو من السوشيال ديموقراط والتوجهات اليسارية له إذ أنه اقترب مع السلفيين وهذا خروج صارخ من اليسار، ومرةً في غلق الملاهي الموجودة في منطقة سرجنار وأخيرًا هدم القصر الخاص بديرين عوزيري أو كويخا ديرين.

 بهذه الحركات تمكن من السيطرة تقريبًا على كافة مفاصل الحكم في زونه الاخضر وأيضًا نجح في إسكات كل من كان في طريقه في حزبه،لان مبدأ المدرسة التي يمشي عليها تقتضي كذلك (وكذلك فعل ترامب إذ تخلص من الجميع الذين انتقدوه أو الذين لم يمضوا ساكتين ممن أتوا معه إلى البيت الأبيض).

بعد أن تأكد تقريبًا من سيطرته على حزبه وبعد أن نجح في تكوين علاقات مع دولة إقليمية والشيعة الحاكمين في العراق، استغل علاقاته بحسب اعترافه شخصيا في مناسبات انتخابية بالتفوق والنجاح على البارتي في مسألة اختيار عبداللطيف رئيسًا للجمهورية على حساب ريبر أحمد (مرشح البارتي)، وأيضًا تمكن من تغييرانتخابات إقليم كوردستان عن طريق المحكمة الاتحادية، و المثير ان هذا القانون كان  كفيلاً بخسارة البارتي لسطوته على البرلمان و ان زادت اصواته بما يكثر عن 200 الف صوت. بذلك، حسب نظرته، قد توج بنجاحات كبيرة على حساب خصمه اللدود البارتي.

لم يلتزم السيد بافل بالمتعارف عليه، بل ثار على كلّ الأعراف والتقاليد السياسية. تجاهل الإتيكيتات المتعارف عليها، وانطلق في حملة شرسة ضد قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني، مستهدفًا بشكل خاص السيد مسرور بارزاني، رئيس الوزراء الحالي.

 لم يسلم قادة الحزب الآخرون من انتقاداته اللاذعة، فقد شنّ هجمات كلامية عليهم في أكثر من مناسبة.

والمثير للدهشة، أن حتى المعارضة وقفت مندهشة أمام حدة خطابه! فكلامه – كما يرى البعض – أقرب إلى خطاب “حراك الجيل الجديد”  والمعارضة، منه إلى خطاب رجل في موقع السلطة. إنه يتحدث بلسان المعارضة وهو في الحكم، وهذا ما يثير الحيرة والتساؤلات.

يتحدى بافل طالباني الوضع الراهن بصوت عالٍ وصارخ، مؤكدًا رفضه القاطع لأي حكومة تتشكل وفقًا للمعطيات القديمة. يُعلنها صريحةً: “سوف نتمرد على كل التقاليد والأعراف السياسية.”

 ويُصرّ على أن الحكومة القادمة يجب أن تتشكل وفقًا لرؤيته هو وحزبه، مُطلقًا العنان لطموحاته السياسية ومُهددًا بتغيير المشهد السياسي في الإقليم بشكل جذري. فيا ترى هل سيتمكن من ذلك، ام ستمكن من النيل من الإقليم و سلطاته و اضعاف ما تبقى من الموجود؟

 

التعامل مع شخصية بافل طالباني

في الختام، يمكن القول إن صعود السيد بافل طالباني يعكس رغبة شعبية في التغيير ورفضًا للهياكل التقليدية، شبيهًا إلى حدٍّ ما بصعود ترامب في ظل أزمة سياسية واقتصادية، وأيضًا بصعود التيارات والشخصيات الشعبوية في بريطانيا (مثل بوريس جونسون) وإيطاليا (مثل ماتيو سالفيني) وفرنسا (مثل مارين لوبان).

وعلى الرغم من أن بعض هذه التيارات لم تتمكن من الوصول إلى سدة الحكم، إلا أنها نجحت في دخول المشهد السياسي العام، وحققت تأثيرًا ملموسًا في التشكيك بالهياكل التقليدية وأساليب التعامل مع القضايا الداخلية والخارجية والإقليمية.

لا يمكن اختزال صعود السيد بافل طالباني وتأثيره بمجرد وصفه بـ “المهرج السياسي” أو “قليل الخبرة”، أو الادعاء بأن القواعد الحزبية والشعبية رافضة له، وأن مصيره هو التهميش السياسي.

مثل هذه التبسيطات تتجاهل الديناميات المعقدة للمشهد السياسي والتحولات في مزاج الشارع الكردي، الذي شهد تطورًا ملموسًا في وعيه السياسي وتطلعاته. صحيح أن بافل قد لا يتمتع بالخبرة السياسية الطويلة التي يمتلكها القادة التقليديون، لكنه استطاع استغلال السخط الشعبي على الوضع القائم وتوظيف خطاب شعبوي واستراتيجية إعلامية لصالحه.

حتى إذا افترضنا نجاح خصومه في إبعاده مستقبلاً، فإن الأزمات السياسية والاجتماعية المتفاقمة في العراق وكردستان ستفرز شخصيات أخرى تتحدى الهياكل التقليدية وتستغل رغبة الجماهير في التغيير.

لذا، فيجب التعامل أولا مع الحالة  الوضع الراهن و من ثم تقبل وجود السيد بافل بهذا الكاركتر! المفروض عمليا و علميا، مراعاة شخصية بافل طالباني و طريقة تفكيره  وذلك يتطلب آليات مدروسة تراعي “الأنا” لديه وتتفادى الاستفزاز أو التقليل من شأنه.

إضافة إلى ذلك، يمثل بافل طالباني جيلًا جديدًا من السياسيين الكرد الذين نشأوا في ظل التغيرات العالمية المتسارعة وتأثروا بوسائل التواصل الحديثة والتيارات الشعبوية في مناطق مختلفة من العالم.

 و المؤكد انه لا يمكن حكم كردستان دون الئيكتي و البارتي و لا يمكن اشراك الئيكتي دون ان يكون لتصورات السيد بافل وجود في الرزنامة الوزارية.

أتصور أيضا انه يسعى و بشكل حثيث الى اتفاق استراتيجي ثاني دون الاخذ بنظر الاعتبار مخرجات العملية السياسية و هي نتائج الانتخابات. فعلى البارتي التحضير جيدا لهذا الواقع الجديد الذي لم يكن يحبذه.

*مؤسسة "جريدة"الالكترونية


30/11/2024