*المركز الكردي للدراسات
أطلقت هيئة تحرير الشام وفصائل جهادية أخرى متحالفة معها عملية عسكرية واسعة حملت اسم «ردع العدوان» في 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي تمكنت خلالها من السيطرة على مدينة حلب، ثاني أكبر مدن سوريا، بالإضافة إلى عشرات المدن والبلدات في كل من محافظتي حلب وادلب، ومستولية على كميات كبيرة من الأسلحة والعتاد من مخازن الجيش السوري وقواعده العسكرية بعد انسحاب الجنود النظاميين منها.
وبالموازاة مع التوغل السهل للجهاديين في أرياف حلب وادلب ودخولهم وسط مدينة حلب والسيطرة على مقار ومؤسسات الدولة فيها (بينها مطار حلب الدولي)، بدأت المجموعات والفصائل الجهادية بالتوغل في ريف حماة مسيطرة على عدة بلدات، ومتجهة صوب مركز المدينة الواقعة تحت سيطرة القوات النظامية السورية.
وما تزال التطورات تتواصل والأعمال القتالية جارية على الأرض من جهة تقدم الفصائل الجهادية في أرياف المحافظات الثلاث: حلب وادلب وحماة، وتثبيت سيطرتها على أحياء مدينة حلب والمقار الأمنية والعسكرية ودوائر الدولة التي غادرتها كل من قوات الجيش النظامي والمظاهر المدنية التابعة لحكومة دمشق. وبعد التوغل السريع للفصائل الجهادية في المدن والبلدات (السيطرة على أكثر من 740 كم في حلب وادلب) والانهيار الواضح لدفاعات النظام السوري، بدأت الطائرات الحربية السورية والروسية بشن هجمات جوية على مواقع الفصائل الجهادية، في حين تحدثت مصادر رسمية سورية عن إرسال النظام في دمشق تعزيزات عسكرية لمنع سقوط مدينة حماة، معلنة تحول قوات الجيش السوري قريباً إلى الهجوم المضاد لإستعادة المناطق من هيئة تحرير الشام والفصائل الجهادية المتعاونة معها. ووصلت قوات من الحشد الشعبي العراقي إلى الداخل السوري وبدأت في الاشتباك مع الفصائل الجهادية في ريف حلب الجنوبي الشرقي. وفيما يتعلق بالخسائر البشرية، تحدث المرصد السوري لحقوق الإنسان عن مقتل أكثر من 515 شخصاً غالبيتهم مقاتلون من طرفي النزاع.
تطورات إقليمية
تتضارب التحليلات حول أسباب قيام الهيئة بهذه العملية العسكرية واسعة النطاق. منها من يربط العملية بالتطورات والمستجدات على الصعيد الإقليمي بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، والناتجة عن الحرب بين إسرائيل وكل من حركة حماس وحزب الله، ومن ورائهما إيران والميليشيات التابعة لها في كل من سوريا والعراق واليمن، والتي أسفرت عن إلحاق ضربات كبيرة ومؤثرة بالمحور الإيراني لجهة تنفيذ الدولة العبرية اغتيالات وتصفيات لقادة هذا المحور وتدمير القدرة العسكرية لأذرعه وقصف الداخل الإيراني نفسه.
وهو ما عنى إضعاف محور إيران وحزب الله في سوريا وظهور معالم تفكيك الحضور العسكري الإيراني وتدني معنويات الميليشيات الموالية لطهران جرّاء الضربات التي ألحقتها إسرائيل بأذرع هذا المحور.
لقد فهمت الهيئة والفصائل الجهادية واقع إلحاق إسرائيل والولايات المتحدة ضربات بالمحور الإيراني في المنطقة وانعكاس ذلك على الحضور العسكري لكل من إيران وحزب الله في سوريا على أنه ضعف واضح ينبغي استغلاله في شن هجمات واسعة ومباغتة لقضم الأرض والتوسع في مناطق «خفض التصعيد» التي اتفق عليها الروس والأتراك والإيرانيون في الأعوام العشرة الماضية. وقالت الهيئة في بيان أصدرته عند إطلاق العملية إن الهدف من الهجوم هو تسديد «ضربة استباقية لقوات النظام السوري» بسبب «الهجمات المتواصلة من قبل قوات النظام وروسيا» على مناطق التفاهم التركي- الروسي والتي ظهرت بشكل خاص بعد الاتفاق بين موسكو وأنقرة لوقف إطلاق النار بين النظام والفصائل المعارضة في مارس/آذار 2020. وتقول الهيئة إن النظام واصل قصف مناطق تقع تحت سيطرتها بالمسيّرات والطائرات، فيما لم تنقطع الغارات الجوية الروسية على أرياف إدلب الواقعة تحت سيطرة الجبهة وحلفائها.
رأت هيئة تحرير الشام والفصائل الجهادية المتحالفة معها بأن النظام السوري بات محاصراً وضعيفاً نتيجة مجموعة من العوامل منها الضربات التي تلقاها حليفه الإيراني وحزب الله اللبناني، والتي أثرت في حضورهما العسكري الميداني في سوريا، ناهيك عن تردي الأوضاع الاقتصادية ومعاناة قطاعات واسعة، منهم جنود وأفراد الأجهزة الشرطية والأمنية، فضلاً عن الفساد المتفشي في مؤسسات الدولة وغياب المحاسبة والعدالة. ساهمت كل هذه التطورات في تردي معنويات الجنود على جبهات القتال وشعورهم بالعجز والضعف جراء الضربات التي سددتها إسرائيل داخل وخارج سوريا واستهدفت ظهيرهم إيران وحلفائها.
كذلك، قرأت الهيئة التطورات في الحرب الروسية- الأوكرانية وفهمت منها مدى انشغال روسيا بحيثيات وتفاصيل الحرب وفقدان الملف السوري الأهمية بشكل متدرج لدى موسكو، مع ظهور أولويات أخرى، على رأسها تطورات الجبهة والميدان في أوكرانيا في ظل إمداد الغرب وحلف الناتو الجيش الأوكراني بأسلحة متطورة ونوعيّة قد تعرقل التقدم العسكري الروسي في الأراضي الأوكرانية وتهدد بهجوم مضاد لكييف وتوغل داخل روسيا نفسها، وبالتالي التسبب بإلحاق خسائر كبيرة في صفوف الجنود الروس. بدت التطورات في أوكرانيا وتأزم علاقات روسيا مع الغرب (التهديد بالحرب النووية) فرصة لهجوم موسع تقوم بها الهيئة والفصائل المتعاونة معها دون مخافة ردة فعل قوية وحاسمة من الآلة العسكرية الروسية المتمركزة في سوريا.
وفي ربط للعملية بالمستجدات السياسية الأخرى في الملف السوري، فإنه من الواضح أن الهيئة والفصائل المتحالفة معها قرأت المشهد العام فيما يخص المساعي العربية الهادفة لتأهيل النظام السوري وإجراء مصالحة معه، وأرادت أن تمنع هذا التطور بإشعال الجبهات في سوريا. هدفت الهيئة إلى إبقاء النظام السوري معزولاً عن محيطه العربي، عبر تسخين الساحة السورية وتحقيق ضربات استباقية عسكرية في الميدان تفشل كل الجهود السياسية العربية الساعية للتقارب مع دمشق، وفي نفس الوقت الحيلولة دون حدوث أي مصالحة تركية- سورية يٌمهد لها في الكواليس، أو عرقلتها وجعلها أكثر صعوبة وبعداً عن التحقيق.
الدور التركي
هناك محللون يربطون العملية العسكرية الواسعة للجهاديين بأجندة الدولة التركية، وبالتالي ينفون الاستقلالية والمبادرة الذاتية عن الهيئة، مستندين إلى ضعف قدرتها والفصائل المتحالفة معها على شن عملية كبيرة بهذا الشكل من دون دعم ورعاية تركية، ومن دون تغطية عسكرية ولوجستية وإعلامية وسياسية متواصلة وعلى مدار الساعة من أنقرة. ثمة ربط بين هذه العملية وبين القراءة الجديدة التي يقوم بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في ترتيب وتقوية أوراقه والاستحواذ على المزيد من الأراضي في سوريا لصالح حلفاءه قبل حلول موعد تسلم الرئيس الامريكي دونالد ترامب رسمياً السلطة، وبعد أشهر من محاولات حثيثة قام بها الرئيس التركي للتقارب مع النظام السوري لجأ فيها إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لكي يلعب دور الوسيط بينه وبين الأسد بغية عقد لقاء قمة وإجراء مصالحة بين البلدين يتمكن أردوغان من خلالها من إعادة ملايين اللاجئين السوريين وشرعنة المكاسب التي حققها في سوريا والحضور العسكري والإداري التركي فيها على شكل اتفاقيات رسمية بينه وبين النظام في دمشق، أي الدولة السورية بالمفهوم الدولي. أراد أردوغان وضع ختم دمشق الرسمي على الحضور/الاحتلال التركي في سوريا عبر اتفاقية رسمية تشبه اتفاقية أضنة عام 1998، ولكن بشكل أشمل وأكثر وضوحاً.
وبعد رفض النظام السوري دعوات التقارب مع أردوغان ما لم تنسحب تركيا من الأراضي السورية التي احتلتها أعوام 2016 و2018 و2019، وفي ظل بقاء ملف اللاجئين السوريين في تركيا معلقاً حيث استفادت منه المعارضة (تحديداً حزب الشعب الجمهوري) في التقدم سياسياً على حساب حزب العدالة والتنمية، وإثر تراجع الدور الإيراني بعد تلقي طهران وحلفائها ضربات قاصمة من الدولة العبرية، عمد أردوغان إلى تفعيل دور الهيئة والفصائل الجهادية المحلية والأجنبية المتحالفة معها (أبرزها الجيش التركستاني وحراس الدين ومجموعات الأوزبك والطاجيك) ودفعها للقيام بعملية عسكرية واسعة تستهدف مناطق سيطرة قوات الجيش النظامي السوري والميليشيات الإيرانية المتحالفة معها.
وهنا، يمكن ملاحظة الدور التركي من خلال حجم العملية والاستعداد لها، والذي استغرق أشهراً، بالإضافة إلى مشاركة عشرات آلاف الجهاديين المدربين والتجهيزات اللوجتسية ونوعية الأسلحة والأعتدة المستخدمة، ناهيك عن استخدام أنقرة لحلفائها ضمن ما يسمى بـ«الجيش الوطني السوري» في تأمين الطرق وإحكام الحصار على قوات النظام السوري في حلب وريفها. وتتحدث مصادر عن وجود ضباط أتراك يشرفون على العمليات العسكرية وعن معلومات استخباراتية تصل إلى الجهاديين المهاجمين مصدرها الاستخبارات التركية التي تتابع سير العمليات العسكرية، فيما تستمر وسائل الإعلام التركية، وتلك الناطقة بالعربية التي تمولها الحكومة في أنقرة، في الترويج للعملية على أنها «تقدم للثوار» والتغطية على هوية ورموز الفصائل الجهادية المشاركة وحظر نشر المقاطع التي تظهر هويات ولغات ورموز الجهاديين الأجانب، من أجل تمرير العملية على أنها «تحرير» وجزء من «الثورة السورية» ضد النظام في دمشق.
ويُظهر شعار العملية العسكرية التي أطلقتها هيئة تحرير الشام، وهو «رد العدوان»، وقعاً سياسياً لجهة الادعاء في كونها عملية دفاع عن النفس حيال هجمات وانتهاكات الطرف المقابل، وهو هنا النظام السوري وحليفه الروسي، وليست عملية هجومية واسعة أعد لها منذ أشهر. إنه عنوان قريب من عناوين العمليات العسكرية التركية التي أطلقت لاحتلال أجزاء من سوريا، مثل «غصن الزيتون» عام 2018، والتي انتهت باحتلال مدينة عفرين وتهجير المكون الكردي منها في تطهير عرقي شامل، و«نبع السلام» عام 2019 والتي احتلت فيها أنقرة والجماعات الموالية لها مدينتي رأٍس العين وتل أبيض، وما رافق ذلك من عمليات تهجير كبيرة للمكون الكردي. تبدو العناوين الثلاث مستقاة من نفس المصدر. من القاموس العسكري التركي.
الحرب على الكرد والإدارة الذاتية
في غمرة الانشغال والتكهن بسياسة وموقف هيئة تحرير الشام إزاء المكون الكردي الموجود في حيي الأشرفية والشيخ مقصود بمدينة حلب بعد سيطرة الهيئة على المدينة والموقف من الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، أوعزت تركيا للفصائل الموالية لها والمنضوية تحت ما يسمى بـ«الجيش الوطني السوري» بالتحرك سريعاً وشن هجمات واسعة مدعومة بالقصف الجوي للطائرات الحربية التركية استهدفت منطقة الشهباء التي يتواجد فيها الآلاف من مهجري عفرين وحلب، وشن هجوم على مدينة تل رفعت وقطع الطرق بين هاتين المنطقتين ومدينة حلب، حيث يعيش حوالي ربع مليون مواطن كردي في حيي الأشرفية والشيخ مقصود.
أطلقت الفصائل الموالية لتركيا عملية عسكرية جديدة ضد الشعب الكردي اسمتها «فجر الحرية» بعد التقدم والسيطرة على مواقع للجيش النظامي السوري والاستحواذ على كل من مطار كويرس ومدينة السفيرة والمحطة الحرارية شرق مدينة حلب والفوج 111 والتوجه نحو تل رفعت ومطار منغ العسكري، وبالتالي قطع الطرق الرئيسية الواصلة بين مدينة حلب ومراكز محافظات الرقة ودير الزور والحسكة. والمسار التركي في توجيه العدوان من قبل هذه الفصائل ضد الكرد يشير إلى محاولتها دمج عملية هيئة تحرير الشام مع الخطة التأسيسية لسياسات الجمهورية التركية تجاه الكرد، وهي خطة إصلاحات الشرق أو إصلاح شرق الأناضول التي تعود للعام 1925.
وحذر رامي عبد الرحمن، مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان، من مخاطر ارتكاب فصائل موالية لتركيا مجازر وعمليات تصفية جماعية بحق المكون الكردي، مشيراً إلى أن هناك حوالي 200 ألف مواطن كردي في شمال محافظة حلب محاصرون من قبل الفصائل الموالية لتركيا، وأن حياة هؤلاء في خطر جراء عمليات انتقام وتصفية قد ترتكبها فصائل معينة موالية لتركيا . وناشد عبد الرحمن في تصريحات نشرتها منابر إعلامية الرئيس التركي التدخل لدى الفصائل الموالية لحكومته والحيلولة دون ارتكابها لمجازر وعمليات تصفية على الهوية بحق المواطنين الكرد.
وفيما تحاول الفصائل الموالية لتركيا استغلال التقدم السريع لهيئة تحرير الشام بعد انهيار قطعات الجيش السوري، في شن عمليات عسكرية بتغطية جوية ومدفعية تركية ضد قوات سوريا الديمقراطية وقوات تحرير عفرين وقطع الطرق واعتقال المواطنين الكرد والتنكيل بهم وتصوير ذلك في مقاطع ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، أعلنت الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا التعبئة العامة ورصد كل الجهود والإمكانات للتصدي للهجمات التي تقودها الدولة التركية والفصائل الموالية لها التي تهدف إلى احتلال المزيد من المناطق السورية وضمها لتركيا وتحقيق «الميثاق الملي». وطالبت الإدارة الذاتية الجميع الوقوف خلف قوات سوريا الديمقراطية، وناشدت المجتمع الدولي التدخل لإيقاف عدوان تركيا والفصائل الموالية لها والحيلولة دون حدوث كارثة إنسانية كبرى. كما أصدرت قوات سوريا الديمقراطية بياناً تعهدت فيه بالدفاع عن كل المكونات في وجه المجموعات المسلحة المدفوعة من الدولة التركية والتصدي لمخطط الإبادة الذي يستهدف المدنيين في مناطق الشهباء وحلب، داعية الشباب الكردي والعربي والسرياني والآشوري والأرمني والشركسي إلى الانضمام إلى صفوف المقاومة الشعبية وحمل السلاح للدفاع عن كرامتهم وحياتهم وأرضهم ضد الاحتلال التركي ومرتزقته. وبالتوازي مع بيان قوات سوريا الديمقراطية، صرح فرهاد شامي، مدير المركز الإعلامي لقوات سوريا الديمقراطية، أن قواتهم لم تقبل الانسحاب من حيي الأشرفية والشيخ مقصود، وأن التوجه هو التحشيد والتعبئة وإعلان المقاومة الشعبية الثورية لمواجهة المجموعات الإرهابية.
تسعى الدولة التركية إلى استغلال عملية هيئة تحرير الشام وانهيار دفاعات الجيش السوري والتوغل السريع لقوات الهيئة في محافظات حلب وادلب وحماة في شن هجمات ضد الإدارة الذاتية وإطلاق يد الفصائل المؤتمرة بأمرها لحصار المواطنين الكرد والتنكيل بهم وتخريب ونهب ممتلكاتهم. وتواصل الطائرات الحربية والمدفعية التركية قصف مواقع قوات سوريا الديمقراطية وقوات تحرير عفرين تمهيداً لعمليات هجوم وتوغل بري تقوم بها الفصائل الموالية لأنقرة.
تهدف تركيا إلى استغلال انشغال العالم باستحواذ هيئة تحرير الشام على مدينة حلب، ثاني أكبر مدن سوريا، في شن هجوم شامل على تل رفعت والشهباء وشمال وشرق ريف حلب والتنكيل بالمواطنين الكرد وتهجيرهم من مناطقهم ووضع اليد على ممتلكاتهم ودورهم، أي تكرار ما حدث في كل من عفرين ورأس العين وتل أبيض عندما هجرت أنقرة والفصائل الموالية لها مئات الآلاف من المواطنين الكرد بعد الاستيلاء على أملاكهم، في عملية تطهير عرقي وتهجير جماعي كبيرة. الآن، الأعين على المدنيين الكرد المحاصرين في الشهباء وحلب، وهم بمئات الآلاف . وقد قطعت الفصائل الموالية لتركيا الطريق على هؤلاء للتوجه إلى مدن ومناطق الإدارة الذاتية، ولا تكتف بعدّهم رهائن بل تنكل بهم وتقتل وتعتقل من تعتقد إنه على علاقة بمؤسسات الإدارة الذاتية العسكرية والمدنية.
وعلى الرغم من سياسة التنكيل والبطش هذه وقتل الفصائل التابعة لتركيا لمواطنين كرد (منهم مسنين ومرضى)، إلاّ أن طريقاً تم فتحه بين منطقة الشهباء ومناطق الإدارة الذاتية، حيث بدأت قوافل المهجرين الكرد من أهل عفرين في مخيمات الشهباء تصل إلى مدينة الطبقة في مقاطعة الرقة، فيما استنفرت مؤسسات الإدارة الذاتية لإيواء عشرات آلاف القادمين وتأمين مستلزمات الحياة لهم. وتواصل الفصائل حصار كل من حيي الأشرفية والشيخ مقصود في حلب وتمنع الخروج منه أو الدخول إليه. وكان مظلوم عبدي، قائد قوات سوريا الديمقراطية، نشر في حسابه على منصة «إكس» بأن القوات واجهت هجمات مكثفة من عدة جهات مع انهيار وانسحاب الجيش السوري وحلفائه. وعلى إثره، تدخلت لفتح ممر إنساني بين المناطق الشرقية وحلب ومنطقة تل رفعت لحماية المدنيين من وقوع مجازر بحقهم، موضحاً أن هجمات المجموعات المسلحة المدعومة من الاحتلال التركي قطعت الممر الإنساني، وأنهم يواصلون الاتصال مع الجهات الفاعلة في سوريا لتأمين خروج المدنيين من تل رفعت والشهباء باتجاه مناطق الإدارة الذاتية، فيما يواصل المقاتلون المدافعون عن الأحياء الكردية في مدينة حلب الدفاع عنها في وجه المهاجمين الراغبين بدخول تلك الأحياء.
تعتقد الدولة التركية أن الظرف الحالي مناسب لمواصلة خططها في احتلال المزيد من الأراضي السورية والمضي قدماً في تهجير الكرد من مناطق تواجدهم التاريخي في محافظة حلب، وبالتالي إنجاح مخطط التطهير العرقي والاحلال السكاني، بالإضافة إلى النيل من مشروع الإدارة الذاتية لصالح ترسيخ المناطق التي تديرها الفصائل الموالية لها وتمثلها شكلياً ما تسمى «الحكومة المؤقتة» التي يديرها «الائتلاف السوري» المعارض، الواجهة السياسية للمجموعات المسلحة التي ترتكب الجرائم بحق المواطنين الكرد.
تربط أنقرة بين توغل هيئة تحرير الشام في مناطق شاسعة على حساب الحكومة السورية واعتبار قطاعات واسعة من الأهالي ذلك التوغل «تحريراً» من النظام والميليشيات الإيرانية المتحالفة معه، وبين ما تقوم بها فصائلها من جرائم تنكيل وتهجير وتطهير عرقي بحق المكون الكردي. وتعمل على إدماج الأمرين معاً وإدراجهما ضمن «الثورة» ضد النظام السوري والميليشيات الإيرانية والأجنبية الأخرى. تريد تركيا تأليب السوريين على الكرد بعد تخوينهم واتهامهم بالعمالة للنظام السوري والمحور الإيراني وإشعال حرب عرقية بغية تمرير مشروعها في تدمير الإدارة الذاتية ومؤسساتها وتهجير مئات الآلاف من المواطنين الكرد وتمكين الفصائل الموالية لها.
من الواضح أن رغبة أنقرة في تعزيز حضورها في الملف السوري والاستفادة من تراجع النظام وتقلص الدور الإيراني تتمحور حول هدف رئيسي هو النيل من الكرد ومن مشروع الإدارة الذاتية الذي تراه الخطر الأكبر عليها وتريد تدميره وتوطيد مشروعها المتمثل في المناطق التي تسيطر عليها وتديرها الفصائل المسلحة الموالية لها، حيث اللون العرقي والديني والطائفي الواحد، وحيث حملات التتريك والربط الإداري والاقتصادي بالداخل التركي، تمهيداً لإلحاقها بتركيا.
وكل ذلك ضمن مشروعها الأكبر المتمثل في «الميثاق الملي» الذي يهدف لاقتطاع مناطق شاسعة من سوريا والعراق وإلحاقها بالدولة التركية بعد تدمير وتفكيك تلك المناطق من خلال تفعيل دور الجهاديين والميليشيات المرتبطة بها. وقبل حدوث ذلك، لابد أن يكون قد تم تهجير المكون الكردي (حملات الإبادة والاحتلال والتهجير ما بين 2014 و2024 في كل من شنكال وكوباني وعفرين ورأس العين وتل أبيض وحلب) فتقضي تركيا على التواجد الكردي وتؤسس لأرضية شعبية تقبل الإلحاق بـ«الميثاق الملي» تخلصاً من جحيم الفوضى وسيطرة الميليشيات وغياب الدولة المركزية.