تركيا.. بين سوريا والعراق
بعد أقلّ من شهرين على بدء مرحلة جديدة من «المرونة»، تمهيداً للمصالحة الشاملة بين تركيا وسوريا، انقلبت الأمور رأساً على عقب، وظهر أن «المياه لا تجري في مجاريها».
في أواخر يونيو/ حزيران الماضي، وبعد زيارة للمبعوث الروسي ألكسندر لافرنتيف، إلى العاصمة الروسية دمشق، أبدى الرئيس بشار الأسد انفتاحاً على كل مبادرة «بنّاءة وإيجابية» تهدف إلى المصالحة بين تركيا وسوريا.
أعقبت ذلك تصريحات غير مسبوقة للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بأن لا شيء يمنع من لقاء، وعلى صعيد عائلي حتى، بينه وبين الأسد، كما لا شيء يحول دون عودة العلاقات الدبلوماسية كما كانت، بل أضفى أردوغان لاحقاً أجواء أكثر إيجابية، بالقول إنه قد يدعو الأسد، مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لزيارة تركيا.
كان معروفاً منذ أكثر من سنة أن جهود المصالحة السابقة التي انتهت إلى الفشل في مايو/ أيار 2023 قد توقفت عند الشرط السوري بأن تتعهد تركيا خطّياً، بانسحاب جيشها من سوريا، ليمكن البدء بترتيبات المصالحة، وانعقدت لقاءات على مستوى وزيري الدفاع والخارجية، غير أن تركيا لم تتعهد بذلك.
الآن، قيل إن سوريا، وبناء على طلب من روسيا، قدمت «تنازلاً» بأن تقبل تعهداً تركياً شفهياً بانسحاب جيشها من سوريا، على أن تكون روسيا هي الضامن لهذا التعهد، وإذ أمل الجميع خيراً، تبين أن أنقرة لا تريد التقدم بمثل هذا التعهد رغم الضغوط الروسية.
وسرعان ما خرج الرئيس الأسد بتصريح في يوم الانتخابات التشريعية السورية (15 يوليو/ تموز الماضي) بأن اللقاء مع أردوغان لا ضرورة له إذا كان من أجل «تبويس اللحى»، متهماً أردوغان بالقيام ببهلوانيات لا تنطلي على أحد.
لم تكن مساعي المصالحة الجديدة التي قام بها الروس، والعراقيون، بحاجة إلى المزيد من التصريحات لكي يثبت فشلها، فبعد تصريح الأسد الأخير، ساد الصمت الجانب التركي، غير أن وزير الدفاع التركي، ياشار غولر، أبى إلا أن يضع النقاط على الحروف، ويعلن في 12 أغسطس/ آب الجاري، أن تركيا لن تنسحب من سوريا ما لم تتحقق ثلاثة أمور: إقرار دستور جديد لسوريا، وإجراء انتخابات تشريعية حرة، وترتيبات أمنية على الحدود التركية السورية.
تعكس هذه الشروط تصلباً تركياً، فالشرطان الأولان هما تدخل تركي صارخ في الشؤون الداخلية السورية، أما الشرط الثالث فسوريا تريده قبل تركيا، و«اتفاق أضنة»، الذي رعى الأمن على الحدود بين البلدين منذ عام 1998 وحتى عام 2011، لم يطبّق إلا بعد أن خرقته تركيا بالانحياز إلى طرف المعارضة السورية، وتسليحها، ومن ثم دخول الجيش التركي إلى سوريا عام 2016 واحتلال أقسام من الأراضي السورية.
ويتساءل الكثير عن السبب الذي يحول دون أن تتعهد تركيا بالانسحاب من سوريا، ولو شفهياً، وعلى مراحل؟
ربما نجمل الأسباب في التالي:
* أولاً، أن استمرار تركيا في احتلال أقسام من سوريا ودعم المعارضة المسلحة، يأتيان ضمن الضغوط المستمرة لأنقرة على دمشق في أكثر من قضية.
* ثانياً، أن تركيا لا تواجه ضغوطاً من روسيا وإيران، لتنسحب وتحقق المصالحة مع سوريا، روسيا منشغلة بأوكرانيا، وإيران منشغلة بالوضع في الشرق الأوسط، بعد حرب غزة.
* ثالثاً، أن تركيا لا تستطيع أن تتحدى الولايات المتحدة بعدما أعلنت واشنطن، على لسان سفيرها في تركيا جاك فليك، أنها تعارض المصالحة بين تركيا وسوريا. والمعارضة الأمريكية أهدافها واضحة، وهي إبقاء الضغوط على الأسد، وعلى العقوبات على الشعب السوري، ومنع تهديد الكيان الكردي في شرق الفرات الذي تدعمه أمريكا، ليس حباً بالكرد، بل لأن مصالح أمريكا تقتضي ذلك.
* رابعاً، كل ذلك في وقت تسابق فيه تركيا كل الظروف المعاكسة لكي تثبت أنها تريد الحفاظ على علاقات جيدة مع أمريكا، ومع إسرائيل، رغم كل ما قد يظهر، خصوصاً تجاه إسرائيل، خلاف ذلك.
ما هو لافت أن رئيس وزراء العراق، محمد شياع السوداني، كان في نهاية مايو/ أيار الماضي، أول من أشار إلى بدء جهود جديدة للمصالحة بين تركيا وسوريا.
لكن على ما يبدو، فإن العراق يتبع مساراً مختلفاً، هو يمضي إلى تحسين العلاقات مع تركيا، لا سيما بعد زيارة أردوغان إلى بغداد في 22 إبريل/ نيسان الماضي، وفي واحدة من أكثر القضايا التي تريدها تركيا، وهي شرعنة الوجود العسكري التركي في شمال العراق، لمواصلة محاربة حزب العمال الكردستاني.
في 15 أغسطس/ آب الجاري، زار أنقرة وزيرا دفاع وخارجية العراق، ووقّعا مع نظيريهما التركيين، اتفاقية تحوّل قاعدة بعشيقة التركية العسكرية في نينوى إلى «مركز تدريب مشترك» للقوات العراقية والتركية، وهذا يعني أن الأتراك هم من سيدربون العراقيين لا العكس، ويكون بالتالي للقاعدة وضع قانوني للمرة الأولى في تاريخ التواجد العسكري التركي في العراق.
وهذا يفسر لنا سبب الإصرار التركي في السنوات السابقة على عدم الانسحاب من بعشيقة، ومن كل الشمال العراقي، ولا يستبعد هنا أن تضفي بغداد لاحقاً الشرعية على العديد من القواعد التركية الأخرى.
كل ذلك، في الظاهر على الأقل، مقابل إعفاء العراقيين تحت سن ال15 وفوق سن الخمسين من الحصول على تأشيرة دخول إلى تركيا.
وما بين انسداد جهود المصالحة بين تركيا وسوريا، وتعزيز التعاون العسكري التركي مع العراق أكثر من علامة استفهام.
|