×

  رؤا

حروب الاستنزاف الجديدة والوكلاء في النظام الدولي

23/05/2024

*مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة

"المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة"، هو مركز تفكير Think Tank مستقل، أنشئ عام 2013، في أبوظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة، للمساهمة في تعميق الحوار العام، ومساندة عملية صنع القرار، ودعم البحث العلمي فيما يتعلق باتجاهات المستقبل، التي أصبحت تمثل مشكلة حقيقية بالمنطقة في ظل حالة عدم الاستقرار وعدم القدرة على التنبؤ خلال المرحلة الحالية، بهدف المساهمة في تجنب "صدمات المستقبل" قدر الإمكان.

الباحث عزت إبراهيم:

 اكتسب مصطلح "حرب الاستنزاف" في السنوات الأخيرة مكانة بارزة في السياسة العالمية؛ مما يعكس عودة الصراع الدولي بين القوى الكبرى بعد ثلاثة عقود من الهيمنة الأمريكية منذ نهاية الحرب الباردة. وهكذا أصبحت العناوين والمقالات التي تناقش المنافسة بين القوى الكبرى منتشرة بشكل متزايد، بل وباتت السمة المميزة لعصرنا الحالي، هي كيف تعمل القوى العالمية التقليدية والصاعدة على إلحاق الضرر ببعضها بعضاً دون مواجهات مباشرة فيما بينها.

وفقاً للموسوعة الدولية للحرب العالمية الأولى، تعرّف حرب الاستنزاف بأنها: "العملية المستمرة لإرهاق العدو لإجباره على الانهيار الجسدي من خلال الخسائر المستمرة في الأفراد والمعدات والإمدادات، أو إنهاكه إلى النقطة التي يصبح فيها عرضة للانهيار والقضاء على إرادته في القتال". وغالباً ما تكون المناقشات حول "حروب الاستنزاف" مصحوبة بإشارات إلى "الحروب بالوكالة"؛ إذ تستخدم الدول الأقوى عسكرياً واقتصادياً أنظمة سياسية ومليشيات مسلحة للعمل نيابة عنها؛ بهدف تعظيم استنزاف القوى الأخرى.

دفعت الحرب الأوكرانية الخطاب المحيط بالحروب بالوكالة وحروب الاستنزاف نحو مستوى جديد؛ نتيجة للمواجهة غير المباشرة بين الولايات المتحدة وروسيا. وجاءت الحرب الإسرائيلية على غزة؛ لتعزز فكرة اتجاه العالم نحو حرب باردة جديدة. وفي هذا السيناريو، يتم استغلال الصراعات الإقليمية؛ إما لتصفية الحسابات بين القوى الكبرى، أو لإضعاف قوة مهيمنة على الساحة الدولية.

لقد وصف الرئيس الأمريكي الأسبق أيزنهاور الحروب بالوكالة بأنها "أرخص تأمين في العالم". ووفقاً للرئيس الباكستاني الأسبق ضياء الحق، فإن هذه الحروب ضرورية ومرغوبة للإبقاء على "القدر يغلي". فمن هذه الزاوية يرى المتأمل للأمور أن الحروب بالوكالة تمثل بديلاً منطقياً للدول؛ لتعزيز أهدافها الاستراتيجية دون مشاركة مباشرة ومكلفة ودموية.

وخلصت دراسة أجرتها مؤسسة "راند" عام 2023، باستخدام الأساليب الكمية والنوعية، إلى أن الحروب بالوكالة محتمل تصاعدها في المستقبل القريب لعدة أسباب ترتبط بالمنافسة المحتدمة بين القوى الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة والصين. وعلى الرغم من توصيات هذه الدراسة لواشنطن بتجنب الدخول في حروب جديدة بالوكالة قدر الإمكان لمنع سيناريوهات الحرب الباردة، فإن كل المؤشرات تشير إلى أن الولايات المتحدة تتجه نحو زيادة التورط في الحروب بالوكالة وحروب الاستنزاف. ويتجلى هذا التحول بشكل خاص في نهج الصراعات التي طال أمدها في أوكرانيا وغزة؛ إذ تحظى كل من أوكرانيا وإسرائيل بأهمية كبيرة بالنسبة للاستراتيجية العسكرية الأمريكية.

يناقش الصحفي ديفيد سانجر، في كتابه "الحروب الباردة الجديدة" التحول في التوقعات بشأن اندماج روسيا والصين في الغرب. فقد جاء في كتابه: "كنا مقتنعين أنه على الرغم من كل الصدمات والصدامات والفوضى التي شهدها العالم في القرن الحادي والعشرين، فإنه سيعيد ترتيب نفسه بالصورة التي كنا نتمناها منذ زمن. وكان الطريق المؤدي إلى تحقيق هذه الصورة المنتظرة هو الافتراض السائد عالمياً بأن روسيا كقوة آخذة في الاضمحلال والصين كقوة مستمرة بالتصاعد ستندمجان مع الغرب كل بطريقته الخاصة". فكان يقال: إن كلاً من روسيا والصين لديه مصلحة وطنية كبيرة في الحفاظ على تدفق منتجاته وأرباحه واستثماراته المالية حتى ولو تم هذا مع خصومه الجيوسياسيين، فالاقتصاد سيتفوق في النهاية على القومية والطموح الإقليمي. إلا أن الأحداث الأخيرة جاءت مناقضة لهذه التوقعات؛ إذ تصاعدت حدة التوتر بين الصين وروسيا من جهة، وبين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة من جهة أخرى. وترجع هذه التوترات إلى الطموحات الاقتصادية وتلاشي الإيمان بقدرة العولمة على احتواء الصراعات الدولية.

 

 صعود الوكلاء المسلحين

لقد بات الخبراء اليوم يشعرون بالقلق إزاء التغيرات الكبيرة في المنافسة الدولية واستخدام الحروب بالوكالة لتسوية النزاعات مع الخصوم. وهذا يذكرنا بأحداث سابقة مثل: دعم الولايات المتحدة للمجاهدين الأفغان خلال الحرب الباردة في السبعينيات، أو استخدام الاتحاد السوفيتي لوكلاء كوبيين في أنغولا عام 1974. ويكمن الخطر الحالي في وجود مجموعات مسلحة مدربة تدريباً عالياً ومنتشرة في عدد من الدول، وخاصة بمنطقة الشرق الأوسط وإفريقيا وجنوب شرق آسيا. ويمكن استخدام هذه المجموعات بطرق مختلفة، بما في ذلك إنشاء ولاءات عبر الحدود على نطاق أوسع وأعمق مما كان عليه في الماضي. وبهذه الطريقة أصبح من الممكن الآن تجنيد جهات فاعلة غير حكومية للمشاركة بطرق غير مسبوقة في الصراعات المطلوبة.

في الماضي، لم تكن الجيوش الخاصة خياراً موجوداً على أرض الواقع؛ إذ كان استخدام القوة يقتصر في المقام الأول على الدول أو القوات الحكومية. ثم بعد ذلك أحدثت الحرب الباردة تحولاً في هذه الديناميكية. وبحلول نهاية عام 1991، كانت هناك وفرة من الأفراد ذوي الخبرة العسكرية الاستثنائية؛ مما أدى إلى ظهور الجيوش الخاصة وشركات الأمن العسكري. وقد أصبحت هذه الكيانات اليوم منتشرة في العديد من المناطق حول العالم؛ إذ شاركت أكثر من 150 شركة أمن عسكري في أنشطة بلغت قيمتها 223 مليار دولار في عام 2022، ووصلت سوق الجند المرتزقة إلى 100 مليار دولار. وتشير التوقعات إلى أن سوق شركات الأمن العسكري سوف تتضاعف بحلول عام 2030.

بعد الصحوة من أوهام العالم الأحادي القطب، حولت المؤسسات العسكرية الأمريكية اهتمامها نحو دراسة طبيعة الحروب المستقبلية بين قوتين كبيرتين: الولايات المتحدة والصين. ويشير الباحثون إلى أن هذه الحروب ليست في العادة قصيرة وحادة، بل هي معارك استنزاف طويلة ومرهقة تميل إلى التوسع جغرافياً؛ مما يؤدي إلى جر مناطق أخرى إلى الصراع. وبالرغم من أن الصراع بين الولايات المتحدة والصين بشأن تايوان كان قصيراً وقابلاً للاحتواء، فإنه يشكل استثناءً، فمن غير الممكن تعميم هذا السيناريو استناداً إلى سابقة تاريخية واحدة.

يعيش العالم حالياً مرحلة جديدة من الصراع بين القوى الكبرى، التي تتنافس على الهيمنة السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والعلمية، والتكنولوجية، وتراكم الثروات. ورغم أن قواعد اللعبة لم تشهد تغييرات كبيرة، فإن الوسيلة الأساسية لاستنزاف القدرات لا تزال تتمثل في المواجهات العسكرية غير المباشرة واستغلال الصراعات الإقليمية والحروب الصغيرة لإضعاف الخصوم. وتشير كل الدلائل إلى أن هذا الصراع سيزداد حدة في العقود المقبلة.

*رئيس تحرير الأهرام ويكلي وخبير السياسة الخارجية

  مواضيع أخرى للمؤلف
←  مأزق ماكرون...زلزال اليمين المتطرف في فرنسا
←  تسع معادلات إيرانية داخلية وخارجية بعد رحيل رئيسي
←  شريف هريدي:تكيف طهران..التداعيات المُحتملة لوفاة رئيسي على سياسات إيران
←  حروب الاستنزاف الجديدة والوكلاء في النظام الدولي
←  لماذا خسر حزب العدالة والتنمية الانتخابات البلدية التركية 2024؟
←  التصعيد الإيراني -الاسرائيلي واحتمالات نشوب حرب إقليمية
←  مخاطر الانفلات...خيارات إيران للرد على استهداف قنصليتها في دمشق
←  معاقبة أردوغان..لماذا خسر حزب العدالة والتنمية الانتخابات البلدية ؟
← 
←  محددات نجاح سياسة تصفير المشكلات في الإقليم
←  هل تصبح روسيا والصين معًا بديلًا للفراغ الأمريكى بالمنطقة؟
←  مخاطر "تسليح الاقتصاد" في العام الثاني لحرب أوكرانيا
←  رسائل لواشنطن: تأكيد الصين على إقامة نظام دولي جديد أثناء زيارة شي إلى موسكو
←  فرص نجاح واشنطن في بناء تحالف مع طوكيو وسيول لتحجيم بكين
←  هل تحسم الاستراتيجية الرمادية الصراع الصيني الأمريكي حول تايوان؟
←  العتبة النووية: أبعاد اكتشاف يورانيوم مُخصب بنسبة 84% في إيران
←  رجل الصفقات: لماذا اختارت إيران "شمخاني" لتهدئة علاقاتها بالعرب؟
←  ازدواجية القيادة: رسائل اختيار صلاح عبدالحق قائماً بأعمال مرشد الإخوان
←  تحديات حماية المجتمعات من مخاطر البث المباشر
←  المحددان الكردي والإيراني في التقارب السوري - التركي
←  مستقبل الصين بعد تعزيز القيادة وتجديد النخبة
←  لماذا لم تنجح التهدئة في تسوية صراعات الشرق الأوسط؟
←  سيناريوهات تشكيل الحكومة بعد اقتحام البرلمان العراقي
←  أ. د. محمد كمال: زيارة بايدن.. العودة "الواقعية" للشرق الأوسط
←  ​انسحاب الصدر..أداة ضغط أم مناورة سياسية؟
←  انعكاسات الحرب الروسية في أوكرانيا على النظام الدولي