×

  رؤا

تعدد الأهداف والرسائل: إيران تهاجم كردستان العراق مجدداً

19/02/2024

مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

أنشئ مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية عام 1968 كمركز علمى مستقل يعمل فى إطار مؤسسة الأهرام ويهتم بدراسة القضايا السياسية والإستراتيجية بصورة متكاملة، مع التركيز على قضايا التطور فى النظام الدولى، وأنماط التفاعل بين الدول العربية وبين النظام العالمى الذى تعيش فى ظله أو بينها وبين الإطار الإقليمى المحيط بها، أو بين بعضها البعض

*صافيناز محمد أحمد

 

16-01-2024

مجدداً، استهدف الحرس الثورى الإيرانى فى 16 يناير الجارى (2024) إقليم كردستان العراق بصواريخ باليستية فى هجوم هو الأكثر إثارة للجدل بعد هجوم مارس 2022، وذلك بالنظر إلى دلالة التوقيت؛ حيث الظروف الإقليمية الراهنة الخاصة بالحرب الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023، وبالنظر أيضاً إلى دور "محور المقاومة الإقليمى" – فى العراق ولبنان واليمن- المرتبط بإيران فى هذه الحرب إسناداً للمقاومة الفلسطينية.

وقد استهدف هجوم إيران على أربيل هذه المرة - ووفقاً للراوية الإيرانية - مركزاً للتجسس يعمل لصالح جهاز المخابرات الإسرائيلى "الموساد"، بينما تقول حكومة أربيل أن الضربات استهدفت منزلاً لرجل أعمال كردى، وأسفرت عن وقوع خسائر بشرية. وبررت إيران هذا الهجوم بأنه "حقها المشروع والقانونى لردع تهديدات الأمن القومى"!!، فى إشارة إلى تفجيرات كرمان داخل إيران – أعلن تنظيم "داعش" مسئوليته عنها- في 3 يناير الجاري من ناحية، واغتيال رضى موسوى فى سوريا في 25 ديسمبر الفائت من ناحية ثانية.

بينما رأت الحكومة العراقية، عبر تصريح وزارة الخارجية، أن الهجوم يمثل "سلوكاً عدوانياً على سيادة العراق وأمن الشعب العراقى" وأن بغداد "ستتخذ جميع الإجراءات القانونية" فى هذا الصدد، كما استدعت سفيرها فى طهران للتشاور، بعد أن قدمت مذكرة احتجاج رسمية للقائم بالأعمال الإيرانى فى بغداد، منددة بقصف مناطق سكنية بصواريخ باليستية. على جانب آخر وصفت الولايات المتحدة الاستهداف الإيرانى لكردستان بأنه "عمل متهور"، وجدير بالذكر هنا، أن الهجوم وقع بالقرب من القنصلية الأمريكية فى أربيل، لكنه لم يستهدف أياً من مقراتها.

 

ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية

شكلت الحكومة العراقية وفداً برئاسة مستشار الأمن القومى قاسم الأعرجى لزيارة أربيل والاطلاع على الخسائر التى ألحقتها الضربات الإيرانية بمنطقة سكنية وآمنة؛ حيث أكد الأعرجى أن "ادعاءات استهداف مقر للموساد فى أربيل لا أساس لها من الصحة"، وأن الأهداف التى ضربتها إيران هى أهداف مدنية وليست عسكرية أو استخباراتية. وهنا تتخوف الحكومة العراقية برئاسة محمد شياع السودانى من تحويل العراق مجدداً إلى ساحة لتصفية حسابات المواجهة الإقليمية بين إيران والولايات المتحدة فى ظل المتغير الإسرائيلى، وهو ما تلجأ إليه إيران من آن لآخر ووفقاً لمتغيرات مصالحها الإقليمية المحضة، خاصة فى ظل الظرف الإقليمى الحالى واستشعارها بأن رئيس الحكومة العراقية الذى يحظى بدعمها يتبنى سياسة إقليمية لا تتعارض مع المصالح الإيرانية بصورة فعلية، لكنها فى الوقت نفسه لا تتماهى معها فى سياق معادلة تفاعل العراق مع الولايات المتحدة على الأقل فى الظرف الإقليمى الراهن، وما فرضته تفاعلات المليشيات العراقية المسلحة الموالية لإيران مع الحرب الإسرائيلية على غزة من تبعات على الحكومة العراقية.

بمعنى أكثر تفصيلاً، فإن الاختراقات الإيرانية لسيادة العراق من آن لآخر يزداد معدلها ونطاقها وأدواتها العسكرية (صواريخ باليستية) كلما ازدادت توجسات إيران من اتجاه رئيس الحكومة العراقية لاتباع سياسة "توازن" بين ايران والولايات المتحدة، وهو ما يحاول السودانى فعله من منطلق إدراكه السياسى لصعوبة وربما استحالة فك ارتباط العراق سواء بإيران أو بالولايات المتحدة فى المدى القريب أو المنظور، ومن ثم فإن سياسة "المواءمة" بين الطرفين هى خياره الوحيد والممكن حالياً، وهو الأمر نفسه الذى ترفضه إيران، وإن كانت تبدى استيعاباً له بصورة أو بأخرى، ومن ثم تستخدم اختراقاتها المتكررة لسيادة العراق للتأكيد على محورية مصالحها فيه من ناحية، ورفض استخدامه كمنصة لتهديد أمنها القومى من ناحية ثانية، والضغط كذلك على الحكومة العراقية بهدف اتخاذ إجراءات سريعة من شأنها التعجيل بإنهاء مهمة التحالف الدولى والوجود الأمريكى العسكرى به من ناحية ثالثة.

 

رسائل متعددة

العديد من الرسائل يحملها الهجوم الإيرانى الأخير على إقليم كردستان للداخل العراقى من ناحية، وللخارج من ناحية أخرى:

 

الأولى ،

 وجهتها إيران "ضمنياً" لنمط العلاقة بين الحكومة المركزية فى بغداد وبين حكومة الإقليم فى أربيل، والتى شهدت تحسناً ملحوظاً منذ بداية تولى شياع السودانى رئاسة الحكومة العراقية؛ حيث حاول تذليل العقبات أمام الإشكاليات التى تواجه علاقة الطرفين وفى مقدمتها ميزانية الإقليم، ورواتب الموظفين، وعوائد النفط، وغيرها من الإشكاليات. ومؤدى الرسالة هنا، أن التقارب بين بغداد وأربيل لن يكون على حساب المصالح الإيرانية فى العراق وأبرزها: تأمين مناطق الحدود الإيرانية مع العراق من جهة الإقليم، وإن تم ذلك فعلياً بعقد اتفاق أمني خلال العام الماضى ضمنت به العراق لإيران إنهاء وجود المعارضة الإيرانية فى منطقة الحدود. بالإضافة إلى رغبة إيران فى دفع الحكومة المركزية فى بغداد إلى "ضبط" مستوى علاقات حكومة أربيل مع إسرائيل، وهى بالمناسبة علاقات تعاون متعددة الأوجه ولا تتدخل الحكومة المركزية فيها مباشرة وهو أمر يقلق طهران بصورة مستمرة. 

**وهنا، تبدو انعكاسات الموقف أكثر وضوحاً فيما توارد من أنباء أفادت بأن اجتماع رئيس الإقليم نيجيرفان بارزانى مع قوى الإطار التنسيقى المدعوم من إيران يوم 13 يناير الجارى- أى قبل الهجوم الايرانى على أربيل بيومين -  والذى طلب فيه بارزانى من قيادات الإطار العمل على وقف الاستهدافات الإيرانية المستمرة للإقليم قد باء بالفشل. بل أشارت المصادر إلى أن بعض قيادات الإطار ألمحت إلى صعوبة تنفيذ هذا الطلب؛ نظراً لموافقة حكومة الإقليم على استمرار بقاء قوات التحالف الدولى فى قواعده من ناحية، واستمرار التعاون بينها وبين إسرائيل من ناحية ثانية، باعتبار أن ذلك - ووفقاً لقيادات الإطار – يعطل من مسار إنهاء مهام التحالف الدولى والوجود العسكرى الأمريكى فى العراق ككل.

 

**ووفقا لتلك المعطيات، فإن الهجوم بهذه الكيفية (صواريخ باليستية)، وبهذا الوضوح الإيرانى (تبنى الحرس الثورى العملية بدلاً من حزب الله العراقى الذى استهدف قاعدة التحالف الدولى فى أربيل عدة مرات)، يعنى أن إيران "تحاول" تفكيك البنية المالية الداعمة للحزب الديمقراطى الكردستانى تحديداً؛ حيث أن ضحايا الاستهداف الحالى في 16 يناير الجاري، وهجوم مارس 2022، كان لرجال أعمال داعمين للحزب فى أربيل ويمارسون عملهم بصورة مباشرة فى مجال الطاقة وتجارة النفط بعيداً عن الحكومة المركزية فى بغداد ولهم علاقات تجارية متعددة الأوجه مع الولايات المتحدة .      

 

ثانيها،

 أن إيران بنفسها ومن خلال الحرس الثورى بإمكانها تصفية الوجود الإسرائيلى "الضمنى" فى الإقليم عبر تقليص قنوات التعاون بين أربيل- تحديداً الحزب الديمقراطى الكردستانى -  وتل أبيب على كافة المستويات سواء الاقتصادية (باستهداف رجال أعمال وشركاء لإسرائيل) أو العسكرية (باستهداف القواعد الأمريكية فى الإقليم بالنظر لدعم الولايات المتحدة لإسرائيل فى حربها على غزة)، دون الحاجة إلى الاعتماد على وكلائها المحليين من المليشيات العراقية كحزب الله العراقى وحركة النجباء وغيرهم من المليشيات المساندة للمقاومة الفلسطينية تحت مسمى "المقاومة الإسلامية".

 

ثالثها،

 أن إيران توجه - عبر تنظيم الحرس الثورى بنفسه هذا الهجوم- رسالة للقوى السياسية فيه؛ مؤداها أنها غير راضية عن تعاطيات رئيس الوزراء شياع السودانى – الذى حظى بدعمها - مع مهمة دعم المليشيات الموالية لإيران باستهداف القواعد العسكرية للتحالف الدولى والولايات المتحدة بها وتزايد وتيرتها على خلفية الحرب الإسرائيلية على غزة، وذلك على خلفية وجود تباينات – وإن كانت محدودة التأثير - فى مواقف تلك القوى من تلك الاستهدافات، حيث ترى فيها زجاً بالعراق نحو عدم الاستقرار الأمنى الهش بطبيعته.

 

رابعها،

أن إيران تعيد التذكير مجدداً بقدرتها السياسية والعسكرية على خلط كافة الأوراق الإقليمية فى المنطقة؛ أى التلويح بخيارات التصعيد الإقليمى فى أى وقت تريده، انطلاقاً من العراق باعتباره ركيزة مشروعها الإقليمى من ناحية، وركيزة التواجد الأمريكى العسكرى فى المنطقة أيضاً من ناحية ثانية.

ومن ثم فإن رفع مستوى التصعيد والتوتر الإقليمى من قبل إيران بهذه الوتيرة من شأنه دفع الولايات المتحدة والقوى الغربية إلى إعادة التفكير فى كافة احتمالات اندلاع الحرب الإقليمية الشاملة وتداعياتها على حالة الأمن الإقليمى وأمن المصالح الغربية بالتبعية. 

 

دلالات مهمة

بخلاف هذه الرسائل، فإن ثمة دلالات يمكن استخلالصها من قيام الحرس الثورى الإيرانى باستهداف إقليم كردستان العراق فى هذا التوقيت الإقليمى:

 

الدلالة الأولى،

أن الهجوم الإيرانى على أربيل يأتى فى سياق محاولة طهران تجاوز خسائرها الناتجة عن الاختراق الاستخباراتى التى قامت به إسرائيل خلال الأسابيع الماضية، لاسيما استهداف قيادات إيرانية مثل رضا موسوى فى سوريا، وأخرى موالية لها مثل حسين يزبك فى لبنان.

 هذا بخلاف هجوم "داعش" فى كرمان، وبهذا الهجوم من قبل الحرس الثورى على أربيل؛ فإنها تؤكد على تفوق عملها الإقليمى فى مواجهة الولايات المتحدة والمتعاونين معها فى المنطقة وتحديداً داخل العراق.

 

الثانية،

أن المواجهة الإيرانية مع وكلاء الولايات المتحدة فى العراق ممثلة -من وجهة نظر إيران- فى حكومة إقليم كردستان ستتوقف على المدى الذى ستتفاعل فيه الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون مع مسار الحرب الإسرائيلية على غزة خلال الأسابيع المقبلة؛ ففى حالة استمرار التصعيد الإسرائيلى فإن مزيداً من التصعيد ضد المصالح الأمريكية وقوات التحالف فى العراق سيكون هو عنوان المرحلة القادمة. ليس هذا فقط، بل وفى حالة عدم نجاح الضغوط الدولية أو تلك التى يمارسها حلفاء إيران فى المنطقة فى وقف الحرب فى غزة، فمن المتوقع أن تزداد شراسة إيران فى تفاعلاتها أو تفاعلات وكلائها ضد المصالح الأمريكية سواء فى العراق أو لبنان أو سوريا أو فى منطقة البحر الأحمر؛ لاسيما وأن طول أمد الحرب يضغط بالضروة على أحد أهم حلفائها فى المنطقة وهو حزب الله اللبنانى بالنظر إلى موقعه السياسى فى الحكومة اللبنانية.

 

الثالثة،

أن قواعد الاشتباك بين إيران وبين الولايات المتحدة وإسرائيل لاتزال ضمن سياقاتها دون تغيير حاد، والتى يعد استهداف الحرس الثورى لأربيل أحد جولاتها بالنظر إلى علاقات التعاون المتعددة بين أربيل وتل ابيب من ناحية، ووجود قاعدة عسكرية أمريكية فى أربيل وهى قاعد "حرير" من ناحية ثانية.

ويعزو "ثبات قواعد الاشتباك" الإيرانية مع الخصوم فى أربيل تحديداً إلى كون الإقليم وحكومته هو الحلقة التى لم تستطع إيران اختراقها سياسياً فى العراق حتى الآن؛ على العكس من باقى القوى السياسية سواء الشيعية أو حتى السنية، لاسيما وأن الأخيرة دائماً ما ترسم علاقتها مع إيران عبر علاقتها مع القوى السياسية الشيعية العراقية نفسها. وأيضاً إلى عدم الرغبة الإيرانية فى تورط الحرس الثورى مباشرة فى أعمال عدائية ضد الولايات المتحدة كاستهداف القنصلية الأمريكية فى أربيل مثلاً، لأن إيران عادة ما تترك هذا الأمر للمليشيات العراقية الموالية لها.

 

وفى الأخير،

 فإن الاستهداف الباليستى من قبل الحرس الثورى الإيرانى لأربيل عاصمة إقليم كردستان العراق فى سياقه العراقى الداخلى، يضفى مزيداً من الحرج والتأزم على موقف رئيس الوزراء العراقى شياع السودانى ويضع حكومته فى موقف "العاجز" عن حماية سيادة الدولة على أراضيها حتى وإن كان المستهدف هو إقليم يتمتع بالحكم الذاتى داخلها.

 وفى سياقه الإقليمى يضع العراق وحكومته فى مهب رياح الحرب الإقليمية التى تزداد مؤشراتها كلما طال أمد الحرب الإسرائيلية على غزة .

*خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل -

 

  مواضيع أخرى للمؤلف