×

  قضايا كردستانية

  الشمال السوري تحت المجهر



 

*مركز روجافا للدراسات الاستراتيجية

وسط الاتفاق الدولي حول حلّ الأزمة السورية مازال الشمال السوري يشكّل المعضلة في وضع خارطة الطريق والتوافق الدولي، وهذا ما يستدعي البحث في الوضع القائم هناك من المنحى الاجتماعي والسياسي والأمني، للوقوف على عدّة أسئلة توضّح الإجابة عليها مستقبل الشمال السوري أو على الأقل مواقع التعقيد فيه:

ما هو السبب المباشر ليكون الشمال السوري الأكثر تعقيدًا؟ إلى أي حدّ يسبّب التدخّل التركي استمراراً لمعاناة الشعب السوري؟ إلى أين يتّجه الوجود الروسي في الشمال السوري في ظلّ التنسيق المستمرّ مع الدولة التركية؟ أين الولايات المتحدة الأمريكية من كلّ ما سبق؟

 

– إقليم شمال وشرق سوريا:

الأزمة السورية مستمرّة بتأثيراتها على المحيط الإقليمي للدولة السورية، والدول الفاعلة فيها، وقد أدّت إلى أن يحظى الشأن السوري بحيّز كبير في السياسة الخارجية لهذه الدول وعلى رأسها تركيا وروسيا، وفي شمال وشرق سوريا أيضا الإدارة الذاتية مستمرّة في تحقيق القفزات النوعية وفرض نفسها كقوة فاعلة على جميع الأصعدة، من خلال نظرة عامة تبدو الخطوات الثابتة التي تسلكها القيادة السياسية في شمال وشرق سوريا واضحة.

 وقد كانت محطّة إعلان العقد الاجتماعي مرحلة جوهرية تستحقّ أن تكون نقطة بداية حقيقية لإعلان الانتصار على جميع المتربّصين، عملَت مؤسّسات الإدارة الذاتية التشريعية والتنفيذية والقضائية بكلّ شفافية لضمان أن يكون العقد الاجتماعي من الشعب وللشعب ولخدمة تطلّعات الشعوب في تحقيق حياة حرّة كريمة،.

بذلك لابدّ لنا أن ندرك أنّنا نعيش في كنف ديمقراطية وليدة في الشرق الأوسط، والتي تشكّل بكل تأكيد تهديدًا لوجود الاستبداد المزمن في المنطقة، ليس غريبًا القول أنّنا سنشهد محاولات وأد بكل الأساليب لهذه الوليدة، الإدارة الذاتية لا تعمل على استفزاز أحد أو تتقصّد افتعال الصراعات؛ وإنّما تعمل على إثبات جدارة التجربة وحسن النوايا في حماية حقوق الشعب في العيش  المشترك.

 ردّ الفعل التركي يرتقي إلى جرائم حرب تحول ازدواجية معايير القانون الدولي دون الاعتراف بذلك في تصريحات المسؤولين الدوليين، تستمرّ تركيا باستهداف البنى التحتية في شمال وشرق سوريا، وبالطبع الهدف واضح في تضيق الخناق على لقمة العيش والمقوّمات التي تضمن استمرار الحياة للشعب المتعايش في شمال وشرق سوريا، ولا يمكن أبدًا إخفاء نوايا التهجير ومنها الإرهاب المائي، الطائرات المسيّرة تستهدف بشكل شبه يومي السيارات العسكرية والمدنية، وهذا خارج بنود الاتفاقيات الموقّعة للتهدئة والتي تلتزم بها قوات سوريا الديمقراطية منذ إعلانها.

 إنّ استمرار التخبّط التركي وعدم محاولة قبول هذه التجربة يكلّفها استخدام أساليب فاضحة في معادة إرادة الشعب ومحاولة إثارة النعرات العشائرية، واستلطاف الحكومة السورية لمنع أي تقارب مع الإدارة الذاتية، إلّا أنّه جدير بالذكر الالتفاف الشعبي والجماهيري حول قيادة ومؤسسات الإدارة الذاتية؛ فحتى المتحفّظون على موقفهم تجاه الإدارة الذاتية يعلمون علم اليقين أنّ الحياة في كنف الإدارة الذاتية هي ضمان استمرار الحياة الكريمة، وأنّ أيّ تبدّل في الواقع السياسي للمنطقة سيعود بالجميع مئات الاميال للوراء، ولا نحتاج للكثير لإدراك ذلك؛ فما تعيشه دمشق وباقي المناطق من إرهاق اقتصادي واستمرار القبضة الأمنية يعكس تخيّلات ما يمكن أن يحدثه استلام النظام السوري للسلطة من جديد في هذه المناطق، وما تشهده عفرين ورأس العين (سري كانييه) وإعزاز وجرابس وتل أبيض (گري سپي) من انتهاكات على مدار الساعة، وانفلات أمني وفوضى يجعل حتى العيش مع هذا الشكل من الفوضى صعب التخيّل.

إذًا؛ الشكل السياسي والتنظيمي الذي يعيشه إقليم شمال وشرق سوريا، هو النافذة الوحيدة التي ينبثق منها أمل الحلول للأزمة السورية، ولإدراك شكل أكثر تأكيدًا على إرادة الشعب تم الإعلان عن انتخابات البلدية بمشاركة طوائف وأحزاب مختلفة من جميع المكوّنات، وسط شكل متضامن من الإرادة الحزبية والشعبية لخوض هذه التجربة التي لن نبالغ إذا قلنا إنّها الأولى من نوعها، وبهذا الكمّ من الشفافية- وهي الشعرة التي ستقصم ظهر البعير – هذا ما أدركه النظام التركي وأثارت حفيظته ليطلق التهديدات دون توقّف في محاولة لإيقاف خطّ سير الإدارة الذاتية لتثبيت كل ما هو مكتوب في العقد الاجتماعي على الواقع والانطلاق تحت شعار من” القول إلى الفعل”، الشيء الجوهري من هذه الانتخابات أنّ جميع الجهات التي تحارب جسم وهيكل الإدارة الذاتية، وهم مقتنعون أنّهم يحاربون حزبًا أو أيدلوجية أو مجموعة -كما يدعون- فما بعد هذه الانتخابات إذا ما استمرّت هذه المعاداة فهم يحاربون ويعادون الشعب في إقليم شمال وشرق سوريا؛ لأنّ ما سينتج عن الانتخابات من قادة وإداريين للإدارة الذاتية إنّما هم باختيار صريح وشفّاف من الشعب، وخاصة وضوح الرغبة الشعبية في المشاركة الجماهيرية في هذه الانتخابات.

 

– مناطق الاحتلال التركي:

الفوضى الأمنية وانتهاكات حقوق الإنسان هي العنوان الأنسب لما يحدث هناك، ففصائل المرتزقة مازالت تتقاسم الخريطة ومناطق النفوذ وحصص السرقة من أموال المدنيين المهجّرين عن ديارهم، جميع الممارسات التي يتم ارتكابها تأخذ شكل ضمان عدم عودة الأهالي لاستعادة ممتلكاتهم رغم أنّ الشكليات الدعائية المستخدمة للترويج هدفها التغطية على حقيقة ما يحدث، فالحقيقة أن العناصر المسلّحة تقوم ببيع أشجار الزيتون، ويتم اقتلاع البساتين وبناء مستوطنات بأموال منظّمات خليجية ودولية، الاعتداءات مستمرّة ووصلت إلى قتل مدنيين وإعدامات ميدانية، وصلت الأمور إلى حدّ توجيه اتهام العمل السابق مع الإدارة الذاتية بات جريمة يُعذّب المدنيون ويُعتقلون ويُشرّع قتلهم على أساسها، متجاهلين أنّ ذلك ليس إلّا عملًا مدنيًا يحميه القانون الدولي وليست جريمة أو تهمه إنّما هي حرية اختيار ومتطلّبات معيشة، الحقد المغروس في ذهنية هذه الفصائل التي تعمل بإشراف الاستخبارات التركية جعلت هذا الشكل من الاتهام جريمة، ففي سري كانيه تعرّضت فتاة بعمر 25 عاما للاعتقال وتعرّضت لكل أشكال التعذيب وحكم عليها بالسجن سبع سنوات بعد حلاقة شعر رأسها؛ لأنّها زارت أهلها المقيمين في مخيّم “واشوكاني” في الحسكة فحسب، هذا المثال أصغر شكل من الانتهاكات المرتكبة، من خلاله نحاول تلخيص حقوق الإنسان ومستقبلها في المناطق الآمنة التي تزعم تركيا إنشاءها، تفتيت النسيج الاجتماعي السوري هدف صريح للدولة التركية التي نؤكّد أنّها لا تدّخر جهدًا لإعادة الأمجاد العثمانية.

في ردّ على اجتماع العشائر في شمال وشرق سوريا نُظّم أيضًا اجتماع آخر بذات العنوان في المناطق التي تحتلّها تركيا، ولكن الفرق كان في الممثّلين والبيان الختامي.

فالاجتماع المنعقَد في إقليم شمال وشرق سوريا مثّل العشائر فيه أشخاص عن جميع المكوّنات وبالتساوي، تحدّثوا وقدّموا المقترحات وانتقدوا وتحفّظوا في سبيل الوصول إلى الاستقرار، أمّا في المناطق المحتلّة فجميع المتحدّثين خاطبوا مهاجمين خارج مناطقهم، ولم تتم الإشارة إلى الانتهاكات أو المطالبة بإيقافها أو محاسبة شخصيات بارزة في ارتكاب الجرائم، البيان الختامي للاجتماع الأوّل المنعقد في شمال وشرق سوريا طالب بالعفو ورفع مستوى الخدمات ومحاربة الفساد في شمال وشرق سوريا، أمّا في الاجتماع الذي انعقد في شمال غرب سوريا وسط فوضى أمنية  طالب المجتمعون بإيقاف الانتخابات البلدية ومنع إجرائها في شمال وشرق سوريا، فوارق فاضحة حول حقيقة علاقة الإدارة والسلطة مع الشعب في المنطقتين؛ ففي شمال وشرق سوريا كل ما يحدث هو(أخذ بالرأي) وفي مناطق الاحتلال التركي هو (فرض للرأي).

أفضل ردّ سوري- سوري في مناطق الاحتلال التركي على انتخابات البلديات في إقليم شمال وشرق سوريا هو المطالبة بإجراء انتخابات مماثلة وتشكيل لجان لاستعادة الممتلكات، وفتح الأبواب أمام المنظّمات الحقوقية، ولكن الرد جاء تركيًّا وبذهنية عثمانية وأدوات سورية.

 

– إدلب:

في إدلب هيئة تحرير الشام تفرض نفسها وقوانينها ومنهجيتها، حيث الانتهاكات الذهنية البحتة تمنع حتى التفكير بالتحرّر، قائد تحرير الشام يسوّق نفسه بأنّه قائد ثوري(سنّي) يسعى للمحافظة على مكتسبات الثورة السورية، وهذا يلخّص ولادة الثورة السورية لداعش وجبهة النصرة والأطماع التركية، المفارقة أنّ هيئة تحرير الشام (الاسم الجديد لجبهة النصرة في سوريا) مصنّفة دوليًا كمنظّمة إرهابية، ولكن تشعر أنّ هناك دعمًا دوليًا غير معلن لبقائها حاليا، وهنا أيضًا تفرض ازدواجية معايير القوانين الدولية نفسها، الآن” محمد الجولاني” متّهم بأنّه عميل للنظام السوري، وهيئة تحرير الشام متّهمة أيضًا بأنّها أداة للاستخبارات التركية. إذاً؛ هيئة تحرير الشام هي ورقة للاستخدام سوف يتم حرقها عندما يحين الوقت، أو أنّه سيتمّ حرق آخرين بواسطتها، وهذا قد يضع النقاط على الحروف في محاورات الجانب السوري والتركي في عملية التطبيع بين الطرفين، التحليل المناسب للواقع في إدلب هو أنّ الآلية الإدارية السياسية والعسكرية الموجودة هناك مؤقتة، ونهايتها ستكون إعلانًا للتطبيع السوري – التركي.

 

– موقف النظام السوري:

يستمرّ النظام السوري في المطالبة بانسحاب القوات التركية من أراضيه لاكتمال عملية التطبيع؛ ولكن هذه المطالبة منقوصة لعدم المطالبة بإيقاف الانتهاكات المرتكبة بحق الهوية السورية المناطقیة والثقافية للمناطق المحتلة، ثم إنّ إقرار شكل الحكم والإدارة في سوريا عمومًا أو في الشمال السوري هو شأن سوري بحت، ولا يحقّ لتركيا التلفّظ بالشروط أو بالتدخّلات العسكرية أو بالشأن الداخلي لسوريا.

بالتأكيد إنّ جوهر المفاوضات بين تركيا والنظام السوري للتطبيع هو الإدارة الذاتية، وإن كان هناك خلاف لم يحلّ بين الطرفين فهي الإدارة الذاتية ووجودها، أمّا بالنسبة للمعارضة السورية فإنّ تركيا قد تخلّت عنها كلّيًّا وأصبحت المعارضة السورية شأنًا داخليًّا سوريًّا تنتظر فتح أبواب المصالحات من جديد.

قد نصل في المرحلة القادمة إلى تسوية جديدة بشأن الشمال السوري، بأن يحرس الحدود الجيش السوري الحكومي (الهجانة)، وأن تشرف الشرطة العسكرية الروسية على المناطق المحرّرة من الاحتلال التركي، لبناء إدارات ذاتية لتلك المناطق تضمن عودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم، مع الإبقاء على قواعد تركيا حتى الانتهاء من التسوية الشاملة للأزمة السورية.

 

– موقف روسيا:

روسيا وللمرّة الأولى تعلن أنّ الولايات المتحدة الامريكية (عدو)، هذا الإعلان سيُدفع ثَمنه في سوريا- لحساب أو على حساب أي جانب- هذا يتوقّف على رغبة الوجود في سوريا الأكثر حسمًا، رغم أنّ الترجيحات تصبّ في صالح روسيا، خاصة أنّ الولايات المتحدة الأمريكية باتت تشعر أنّ سوريا والعراق أصبحتا مصدرًا مفتوحًا للانتقاد والجنود الأمريكيون استهدافهم سهل، وأنّ إيقاف الامتداد الإيراني يمكن بأدوات أخرى غير الوجود على الأرض، وهذا ما يفتح الباب على أنّ هناك حقيقة تقول أنّ الدولة التركية وروسيا قد قطعا أشواطًا بعيدة وطويلة في المفاوضات والاتفاقيات حول مستقبل الشمال السوري، وعلى ما يبدو أنّه في شمال غرب سوريا تم الاتفاق على حدود النفوذ القادمة، واستمرار المحادثات موضوعها هو شمال شرق سوريا ورغبة تركيا بضمان إجهاض الإدارة الذاتية، الجولات والدوريات الميدانية الروسية تشير إلى وجود مشروع لبناء ثلاث قواعد روسية على الأقل في منطقة سري كانيه، والمتوقّع حاليًا -حسب الزيارة الميدانية لـ / محطة علوك وتل الارقم(قاعدة أمريكية سابقا) ومحطة الكهرباء مبروكة/، إنّ روسيا تعتمد سياسة الاطلاع فقط على ما يجري من اتفاقيات مع الجانب التركي للنظام السوري وليس الأخذ بالرأي؛ وهذا ما يوضّح فتح المجال للحكومة العراقية للعب دور الوساطة بين النظامين السوري والتركي للتطبيع؛ وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ الاتفاقيات الروسية – التركية والهيكلية التي يتم العمل على وضعها ليست لها علاقة بالتطبيع، إنّما هذه الاتفاقيات سيتم تطبيقها سواء حصل التطبيع أم لم يحصل، حيث تسعى روسيا من خلال ذلك إلى استمالة تركيا والتفاوض معها لتقليص الدور الأمريكي في سوريا؛ وذلك من خلال الطعن بالتعاون الأمريكي مع قوات سوريا الديمقراطية.

 

– موقف الولايات المتحدة الأمريكية:

الإدارة الذاتية أمام فرصة حقيقية لاستيضاح الموقف الأمريكي من حماية مشروع الإدارة الذاتية ضمن الشرعية الدولية، هنا يجب أن تلعب الدبلوماسية دورًا أكبر وإصرارًا على أخذ التعهّدات، لأنّ الموقف الأمريكي الأخير من الانتخابات إنّما يشير إلى غموض موقفها سواء تجاه النظام السوري أو ضرورة المحافظة على تجربة الإدارة الذاتية وتعميمها، والآن الحقيقة تقول إن أرادت الولايات المتحدة الأمريكية الإيفاء بتعهّداتها وردّ الجميل للدماء التي سقطت لحماية العالم من مدّ إرهاب عناصر داعش، فعليها ضمان إجراء الانتخابات المُعلن عنها ودعوة المراقبين الدوليين للمتابعة وإيقاف التهديدات التركية.

في هذا الإطار لا يمكن تجاهل الواقع الذي فرضته حرب غزة وخاصة بعد أخذ مواقف دولية أخيرًا تجاه إسرائيل، لتصبح الولايات المتحدة في موقف حرج في شكل تدخّلاتها بالمنطقة، وهذا ما يفتح المجال أمام روسيا وتركيا لتطبيق اتفاقياتها دون تعنّت من الولايات المتحدة الامريكية.

الأزمة السورية في المرحلة المقبلة قد تكون قد وصلت أخيرًا إلى مفترق طرق، والذي يفرض على الدول الفاعلة مناقشة الحلول وليس خلق العقبات بدعم من الدول العربية ورغبة أوربية بإنهاء قضية اللاجئين السوريين وتحييد الموقع الجغرافي السوري والسلطة القائمة عن الملف والنفوذ الإيراني، وتهديد حزب الله لإسرائيل لعدم تكرار أحداث 7 أكتوبر، أشهر قليلة حاسمة في شكل حلّ الأزمة السورية.


23/06/2024