*راي تاكيه
مجلة «فورين افيرز»/الترجمة والتحرير: محمد شيخ عثمان
الشرق الأوسط مكان يتجنبه معظم رؤساء الولايات المتحدة، ومع ذلك يجدون أنفسهم دائما متورطين في خصوماته. ورغم الدعوات المتكررة للتحول نحو تحديات جيوستراتيجية أخرى، فإن الاعتقاد بأن المصالح الأساسية الأمريكية معنية في المنطقة أبقى واشنطن متواجدة. مخزون النفط في الخليج الفارسي لا يزال حيويا للاقتصاد العالمي. وإيران المهددة تقف قرب العتبة النووية. وضعف الأداء السياسي في العالم العربي أنتج أجيالا من المقاتلين والإرهابيين، بعضهم نفذ هجوما على الولايات المتحدة في ٢٠٠١، وأسفر عن أسوأ حصيلة ضحايا على الأراضي الأمريكية منذ بيرل هاربر.
منذ مطلع القرن الحادي والعشرين حاول رؤساء أمريكيون حل معضلات الشرق الأوسط بالغزو العسكري والدبلوماسية وتدخلات إنسانية محدودة. كلها فشلت.
بعض هذه الخطوات ولد ظواهر أشد خطورة. غزو العراق عام ٢٠٠٣ مثلا أنشأ فصيلا جديدا من الإرهابيين. التدخل العسكري المحدود في ليبيا ٢٠١١ أدى إلى فوضى في شطر واسع من شمال أفريقيا. ومع ذلك ظل كل إدارة تلو الأخرى مفتونة بفكرة فرض رؤية إقليمية.
ثم جاء دونالد ترامب. هذا الرئيس، مثل أسلافه، لم يخرج واشنطن من الشرق الأوسط، لكنه اختلف عنهم بنهج خالٍ تقريبا من المثالية. مواقفه تحركها البراغماتية وسياسة القوة. مثل قادة المنطقة، يقسم ترامب العالم إلى فائزين وخاسرين وينحاز بثبات إلى الفائزين. إسرائيل قوية، فيمنحها مساحة للعمل كما تشاء. دويلات الخليج تملك النفط وتبرم صفقات، فيتعامل معها. أما الفلسطينيون فهم الخاسرون، فلا يستحقون اهتماما كبيرا.
هذا الأسلوب قد يبدو غير رقيق، لكنه آتى نتائج واضحة فخلال خمس سنوات في منصبه نجح ترامب في تطبيع العلاقات بين إسرائيل والعديد من الدول العربية. في أكتوبر أوقف القتال بين إسرائيل وحماس الذي اندلع بعد هجوم حماس في ٧ أكتوبر ٢٠٢٣. ضمن أيضا وصولا تفضيليا لشركات أمريكية إلى نفط وأسواق الخليج. كما شن ضربات ناجحة على جماعات ودول كانت تهدد المصالح الأمريكية، بما في ذلك الجمهورية الإسلامية في إيران.
قرارات ترامب لم تجعل الشرق الأوسط أكثر ديمقراطية، ولم تذهب أبدا لمعالجة المظالم التاريخية في المنطقة. لكنها حافظت على استقرار نسبي بينما عززت المواقع الأمريكية. بعبارة أخرى، حقق ترامب أكثر مما حققه سابقوه الموهوبون وذوو النوايا الحسنة.
شارع الأحلام المحطمة
لفهم سبب نجاح ترامب حيث فشل الآخرون، انظر إلى المقاربة الأمريكية تجاه الدول العربية التي تشكل معظم الشرق الأوسط. لعقود حاول رؤساء أمريكيون حل توترات هذه الدول بطعنها أو دفعها. باراك بوش (جورج دبليو بوش) يبرز كأحد أكثر السياسيين طموحا ووقوعا في هذا الصدد. رده الأول على اعتداءات ١١ سبتمبر كان غزوا لأفغانستان وطرد طالبان وشن «حرب على الإرهاب»، وهو مبرر. لكن بوش ومستشاريه آمنوا أن أفضل طريقة لتحقيق استقرار المنطقة هي غزو العراق. الفكرة كانت أن ذلك سيحوّل الأنظمة الاستبدادية إلى ديمقراطيات موالية للغرب. بدلا من ذلك عمّق الانقسام الطائفي ومكّن إيران. عند خروج بوش كانت المنطقة أكثر اضطرابا مما كانت عند قدومه.
خلفاؤه الديمقراطيون، باراك أوباما وجو بايدن، حرصا على عدم الانزلاق في سياسات المنطقة المعقدة. شعرا بإرهاق الرأي العام الأمريكي من الحروب وفضلا التركيز على الدبلوماسية. لكن كل منهما عانى من المثالية. خلال الربيع العربي انحاز أوباما للشوارع ودفع بمبارك للخروج وتدخل عسكريا في ليبيا أدى إلى إسقاط القذافي فحالت البلاد إلى حالة انقسام. بايدن لم يدفع لتغيير أنظمة لكنه انتقد السعودية بعد مقتل صحفي معارض، مما أضر بمصالح واشنطن الإقليمية.
ترامب بالمقابل يمارس سياسة بلا أحكام مسبقة.
يتعامل مثلا مع أحمد الشارا، الرئيس السوري الجديد الذي تحول من جهادي إلى رجل دولة، إذا انضم لمحاربة داعش. ترامب تداولي بامتياز. يدعم السعودية ودول الخليج لأنها مصادر رأس مال وسوق للصناعات والأسلحة وجزء مهم من أسواق الطاقة العالمية. هؤلاء أطراف يمكنه أن يتعامل معهم تجاريا.
الملوك والقادة العرب ردوا بالمقابل.
بتشجيع من ترامب وقعت البحرين والإمارات اتفاقات إبراهيم عام ٢٠٢٠ مع إسرائيل. السعودية خارج الاتفاقات لكنها تمتلك شراكة أمنية واستخباراتية ضمنية مع إسرائيل. قطر تستمر في احتضان قاعدة أمريكية كبيرة وساهمت في صياغة وقف إطلاق النار في غزة. كل هذه الدول مرتبطة أيضا بمعاملات مالية مع عائلة ترامب، وحيث تختلط الثروات الشخصية بالمصالح الوطنية فإن الخط الفاصل بين التجارة والدبلوماسية يتلاشى.
العصا الكبيرة
منذ قيام الثورة الإيرانية ١٩٧٩ اعتبرت الإدارات الأمريكية الوجود الإيراني كتجمع لفصائل مختلفة، بعضُها قابل للتأثير الأمريكي. سعت إدارات كثيرة لدعم المعتدلين في إيران. ذروة هذا المسعى كانت اتفاق ٢٠١٥ النووي (خطة العمل الشاملة المشتركة) خلال إدارة أوباما، حيث وافقت إيران على تقليص التخصيب وقبول مراقبة دولية مقابل رفع العقوبات.
لكن هذه المقاربة قائمة على فرضية خاطئة. قد تختلف آراء المسؤولين الإيرانيين، لكن يجمعهم معاداة أمريكا، وهي الغراء الذي يوحد النظام. لذلك لن توافق طهران على اتفاق إلا بعد أن تعترف واشنطن بحقها في تخصيب داخلي وأن تسمح لها بالتوسع بعد انقضاء بنود معينة. ناهيك عن أن نخب النظام استغلت مكاسب رفع العقوبات لتمويل شبكات إرهابية وقمع داخلي.
ترامب يمارس سياسة بلا أحكام.
بدلا من المراهنة على الاعتدال، رآى أن القوة هي التي تجلب النتائج مع طهران. في ولايته الأولى ألغى الاتفاق النووي وأعاد فرض عقوبات قاسية. ثم أصدر أمرا باغتيال الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، الذي بنى شبكة من الميليشيات والوكالات الإقليمية لصالح إيران. بدلا من أن يفتح هذا التصرف حربا أوسع، فقد أربك مشاريع إيران الإقليمية وأضعف وكلاءها. أثر ذلك تجلى لاحقا في سوريا عندما تهاوى الجيش وأدت هجمات قوات المعارضة إلى سقوط دمشق بسرعة في أواخر نوفمبر ٢٠٢٤.
وقد كان أكبر إنجاز لترامب، حسب المقال، الضربات على المنشآت النووية الإيرانية في يونيو ٢٠٢٥. لعقود قال كثيرون إن ضرب إيران سيطلق نيران حرب إقليمية، فامتنعوا. لكن ترامب أعطى الضوء الأخضر لإسرائيل ومن ثم انضمت الولايات المتحدة عندما سارت الأمور على ما يرام. قال لاحقا بفخر «لا رئيس كان مستعدا لفعل ذلك، وأنا كنت مستعدا».
الوهم القائم على الدولتين
لعقود دفعت الإدارات الأمريكية بحلول قائمة على دولتين مستقليتين للفلسطينيين والإسرائيليين. لكن تلك المحاولات لم تفض إلى سلام دائم. بوش دعا رسميا لدولة فلسطينية في ٢٠٠٢، وأوباما وبايدن بذلا جهودا دبلوماسية لكنها لم تتحقق. الواقع أن القيادة الفلسطينية كانت تطلب على الطاولة ما فقدته في الحروب، وتاريخيا لا يكافئ المفاوضات من خسروا بالسلاح. مع الوقت تشدّدت مواقف إسرائيل بفعل استمرار الهجمات العسكرية الفلسطينية. القادة الفلسطينيون بدؤوا متمسكين بسردية الخسارة والعزاء، ما أعاق تقبل حلول وسطية.
ترامب لا يؤمن بهذه الرواية. لا يكترث كثيرا للفواعل دون الدولة فهمه أن إسرائيل لا تريد التنازل عن الأرض ولا ينبغي مطالبتها بذلك، وأن حكومات عربية كثيرة توافق على ذلك. بهذه العقلية استطاع إبرام اتفاقات إبراهيم التي صدّق عليها الموقعون رغم عدوان إسرائيل على غزة. لكنه لم يمنح إسرائيل صكا بدون قيود؛ فقد حذرها من ضم الضفة الغربية لكنه سمح بتمدد المستوطنات تدريجيا، ودفع لوقف إطلاق النار في أكتوبر.
قدرته على الضغط جاءت من شعبيته في إسرائيل وصلاته مع ملوك الخليج الذين بدورهم ضغطوا على حماس. كما كسر القاعدة الضمنية بعدم التفاوض المباشر مع حماس، ما ساهم في التوصل للجسر المؤقت لوقف النار.
عوامل الفوضى
ترامب هدّأ أجواء الشرق الأوسط لكنه لم يحل مشكلاته.
رغم إنجازاته المؤقتة، لا سلام شامل، والملفات مثل البرنامج النووي الإيراني لا تزال قائمة، والعالم العربي يعاني من خلل مؤسسي مستمر.
مثال ذلك وقف النار الأخير الذي تفاوضت عليه أطراف عدة؛ هذه المعاهدات الهشة كثيرا ما تنهار. الاتفاق الذي عمل عليه مسؤولون أمثال رون ديرمر وستيف ويتكوف وجاريد كوشنر قد يبقى عرضة للتقلبات.
الخطة المؤلفة من عشرين نقطة لتسليم أسلحة حماس وإعادة إعمار غزة وتهيئة مسار للدولة الفلسطينية قد تبقى راقدة. من الصعب تصور قوة عربية متعددة الجنسيات تدخل غزة وتنهى ما تبقى من حلقات العنف. غزّة قد تبقى جرحا نازفا يعتمد على مساعدات إنسانية بينما تظل قوات الدفاع الإسرائيلية هي الحارس الأمني الأساسي.
التهديد النووي الإيراني بدوره قد يعود.
النخبة الحاكمة في إيران مصدومة وتحاول فهم اختراقاتها الاستخباراتية. قد تسعى إلى تصفية حسابات داخلية وتهميش المرشد الأعلى علي خامنئي. بينما قد تكبّر إيران قرارها إلى أن تنشغل الولايات المتحدة بأزمات أخرى أو يفقد إسرائيل تركيزها، عندها قد تستأنف البرنامج النووي بسرعة.
خلاصة القول
أن استراتيجية واشنطن المعتمدة على الضربات العسكرية باتت آلية مضادة للانتشار النووي؛ والحد من التخاصم مع إيران قد يبدو ممكنا مؤقتا بفضل تقلبات ترامب، لكن الأجيال القادمة قد تضطر لمواجهة نفس المشكلة بوسائل أصعب.
الشرق الأوسط كما هو
لا يعني كل ما سبق أن المنطقة لا يمكن تحسينها. تظل قضايا الحوكمة السيئة، تآكل المؤسسات، والتدهور البيئي مشاكل مزمنة. النخب الحاكمة تدرك السخط الشعبي لكن شغفها بالسلطة يعميها عن الإصلاح. الولايات المتحدة لا تستطيع إجبار هذه القيادات على حكم رشيد، لكنها قادرة على تشجيع توسيع المشاركة السياسية وإصلاح الاقتصاد.
لكن يجب أن تكون أي مبادرات بحذر ومحدودة. الشرق الأوسط ليس مكانا للمثالية الكبيرة، بل لسياق القوى والواقعية — ما يجعله من وجهة نظر الكاتب مثاليا لنهج هذا الرئيس. الآن يتدفق النفط، تقلص التهديدات الإيرانية نسبيا، خفت الاشتباكات في غزة، ولا اضطرابات كبرى. وفي منطقة غالبا ما تنسج فيها الفوضى، هذه إنجازات ليس بالهينة.
*راي تاكيه هو باحث أول في مجلس العلاقات الخارجية ومؤلف كتاب «الشاه الأخير: أمريكا وإيران وسقوط السلالة البهلوية».