الإيزيديون في سنجار.. حين تتحكم السياسة في مصير الأقليات
عزت نوح:
سنجار، الواقعة في شمال غرب العراق، ليست مجرد منطقة جغرافية، بل هي روح الإيزيديين وملاذهم الأخير. غالباً ما تسمع بين الإيزيديين عبارة: "سنجار هو الحصن الأخير لنا؛ بقاءنا مرتبط بهذه الأرض." هذه البقعة الجغرافية كانت دائماً ذات أهمية استراتيجية منذ وجودهم في بلاد الرافدين وحتى اليوم. لقد تعرضوا للاضطهاد تاريخيا، اختارت هذه الأقلية المسالمة العزلة والحياد لحماية أنفسهم من المآسي والانتهاكات التي تعرضوا لها على مر العصور. في بداية القرن العشرين، عانوا من الإبادات الجماعية ابان الحكم العثماني، مرة لدفاعهم عن الأرمن الهاربين من الإبادة في تركيا ومرات عديدة لاختلاف معتقداتهم الدينية. بعد رحيل العثمانيين ووصول الانتداب البريطاني، لم تتحسن أوضاعهم كثيراً، إذ استمرت التوترات في بعض المناطق وقدموا المزيد من الضحايا.
مع قيام الدولة العراقية الحديثة، استمر تهميش الإيزيديين. وفي عهد البعث، شهدت سنجار تغييرات ديموغرافية كبيرة، حيث تم تهجير سكانها من قراهم ونقلهم إلى مجمعات تفتقر لأبسط الخدمات. وبعد سقوط النظام في عام 2003، لم يتغير الوضع نحو الأفضل بخصوص البنية التحتية ومستوى الفقر حتى جاء عام 2014، عندما احتل تنظيم داعش سنجار، محدثاً جرحاً عميقاً في قلب المجتمع الإيزيدي.
يشعر الإيزيديون في سنجار أن العديد قد خذلهم، باستثناء الجبل الذي حماهم من الإبادة التي نفذها تنظيم داعش الإرهابي. هذه التجربة المروعة تركت أثرًا عميقًا في وجدان الإيزيديين، حيث شهدوا تجاهلًا كبيرًا من المجتمع الدولي والعراقي بأسره عندما كانوا يواجهون مصيرهم في منطقة كان العدو يطوقهم من كل جهة.
مع وصولنا إلى الذكرى العاشرة للإبادة الجماعية للإيزيديين، يظل الثالث من أغسطس عام 2014 ذكرى مؤلمة عالقة في أذهانهم. فقد تعرض الإيزيديون لهجوم وحشي، حيث قام تنظيم داعش بعملية تطهير عرقي ضدهم، مما أدى إلى مقتل واستعباد الآلاف من سكان هذه المنطقة. واستُبعدت النساء جنسياً واتخذن سبايا، ولا تزال آثار هذه الإبادة الجماعية تلاحق الأغلبية، مخلفة جروحاً نفسية واجتماعية واقتصادية عميقة بهذا المكون العراقي الأصيل.
تشير التقديرات إلى أن أكثر من 10 آلاف إيزيدي تم قتلهم. ووفقاً لمكتب إنقاذ المختطفين الإيزيديين عام 2023، فقد تم توثيق واكتشاف أكثر من 60 مقبرة جماعية وتعرض 70 مزاراً دينياً للتدمير. ووقع 6417 شخصاً في قبضة التنظيم، تم تحرير 3554 شخصاً منهم، بينهم 1205 نساء و333 رجلاً و1992 طفلاً، بينما لا يزال الآخرون في عداد المفقودين. وأدت الإبادة الجماعية إلى نزوح أكثر من 200 ألف شخص من سنجار إلى إقليم كردستان العراق. وتشير التقديرات إلى أن 160 ألف إيزيدي هاجروا إلى دول العالم، وتعرضت المنطقة لتدمير شبه كامل.
تكاد لا يخلو مجتمع من صراعات داخلية، ومع مرور الوقت، أصبح المجتمع الإيزيدي في سنجار ضحية للصراعات السياسية. هذه الصراعات ليست ناجمة عن تقدير لعراقة وأصالة هذه الديانة، بل تعود بشكل رئيسي إلى الموقع الجغرافي الذي يقطنه هؤلاء السكان، وإلى الأصوات الانتخابية التي قد تُغير الخارطة السياسية في مناطق مثل محافظة نينوى. في هذا السياق، تُستغل قضية التعاطف الدولي مع الإيزيديين لصالح الأجندات السياسية للأحزاب المتناحرة. لا شك أن هذا الوضع هو امتداد لصراع إقليمي أوسع نطاقًا على هذه المنطقة، وهو صراع زادت حدته بعد التغيرات الكبيرة التي خلفها تنظيم الدولة في العراق وسوريا.
من الضروري أن ندرك أن هذه الصراعات تتجاوز البُعد المحلي لتتداخل مع مصالح إقليمية ودولية، مما يزيد من تعقيد المشهد السياسي والاجتماعي. إن استغلال محنة الإيزيديين لأغراض سياسية لا يخدم قضية العدالة والإنصاف، بل يُفاقم من معاناتهم ويؤجج الصراعات الداخلية التي تهدد بتدمير النسيج الاجتماعي في هذه المنطقة الحيوية.
أثرت الإبادة الجماعية بشكل كبير على سلوك الفرد الإيزيدي، حيث أصبحوا أكثر حساسية مقارنة بالفترة قبل ظهور تنظيم داعش. يعيشون الآن في أزمة هوية، حيث يتباين الاعتقاد بين الجماعة الكردية الأصيلة والجماعة الاثنودينية، وبين الاعتقاد بأنهم يزيديون دينيًا وقوميًا فقط. لا شك أن الاعتقاد الأخير هو الأكثر تقبلاً لدى الجيل الحالي. هذا التوجه يعكس استجابة الإيزيديين لمعاناتهم التاريخية، حيث يسعون إلى الحفاظ على هويتهم الدينية والثقافية بوصفها عنصرًا أساسيًا من هويتهم الوطنية.
تحتاج مجتمعاتهم إلى دعم مستمر وتعزيز الأمن لضمان عدم تكرار مثل هذه الكوارث الإنسانية في المستقبل. ويقع المسؤولية على عاتق الحكومة العراقية التي ينادي بها الإيزيديون مثل غيرهم من المكونات العراقية الصغيرة، التي ترغب أن تتولى الحكومة المركزية المسؤولية الكاملة لحمايتهم من أجل عدم تكرار المآسي التي عانوها جراء سيطرة داعش على مناطقهم، ومن خلال انخراط أبناء تلك المناطق في المؤسسات الأمنية والإدارية في تلك المناطق، وإعادة اعمار البنية التحتية وتحفيز الاقتصاد المحلي وتحقيق العدالة الانتقالية لذوي الضحايا، وتعويض الأهالي ماديا جراء الخسائر التي لحقت بممتلكاتهم. إذا كانت بغداد فعلاً ترغب في احتضان الإيزيديين والأقليات الأخرى التي لم تحصل بعد على استحقاقها، يجب ضمان منح الإيزيديين حقوقهم الكاملة في البرلمان العراقي وفق عددهم الفعلي. كما ينبغي تمثيلهم بشكل مناسب في المناصب الأخرى بالمؤسسات السيادية، وأن يكون للإيزيديين ممثلون حقيقيون في البرلمان يعبرون عن آرائهم ومصالحهم، بدلاً من أن يكونوا محسوبين على جهات سياسية أخرى لا تعبر عن رأيهم الحقيقي.
الهاجس الأكبر لدى المكونات الصغيرة في العراق هو عدم استعادة الدولة قوتها وقدرتها على إدارة البلاد بشكل منفرد. وهناك خشية أن يكونوا مهددين بشكل مستمر من قبل التنظيمات الإرهابية والميليشيات المسلحة، وأن يكونوا عاملاً آخر في اندلاع صراعات محلية طائفية بين القوى المتناحرة التي تتنازع على النفوذ والسيطرة على جغرافية المناطق التي تضم الأقليات، بالإضافة إلى محاولات متكررة لتغيير الديموغرافي في تلك المناطق، وان لا يكونوا ضحايا لصفقات سياسية مشبوهة بين الأحزاب العراقية التي تتحكم بالمشهد السياسي منذ سقوط النظام العراقي عام 2003.
يشعر الأقليات الدينية بان قضايا حقوق الإنسان، بما فيها حقوق الأقليات، لم تعد بهذه الأهمية لدى القوى المتحكمة في المنطقة، ولو استثنينا القوى الإقليمية التي لا تهتم بتلك القضايا أساسًا. ربما بسبب أن منطقة الشرق الأوسط لم تعد تحظى بهذه الأهمية، أو أن الأولويات تغيرت بسبب المخاطر ومصالح الدول التي تسيطر على المشهد الدولي.
*عزت نوح هو طالب دراسات عليا في مجال العلوم السياسية في جامعة بيليفيد في جمهورية المانيا الاتحادية.
|