آفاق قطاع الطاقة العالمي عام 2023
“إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية”، شركة استشارات عامة، متعددة المهام، تم تأسيسها في 20 يناير 2021، بأبو ظبي، دولة الإمارات العربية المتحدة،
لاقى قطاع الطاقة، على مدار السنوات الثلاثة الماضية، تحديات جمة، خاصة مع تفشي جائحة كوفيد–19 في أوائل عام 2020، وما استتبعها من فرض قيود على العديد من القطاعات الاقتصادية بغية احتواء انتشار الفيروس، ثم تراجُع معدلات الاستهلاك من الطاقة. وبعدما بدأ قطاع الطاقة يلتقط أنفاسه في عام 2021، مع زيادة الطلب على الطاقة في إطار المساعي الدولية لتسريع جهود التعافي الاقتصادي من تبعات الوباء، اصطدم القطاع بالحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022، فلم تعد أزمة الطاقة أوروبية فحسب مثلما كان في عام 2021، بل عانت دول عدة من ارتفاع أسعار الطاقة في ظل التضخم المتفشي وتفاقم المخاوف المتعلقة بأمن الإمدادات.
وعلى خلفية ذلك، سعت دول العالم للتوسع في البحث عن مصادر جديدة للطاقة، بما في ذلك الطاقة المتجددة، غير أن معدل الانتقال إلى نظام طاقة منخفض الكربون لا يزال يواجه العديد من التحديات، في ظل الضغوط الاقتصادية والجيوسياسية التي تضغط بقوة على فرص زيادة الاستثمارات في مصادر الطاقة المختلفة، وهي إشكاليات ستكون محدِّدة لمشهد قطاع الطاقة خلال عام 2023.
تأثيرات واسعة
كان لاندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022 تأثير عميق على أسواق الطاقة العالمية؛ إذ ساهم ذلك في نقص إمدادات الطاقة وتقلُّب أسعارها، وخلق حالة من عدم اليقين، لتصبح بذلك أول أزمة طاقة عالمية حقيقية، من المتوقع أن تمتد آثارها لسنوات قادمة، على حد وصف وكالة الطاقة الدولية (IEA). وفيما يأتي يمكن تناول أبرز ملامح سوق الطاقة على مدار عام 2022:
1– ارتفاع أسعار الطاقة:
تسببت الأزمة الروسية الأوكرانية في إعاقة مساعي التعافي الاقتصادي من جائحة كوفيد–19؛ حيث أدى تقليص روسيا إمدادات الغاز الطبيعي إلى أوروبا، من جراء العقوبات الغربية على واردات النفط والفحم من روسيا، إلى ارتفاع أسعار الطاقة؛ فبينما ارتفع النفط فوق 100 دولار أمريكي للبرميل في منتصف عام 2022 قبل أن يتراجع في شهور الصيف، فإن سعر النفط عاود الصعود من جديد إلى نحو 140 دولاراً للبرميل؛ وذلك في ديسمبر من العام المنصرم، بينما وصلت أسعار الغاز الطبيعي إلى أعلى مستوياتها منذ عدة سنوات، فيما أثارت الأزمة ضغوطاً تضخمية تسببت في خلق أزمة في تكلفة المعيشة في العديد من البلدان، فضلاً عن تحقيق منتجي الوقود الأحفوري مكاسب غير متوقعة، تزيد عن صافي دخلهم لعام 2021، وتصل إلى تريليوني دولار أمريكي.
جدير بالذكر أن أزمة الطاقة العالمية أسفرت عن زيادة في انعدام الأمن الغذائي في العديد من الاقتصادات النامية؛ حيث وقع العبء الأكبر على عاتق الأسر الفقيرة التي باتت مضطرة إلى إنفاق حصة أكبر من الدخل على الطاقة والغذاء. ووفقاً لبيانات وكالة الطاقة الدولية، فإن هناك نحو 100 مليون شخص، ربما لم يعودوا قادرين على إعداد الطعام باستخدام الوقود النظيف؛ ما أجبرهم على العودة إلى استخدام الوقود الأحفوري.
2– تزايد الاستهلاك العالمي للطاقة:
خلال النصف الأول من عام 2022، ارتفع الاستهلاك العالمي للطاقة 3.2% مقارنةً بالفترة المناظرة من عام 2021. وكان الارتفاع في استهلاك الطاقة المتجددة أعلى من الوقود الأحفوري؛ حيث لبت طاقة الرياح والطاقة الشمسية نحو 77% من ذلك النمو في الطلب على الطاقة، فيما تحملت الطاقة المائية النسبة المتبقية.
3– تسريع إجراءات كفاءة استخدام الطاقة عالمياً:
تسارعت إجراءات كفاءة الطاقة على مستوى العالم في عام 2022؛ حيث تحولت الحكومات والمستهلكون، بشكل متزايد، إلى تدابير الكفاءة كجزء من استجاباتهم لاضطرابات إمدادات الوقود وارتفاع أسعار الطاقة بمعدلات قياسية. وكانت الاستثمارات العالمية في كفاءة الطاقة قد قُدِّرت بزيادة نحوها 16% عن عام 2021.
وتشير البيانات الأولية إلى أنه في عام 2022، كان استخدام الاقتصاد العالمي للطاقة بصورة أكثر كفاءة مما كان عليه في عام 2021 بنسبة 2%، وهو معدل تحسن يقارب أربعة أضعاف ما كان عليه في العامين الماضيين، وهو ما يعني أن عام 2022، مثَّل نقطة تحول حيوية لكفاءة الطاقة، التي تعد واحدة من المجالات الرئيسية للجهود الدولية؛ من أجل الوصول إلى صافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2050.
4– تفاقم أزمة الطاقة الأوروبية:
أدى التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، والعقوبات الغربية اللاحقة، إلى تراكم ضغوط جديدة على إمدادات النفط والغاز المتوترة بالفعل من جراء مساعي التعافي الاقتصادي السريع من الوباء في أوروبا؛ حيث أدت القيود التي وضعتها روسيا على صادراتها من الغاز إلى أوروبا، رداً على العقوبات الأوروبية عليها، إلى خفض إمدادات القارة من الغاز الطبيعي، ومن ثم أدت إلى ارتفاع أسعار الطاقة إلى معدلات قياسية.
وبحسب مايكل ستوبارد المستشار الخاص ومحلل الغاز العالمي في S&P Global Commodity Insights، فإن الحرب الأوكرانية تسببت في إنهاء شراكة ناجحة امتدت لـ50 عاماً في مجال الغاز بين روسيا وأوروبا؛ ما أدى إلى تفاقم أزمة الطاقة الأوروبية الممتدة منذ مطلع عام 2021.
5– تنامي الاهتمام بمصادر الطاقة المتجددة:
ساهمت الحرب في إعادة تقييم سياسات وأولويات الطاقة وإعادة توجيه تجارة الطاقة الدولية بشكل عميق؛ فبينما كان من المتوقع أن يلعب الغاز دوراً رئيسياً في العديد من البلدان باعتباره مصدراً للطاقة منخفض الانبعاثات، كحل وسط بين الوقود الأحفوري المرتفع الانبعاثات ومصادر الطاقة المتجددة، فإن أزمة الطاقة التي أنتجتها الحرب الأوكرانية، أدت إلى التشكيك في موثوقية الغاز الطبيعي باعتباره مصدراً رئيسياً للطاقة.
وعلى خلفية ذلك، اتجهت دول العالم إلى تنويع مصادر الطاقة لديها؛ فبينما استأنفت العديد من الدول الاعتماد على الفحم في توليد الطاقة – الذي كانت الكثير من الدول قد تراجعت عن استخدامه – عمدت عدد من الحكومات في أوروبا وكذلك الولايات المتحدة، إلى التحول علناً نحو التوسع في أهداف الطاقة المتجددة، بغض النظر عن التكلفة المرتفعة المتوقعة؛ إذ عززت استخدام حزم الضرائب والمساعدات لتطوير الموارد النووية، والطاقة الشمسية، وطاقة الرياح والهيدروجين.
وبالتوازي مع ذلك، سارع الأوروبيون إلى زيادة واردات الغاز من منتجين بدلاء، مثل الجزائر والنرويج وأذربيجان، فيما قدم أعضاء الاتحاد الأوروبي أيضاً التزامات بتخزين الغاز، ووافقوا على أهداف طوعية لخفض الطلب على الغاز والكهرباء بنسبة 15% هذا الشتاء من خلال تدابير الكفاءة، وزيادة استخدام مصادر الطاقة المتجددة.
توقعات مقلقة
عندما اقتراب العام المنصرم من نهايته، تراجعت تكاليف الغاز الطبيعي ووقود التدفئة، لكن ذلك لا يُعزَى إلى انتهاء الأزمة، أو أن مشكلات إمدادات الطاقة قد حُلت، بل يرتبط بدرجة كبيرة بتراجع النشاط الاقتصادي وتدابير ترشيد استخدام الكهرباء التي تبنتها عدد من الدول. ومع دخول العام الجديد 2023 تحت مظلة التوترات الجيوسياسية والاقتصادية التي لم تراوح مكانها، تتجه التوقعات نحو القول بهشاشةوعدم استدامة نظام الطاقة العالمي في عام 2023. وفيما يأتي يمكن تسليط الضوء على أبرز الآفاق المحتملة لمستقبل الطاقة في عام 2023.
1– استمرار ارتفاع الاستهلاك العالمي للطاقة:
بحسب بيانات وحدة المعلومات الاقتصادية التابعة لإيكونوميست، فإنمن المرجح أن يرتفع إجمالي استهلاك الطاقة عبر 69 دولة، بنسبة 1.3% فقط في عام 2023، وستكون هذه السنة هي الثانية على التوالي التي تشهد نمواً بطيئاً في الاستهلاك؛ ففي عام 2022 قُدِّر النمو في الطلب بنسبة 0.9% فقط، وسط ارتفاع قياسي في الأسعار وانكماش في إمدادات الغاز والنفط من روسيا.
وعلى الرغم من التحذيرات الكثيرة حول احتمالات الركود في عدد من اقتصادات العالم الكبرى، فإنه يتوقع أن يتجاوز الطلب على مصادر الطاقة – لا سيما الوقود الأحفوري – مستويات ما قبل الجائحة في العام الجاري 2023.
2– تعزيز التوجه نحو الطاقة المتجددة:
من المرجح أن يستمر النمو في الطلب على الطاقة المتجددة مع توقعات بارتفاع استهلاك الطاقة الشمسية وطاقة الرياح بنسبة 11% خلال عام 2023؛ ما يدفع استهلاك الطاقة المتجددة نحو النمو بمعدل متوسط سنوي يبلغ 10% خلال السنوات العشر القادمة. وستظل آسيا أكبر سوق في العالم للاستثمار في الطاقة المتجددة؛ حيث يذهب نصيب الأسد إلى الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية.
بيد أن ارتفاع أسعار الفائدة في العديد من دول العالم، قد يتسبب في ارتفاع تكلفة مشاريع الطاقة المتجددة؛ ما يؤدي إلى تباطؤٍ في الجهود نحو المضي قدماً في تلك المشاريع، فتتباطأ وتيرة انتقال الطاقة، في ظل احتمالية تقلص الدعم المالي لمشاريع التحول في مجال الطاقة في البلدان النامية؛ ما يقلل فرص وصول الكهرباء إلى المزيد من المناطق الجغرافية الفقيرة والضعيفة.
غير أنه إجمالاً، من المقرر أن يتضاعف نمو قدرة الطاقة المتجددة عالمياً خلال السنوات الخمس المقبلة ليصل إلى القدر الذي حققه العالم في العشرين عاماً الماضية، مدفوعاً بالمخاوف المتعلقة بأمن الطاقة، في إطار الأزمة في أوكرانيا. ووفقاً لوكالة الطاقة الدولية، فإن من المرجح أن يقود ذلك النمو كلاً من الولايات المتحدة والصين والهند؛ حيث تدفع هذه الدول نحو تنفيذ سياسات وإصلاحات السوق لدعم نشر مصادر الطاقة المتجددة بسرعة أكبر مما كان مخططاً له سابقاً.
3– توقعات بثبات الطلب على الغاز الطبيعي المسال:
تستبعد وكالة الطاقة الدولية حدوث تغير ملموس فيما يتعلق بالطلب العالمي على الغاز الطبيعي خلال عام 2023؛ حيث تتوقع الوكالة أن ينمو الاستهلاك العالمي للغاز بنسبة 0.4% فقط في عام 2023، بيد أن تلك التوقعات تخضع لمستوى عالٍ من عدم اليقين، لا سيما فيما يتعلق بالإجراءات المستقبلية لروسيا، والتأثيرات الاقتصادية للارتفاع المستمر لأسعار الطاقة، حسبما ذكرت وكالة الطاقة الدولية.
كما تتوقع وكالة الطاقة الدولية أن واردات أوروبا من الغاز الطبيعي المسال ستزيد بأكثر من 60 مليار متر مكعب هذا العام، أو أكثر من ضعف حجم إضافات القدرة التصديرية العالمية للغاز الطبيعي المسال؛ ما يرجح أن توضع التجارة الدولية للغاز الطبيعي المسال تحت ضغوطات قوية على المديَين القصير والمتوسط.
4– الارتفاع المتوقع في الطلب العالمي على الفحم:
أدى ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي إلى تسريع التحول من الغاز إلى الفحم في العديد من البلدان في 2023؛ ما أسفر عن زيادة قدرة الفحم على المنافسة في العديد من الأسواق؛ حيث وصلت أسعاره إلى أعلى ثلاث مستويات على الإطلاق في الفترة بين أكتوبر 2021 ومايو 2022. ومن المتوقع أن يصل استهلاك الفحم في عام 2023، إلى مستويات قياسية بسبب نقص الغاز، وعدم اليقين بشأن الإمدادات، وهما العاملان الناتجان عن الحرب الأوكرانية الممتدة.
5– مواصلة حالة عدم الاستقرار في أسواق النفط:
لا تزال أسواق النفط تعاني من حالة من عدم الاستقرار منذ نشوب الحرب الروسية الأوكرانية، ومن المتوقع أن تستمر تلك الحالة خلال العام الجاري 2023، نظراً لوجود عدد من العوامل التي لا زالت تهمين على محددات النفط، خاصةً في ظل فرض سقف على سعر النفط الروسي عند 60 دولاراً للبرميل، والغموض حول سيناريوهات موسكو للتعامل مع القرار. كذلك فإن ثمة توقعات بشأن استئناف مفاوضات إيران حول عودة الاتفاق النووي الإيراني خلال عام 2023، وهي جميعها أحداث من المحتمل أن تؤثر على سوق النفط في ذلك العام.
6– عودة الدول إلى الطاقة النووية:
من المرجح أن تستكمل بلدان العالم مساعيها في البحث عن مصادر متنوعة للطاقة، وربما تدفع الأزمة بعض الحكومات إلى إعادة التفكير في خططها بشأن التخلص التدريجي من الطاقة النووية؛ فبينما تخطط اليابان – التي كانت قد عطلت محطاتها النووية في أعقاب كارثة فوكوشيما دايتشي في عام 2011 – لإعادة تشغيل سبعة مفاعلات نووية بحلول صيف عام 2023؛ فإن كلاً من كوريا الجنوبية والمملكة المتحدة والهند وبولندا، قد أبدت اهتماماً بإنشاء محطات جديدة للطاقة النووية، كما من المرجح أن تشهد صناعة الطاقة النووية تطوراً كبيراً باستخدام التقنيات المتقدمة الجديدة في مختلف دول العالم، بما في ذلك الدول التي تمتلك البنية التحتية والقوى العاملة اللازمة لاستضافة محطة نووية.
7– احتمالية تفاقم أزمة الطاقة في أوروبا الشتاء القادم:
رغم قطع أوروبا شوطاً طويلاً في تجديد احتياطاتها من الغاز الطبيعي وكبح الطلب المتنامي على الغاز الطبيعي، وعلى الرغم من بلوغ سعة مخازن الغاز الطبيعي في الاتحاد الأوروبي إلى أكثر من 90%، فإن من المتوقع أن يصبح وضع الطاقة في أوروبا أكثر تعقيداً في شتاء 2023–2024؛ إذ ربما تواجه أوروبا صعوبات كبيرة في تجديد احتياطيات الغاز في العام الجاري، خاصةً مع غياب روسيا مصدراً رئيسياً للغاز الطبيعي إلى أوروبا في 2023.
وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى إجبار الصناعة في جميع أنحاء أوروبا على التباطؤ، ورفع تكاليف المدخلات إلى مستويات تجعل الصناعة الأوروبية غير قادرة على المنافسة. وقد يستمر ذلك لعدة سنوات؛ ما يتسبب في ابتعاد سلاسل التوريد العالمية عن أوروبا، وزيادة الضغوط التضخمية على الدول.
ختاماً،
فإنه إلى جانب التدابير الحكومية الرامية إلى حماية المستهلكين من آثار أزمة الطاقة عالمياً، تتخذ العديد من الحكومات في الوقت الراهن، خطوات طويلة المدى، تسعى من خلالها إلى زيادة أو تنويع إمدادات النفط والغاز، كما يتطلع الكثيرون إلى إحداث تغييرات هيكلية في سوق الطاقة العالمية، بحيث تتنوع مصادر الطاقة، فلا تصبح السوق معتمدةً على موردين محدودين فحسب.
ولعل من الاستجابات الأكثر بروزاً في ذلك الإطار، قانون خفض التضخم الأمريكي، وحزمة الاتحاد الأوروبي الملائمة لـ55، وبرنامج التحول الأخضر الياباني (GX)، وهدف كوريا الرامي إلى زيادة حصتها من الطاقة النووية والمتجددة في مزيج الطاقة، وأهداف الطاقة النظيفة الطموحة في الصين والهند، وهي جميعها تدابير جديدة تستهدف دفع الاستثمار العالمي في الطاقة النظيفة إلى أكثر من تريليوني دولار أمريكي سنوياً بحلول عام 2030، بزيادة تتخطى 50%.
|