×

  رؤا

الصراع الأرميني–الأذربيجاني في ناغورني كاراباخ ​والمعضلة الأمريكية

19/02/2024

إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

“إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية”، شركة استشارات عامة، متعددة المهام، تم تأسيسها في 20 يناير 2021، بأبو ظبي، دولة الإمارات العربية المتحدة،

د. محمد سلامي:

يتسم الصراع في إقليم ناغورني كاراباخ بدرجة كبيرة من التعقيد والتشابك، لا سيما مع تداخل أطراف متعددة في الصراع؛ حيث انخرطت ثلاث مجموعات إقليمية من القوى الفاعلة في أزمة جنوب القوقاز: المجموعة الأولى من دول الشرق الأوسط، وتشمل تركيا وإيران، والمجموعة الثانية من منطقة القوقاز، ومنها أرمينيا وأذربيجان، ووسطاء السلام، وهم أوروبا والولايات المتحدة وروسيا. وارتبط هذا الانخراط المتعدد الأطراف بالتكلفة الهائلة للصراع؛ حيث أدت حرب ناغورني كاراباخ إلى مقتل وجرح مئات الأشخاص، ونزوح الآلاف الآخرين. ورغم أن المجتمع الدولي، وخاصةً الولايات المتحدة، يسعى إلى إنهاء الأزمة، يبدو أن واشنطن عالقة بين القيم الأخلاقية والتحديات الجيوسياسية.

 

صراع مزمن

عادةً ما يُوصَف النزاع الإقليمي بين أذربيجان وأرمينيا حول ناغورني كاراباخ بأنه واحد من الصراعات المزمنة على المستوى الدولي؛ فهو مستمر منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، واندلع إلى صراع عسكري بين البلدين في التسعينيات؛ ما أدى إلى احتلال يريفان للمنطقة.

 وفي سبتمبر 2020، شنَّت باكو هجوماً استمر 44 يوماً بدعم من تركيا واستعادت السيطرة على جزء كبير من الأراضي، وانتهى ذلك بوساطة روسيا ونشر قوات حفظ السلام الروسية، لكن موسكو لم تتمكن من إحلال السلام بالكامل. وفي سبتمبر الماضي، اندلعت جولة جديدة من الصراع على ناغورني كاراباخ؛ ما أدى إلى فرار المئات من المنطقة.

ولم يُحقِّق الرد الأمريكي على هذه الحرب التي دامت ثلاث سنوات أي نتائج ملموسة. وبذلت الولايات المتحدة بعض الجهود الدبلوماسية، ودعت الأطراف المعنية إلى الالتزام بالقانون الإنساني الدولي. ومع ذلك، لم تكن منطقة القوقاز أولوية في السياسة الخارجية للولايات المتحدة بالقدر الذي كان عليه منطقة الشرق الأوسط أو أوروبا أو أوقيانوسيا؛ حيث إن الثروة والقوة تتركز في المنطقة الأولى. وعلى الرغم من أن أذربيجان وأرمينيا ليس لديهما علاقات عدائية مع واشنطن، فإنهما ليستا حليفتين رسميتين مع الولايات المتحدة مثل الهند، أو السعودية، أو كوريا الجنوبية أو اليابان.

وقد سعت الولايات المتحدة إلى التعبير عن التزامها بالليبرالية والحرية وحقوق الإنسان والنظام القائم على القواعد من خلال مطالبة أطراف الصراع بالسعي إلى حل سلمي لأزمة ناغورني كاراباخ، ودعوة باكو ويريفان للتوصل إلى اتفاق سلام نهائي.

 

مصالح واشنطن

تتمتع الجالية الأرمينية في الولايات المتحدة بقوة ضغط كبيرة. وفي عام 1992، خلال الحرب الأذربيجانية الأرمينية، تمكَّن اللوبي الأرميني من إدراج المادة 907 في نص قانون دعم الحرية. ووفقاً لهذا القسم، لم تتمكن أذربيجان من الحصول على مساعدة أو دعم مباشر من الولايات المتحدة. ومع ذلك، تم تجاهل المادة 907 مع تغير الأوضاع الجيوسياسية ومصالح الأمن القومي الأمريكي.

تم تنفيذ المادة 907 حتى هجمات 11 سبتمبر أثناء رئاسة جورج دبليو بوش. وبعد الهجمات، طلب الرئيس بوش من الكونجرس التنازل عن هذا البند حتى تتمكن القوات الأمريكية من استخدام أذربيجان باعتبارها نقطة انطلاق للحرب في أفغانستان. وأدى ذلك إلى شراكات أوسع في مجال الطاقة والجيش والأمن بين واشنطن وباكو. ومنذ عام 2002، استخدم معظم رؤساء الولايات المتحدة هذا الحق للتنازل عن المادة 907.

هناك عدة أسباب تجعل الولايات المتحدة غير قادرة أو غير راغبة في التصرف بشكل حاسم رداً على التصعيد العسكري في إقليم ناغورني كاراباخ؛ فالولايات المتحدة مهتمة أكثر بالتعاون مع باكو في مجال الطاقة وما لذلك من تداعيات جيوسياسية، وتعزيز التنافس الأمريكي دولياً.

وفي ظل حرب أوكرانيا وقرار الاتحاد الأوروبي خفض اعتماده على الغاز الروسي بنسبة 45%، وقَّع الاتحاد الأوروبي، في 18 يوليو 2022، اتفاقاً مع أذربيجان بموجبه تتم زيادة واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز الأذري من 8 مليارات متر مكعب إلى نحو 20 مليار متر مكعب بحلول عام 2027.

اللافت أنه حتى عام 2007، كانت اليونان المشتري الأوروبي الوحيد للغاز الطبيعي الأذربيجاني. ولكن منذ إنشاء ممر الغاز الجنوبي في عام 2011، زادت واردات الغاز الأوروبية من أذربيجان. وفي هذا الصدد، تُعَد الولايات المتحدة هي الضامن الأمني لإمدادات الغاز للاتحاد الأوروبي وتؤيد بقوة هذه الاتفاقية. علاوةً على ذلك، فإن إسرائيل تستورد أيضاً ما يصل إلى 40% من احتياجاتها من النفط من أذربيجان.

تُولِي شركات الطاقة الغربية أهميةً كبيرةً لمشاريع الغاز الأذربيجانية. وتدير شركة الطاقة البريطانية "بريتيش بتروليوم" (British Petroleum) مشروعَين رئيسيَّين للغاز في أذربيجان نيابةً عن مجموعة من شركات الطاقة. تضم شركة بريتيش بتروليوم نحو 2400 موظف في القوقاز، وتقوم أيضاً بتطوير خط أنابيب باكو–تبليسي–جيهان (BTC)، الذي تبلغ طاقته 1.2 مليون برميل يومياً، وهو ما يمثل أكثر من 1% من إمدادات النفط العالمية. كما تمتلك شركة "إكوينور" (Equinor) النرويجية، وشركة "توتال إنيرجيز" (TotalEnergies) الفرنسية، وشركة "إكسون موبيل" (ExxonMobil) حصصاً في مجالات الطاقة في أذربيجان.

 

أهمية جيوسياسية

لقد تعاونت أذربيجان والولايات المتحدة في مجال الدفاع المشترك ومكافحة الإرهاب، من خلال مكافحة انتشار الأسلحة النووية وتهريب المخدرات، وتحسين الأمن في منطقة بحر قزوين الأوسع وخارجها.

وفي مراحل مختلفة على مر السنين، دعم الجيش الأذربيجاني الجهود الأمريكية في العراق ومنطقة البلقان. وفَّرت المطارات في أذربيجان موقعاً مناسباً لرحلات الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي لدعم قوة المساعدة الأمنية الدولية "إيساف" (ISAF) في أفغانستان. كما طوَّر الجيش الأذربيجاني برنامج شراكة حكومية مثمراً مع الحرس الوطني في أوكلاهوما.

من الناحية الجيوسياسية، تُعَد أذربيجان جزءاً من طريق النقل الدولي عبر قزوين (TITR)، المعروف أيضاً باسم الممر الأوسط. ويربط هذا الطريق الاتحاد الأوروبي والصين عن طريق السكك الحديدية والطرق، وينقل 600 مليار يورو سنوياً من قيمة التجارة الثنائية بين الطرفَين عبر آسيا الوسطى وجنوب القوقاز.

ويرى الغرب أن الممر الأوسط بديل للممر الشمالي؛ لأن الأول أبعد عن نفوذ روسيا وبيلاروسيا. ويعد الممر الأوسط أيضاً طريقاً تجارياً أقل تكلفةً بين أوروبا وآسيا؛ لأنه أقصر بمقدار 2000 كيلومتر، ويتمتع بظروف مناخية أكثر ملاءمةً، ويختصر وقت السفر بمقدار الثلث (15 يوماً) مقارنةً بالطريق البحري للممر الشمالي.

 

وأخيراً،

 تأمل واشنطن استخدام أذربيجان للضغط على المنافسين مثل إيران وروسيا. وبعد حرب أوكرانيا، ستسعى موسكو إلى تعزيز وجودها في جنوب القوقاز، التي لم تَحْظَ بكثير من اهتمامها بسبب الأزمة الأوكرانية.

وكانت أرمينيا حليفة لموسكو، لكن بعدما شعرت بالإهانة الشديدة بسبب التقاعس الروسي عن الأزمة، من المرجح أن تطلب الدعم من الغرب. وتشير التدريبات العسكرية المشتركة الأخيرة بين الولايات المتحدة وأرمينيا وقرار يريفان الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية إلى تزايد الاستياء الأرميني من سياسة موسكو، ومع ذلك سيظل الحضور الروسي في منطقة جنوب القوقاز عاملاً مؤثراً في مستقبل الشراكة بين أرمينيا والدول الغربية.

نشأت توترات بين أذربيجان وجارتها الجنوبية إيران بشأن ممر زانجيزور، وعلاقات الأولى مع إسرائيل، والتدريبات العسكرية بالقرب من حدودهما المشتركة، واحتمال بيع طائرات بدون طيار مقاتلة إلى يريفان. تُرحِّب الولايات المتحدة بهذا التباعد بين أذربيجان وإيران. وفي عامَي 2018 و2019، قدَّمت واشنطن أكثر من 100 مليون دولار مساعداتٍ عسكريةً لباكو لمواجهة تهديدات طهران بهدف تعزيز القوات البحرية الأذربيجانية وخفر السواحل في بحر قزوين الغني بالنفط والغاز. يُشَار إلى أن تلك المساعدات تجاوزت المساعدات الأمريكية لجورجيا الشريك الأمريكي الأكثر ولاءً ووضوحاً في المنطقة.

ويُنظَر إلى بحر قزوين على أنه حساس استراتيجياً؛ لأنه يقع على حدود إيران، وقد عملت الولايات المتحدة منذ فترة طويلة بهدوء لمساعدة أذربيجان في مواجهة الوجود العسكري الإيراني القوي في بحر قزوين.

 

باختصار..

كانت أزمة ناغورني كاراباخ بمنزلة اختبار حقيقي للولايات المتحدة بشأن قدرتها على التدخل الفعال في الصراعات والعمل على إيجاد تسوية لها مع الحفاظ على المصالح الجيوسياسية والأمنية. أظهرت ثلاث سنوات من الأنشطة الدبلوماسية الأمريكية في منطقة ناغورني كاراباخ أن واشنطن تحتاج إلى أذربيجان أكثر من أرمينيا؛ لتطوير وجود أقوى في منطقة القوقاز. وتركز الولايات المتحدة على ردع باكو عن التوجه نحو روسيا، ومن ثم لم تُدِنْ أذربيجان بشكل كبير بالرغم من ضغوط أرمينيا على واشنطن للتدخل.

 

 

 

  مواضيع أخرى للمؤلف
←  صعود المعارضة..التداعيات المحتملة لنتائج الانتخابات المحلية التركية
←  الصراع الأرميني–الأذربيجاني في ناغورني كاراباخ ​والمعضلة الأمريكية
← 
←  سياسة الممرات:كيف تزايد الاهتمام الدولي بمشروعات الربط بين الأقاليم؟
←  طموح أنقرة..انعكاسات تزايد الحضور التركي في منطقة بحر قزوين
←  شراكات “واشنطن”:أبعاد انعقاد قمة الولايات المتحدة ودول المحيط الهادئ
←  تنافس جيوسياسي...عن تعزيز نفوذ إدارة بايدن في جزر المحيط الهادئ
←  تأجيل الحسم.. دلالات نتائج الانتخابات التركية
←  اتجاهات تطوير القواعد العسكرية في العالم
←  رؤية رسمية: جلسة استماع لرؤساء الاستخبارات الأمريكية حول التهديدات العالمية
←  ورقة “هلسنكي”: لماذا وافقت تركيا على انضمام فنلندا إلى "الناتو"؟
←  تقييم التهديدات: الاتجاهات الرئيسية في التقرير السنوي لمجتمع الاستخبارات الأمريكي
←  تحالف دفاعي: كيف تعمل روسيا وإيران على تعزيز علاقتهما العسكرية؟
←  صدمات جيوسياسية: ما عواقب تراجع العولمة في أقاليم العالم؟
←  صنع السلام: كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُحدث ثورة في المجال الدبلوماسي؟
←  اللحظة الصينية: كيف تعيد بكين بناء صورتها كقوة عظمى عالمياً؟
←  تهديدات الجفاف: ارتدادات أزمة انحسار المياه في العالم
←  عقيدة هجومية: ما الذي تكشف عنه استراتيجية الأمن القومي الجديدة لليابان؟
←  دعم الحلفاء: كيف ترى القيادة المركزية الأمريكية دور واشنطن القادم في الشرق الأوسط؟
←  استعادة الردع: كيف تفكر الولايات المتحدة في استراتيجيتها النووية؟
←  مجابهة الخصوم: السياسات المحتملة لوكيل وزارة الدفاع الأمريكية للشؤون السياسية
←  كيف تعمل روسيا وإيران على تعزيز علاقتهما العسكرية؟
←  الاتجاهات الرئيسية في تقرير ميونخ للأمن لعام 2023‏
←  خارطة المخاطر العالمية المتوقعة بين عامي 2023 و2033
←  آفاق قطاع الطاقة العالمي عام 2023
←  المخاطر المحتملة التي ستُعيد تشكيل السياسة العالمية في 2023