دفعت موجة الحر الشتوية، والمستويات المنخفضة من الأمطار، والنقص المذهل في تساقط الثلوج، إلى تراجع المياه في الأنهار والقنوات والبحيرات في جميع أنحاء العالم إلى مستويات منخفضة بقدر مقلق؛ إذ أصبح الوضع المائي محفوفاً بالمخاطر؛ وذلك على خلفية المخاوف المتعلقة بندرة إمدادات المياه، وسط تحذير العلماء من احتمال تكرار موجات الجفاف الشديدة التي شهدها العالم خلال العام الماضي؛ إذ إنه عادةً ما ترتبط صور مجاري الأنهار الجافة والبحيرات المنكمشة، بحرارة الصيف الحارقة التي خلفتها آثار التغيرات المناخية.

ووفقاً للإدارة الوطنية الأمريكية للمحيطات والغلاف الجوي، كانت الأشهر الستة الأولى من عام 2022 هي الأكثر سخونةً على الإطلاق عالمياً. ووفقاً لبرنامج كوبرنيكوس لمراقبة الأرض التابع للاتحاد الأوروبي، كانت السنوات السبع حتى عام 2021 هي الأكثر حرارةً على الإطلاق، ومن المتوقع استمرار ارتفاع حرارة الأرض خلال السنوات المقبلة، حال عدم اتخاذ أي خطوات عالمية صارمة نحو التخفيف من آثار التغيرات المناخية.

مؤشرات الظاهرة

لقد انتشرت ظاهرة انحسار المياه في العديد من المناطق الجغرافية مؤخراً، ويمكن استعراض أبرز هذه المناطق على النحو التالي:

1– تفاقم التهديدات لعدد من الأنهار الأوروبية: تسبب انخفاض هطول الأمطار، ودرجات الحرارة المرتفعة لفترات ممتدة في انخفاض مستوى عدد من الأنهار الأوروبية، وأبرزها نهر الراين الذي يعد من أهم الأنهار في أوروبا؛ لكونه شرياناً للملاحة النهرية وللاقتصادات الأوروبية الهامة؛ حيث يمر بفرنسا وألمانيا وهولندا انطلاقاً من سويسرا، كما أدت ظاهرة انحسار المياه إلى تحويل قنوات البندقية التاريخية إلى خنادق موحلة، وكانت آخر مرة شهدت فيها المدينة الإيطالية مثل هذا التراجع قبل نحو 15 عاماً على أقل تقدير، وسط مخاوف من مواجهة إيطاليا موجة جفاف أخرى. ومع مستويات المياه الحالية بات من المستحيل على القوارب التنقل في أجزاء من المدينة؛ الأمر الذي دفع خدمات الطوارئ في المدينة إلى التحذير من عدم إمكانية الوصول إلى منازل بعض السكان.

كذلك تبرز مخاوف من أن تواجه إيطاليا موجة جفاف أخرى مثيلة لما شهدته البلاد منذ نحو 70 عاماً، خاصةً بعد حالة الطوارئ التي شهدتها البلاد في الصيف الماضي؛ نتيجة تساقط أقل من نصف المعدل المعتاد للثلوج فوق جبال الألب. وكذلك فإنه في يوليو الماضي سبق أن أعلنت إيطاليا حالة الطوارئ في المناطق المحيطة بنهر “بو”، الذي يعد مورداً أساسياً لنحو ثلث الإنتاج الزراعي للبلاد.

2– تنامي المخاوف في شرق البحر المتوسط: أثار مشهد انحسار مياه البحر الأبيض المتوسط عدة أمتار عن شواطئ عدة دول عربية، مثل الساحل اللبناني، وشواطئ العريش بمحافظة شمال سيناء المصرية، وكذلك شواطئ عكا، الكثير من المخاوف والتساؤلات التي ارتبطت بتداعيات الزلزال المدمر الذي ضرب تركيا وسوريا، والتي أجَّجها التعجُّل في التصريحات التركية عن احتمالية حدوث تسونامي بعد الزلزال. ويرجع ذلك إلى أن أحد أسباب حدوث “تسونامي” هو الزلازل، بيد أنه لكي يحدث تسونامي بعد الزلزال، يجب أن يكون مركز الزلزال في قاع البحر، وأن تكون حركة قشرة الأرض أثناء الزلزال عمودية وليست أفقية. وبحسب الخبراء، فإن 85% من حركة القشرة الأرضية أثناء الزلازل في سوريا وتركيا كانت حركة أفقية، والباقي حركة عمودية؛ ما دفع تركيا إلى التراجع بسرعة عن تصريحاتها المُخِيفة بشأن “تسونامي”.

3– تزايد مؤشرات الجفاف في الصين: اقترب مجرى نهر جيالينج أحد روافد نهر اليانجتسي، الذي جف جزئياً، من مستويات المياه المنخفضة القياسية في تشونجتشينج؛ أكثر بلديات الصين اكتظاظاً بالسكان، بوتيرة سريعة بسبب الجفاف وموجة الحر؛ إذ احتلت مدينة تشونجتشينج المركز السادس من بين أكثر 10 مواقع شهدت درجات حرارة قياسية في الصين؛ الأمر الذي يرى المراقبون أن من شأنه الإضرار بالمحاصيل الزراعية والتأثير سلباً على الأمن الغذائي في البلاد.

4– تصاعد الضغوط على دول الشرق الأوسط: تُواجِه دول الشرق الأوسط ضغوطاً هائلة في ملف المياه، لا سيما أن بعض دول المنطقة تُعَد من الدول الأكثر عرضةً للآثار الناجمة عن تغير المناخ على مستوى العالم، وما يصاحب ذلك من ارتفاع أكبر في درجات الحرارة، وندرة سقوط الأمطار ومن ثم انتشار الجفاف، وهي عواقب قد تكون لها تبعاتها الوخيمة على البنية التحتية وحياة سكانها، والإضرار بقطاعات التنمية والتأثير على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والصحية والبيئية.

وتعتبر سوريا والعراق من النماذج الرئيسية المطروحة هنا؛ فخلال الشهور الماضية أثيرت مخاوف هائلة عقب انخفاض مناسيب نهرَي دجلة والفرات، وهو الأمر الذي يرتبط بارتفاع معدلات الجفاف والتصحر، وخصوصاً في العراق، ناهيك عن السياسات السلبية التي تتبناها كل من إيران وتركيا، وتؤثر على تدفق النهرين إلى كل من سوريا والعراق.

5– تعرُّض بعض دول أمريكا اللاتينية لتحديات مائية: امتدت ظاهرة انحسار المياه أيضاً إلى بقاع قارة أمريكا اللاتينية؛ إذ كشف العلماء مؤخراً أن الحرارة المرتبطة بتغير المناخ قد فاقمت تأثير الجفاف في الأرجنتين، الذي تسبَّب في تدمير البلاد، نتيجة تلف المحاصيل الناجم عن نقص المياه؛ ما أثر بدوره على الملايين من الناس. ومع ذلك، فإنه على الرغم من خطورة الوضع، تأكَّد أيضاً أن تغير المناخ لم يتسبب في زيادة حدة الجفاف في أمريكا الجنوبية، بل أدَّى فقط إلى تفاقم آثاره.

أسباب متنوعة

تتعدد أسباب ظاهرة انحسار المياه وفقاً لطبيعة وظروف كل منطقة جغرافية، وهي الأسباب التي تتنوع بين أسباب طبيعية وأخرى بشرية، ومن ضمن هذه الأسباب التالي:

1– تأثير العوامل الطبيعية: يرجع انحسار المياه الذي لوحظ في منطقة شرق البحر المتوسط إلى حدوث ظاهرة طبيعية متكررة، وهي ظاهرة المد والجزر التي تختلف في شدتها من مكان إلى آخر ومن وقت إلى آخر؛ وذلك نتيجة تأثير جاذبية القمر وجاذبية الشمس على الكوكب، ناهيك عن العوامل الأخرى، مثل العوامل الجوية المرتبطة بسرعة الرياح التي تساهم في قوة المد والجزر؛ ففي حالة عدم وجود رياح نشطة تسبب حدوث الأمواج، يظهر المد والجزر بشكل أوضح وتتراجع مياه البحر أكثر.

2– انعكاسات ظاهرة الاحتباس الحراري: إن درجات الحرارة القصوى الناتجة عن ظاهرة الاحتباس الحراري تؤدي إلى تكثيف آثار الجفاف؛ وذلك عن طريق التسبب في تبخر المزيد من المياه من التربة والمسطحات المائية؛ ما تنعكس في إيجاد ظروف أكثر جفافاً، كما أن من المرجح أن يؤدي تغير المناخ إلى زيادة التباين في هطول الأمطار وارتفاع درجات الحرارة؛ ما يجعل مسألة إدارة المياه وتدفقها أكثر صعوبةً.

3– انخفاض مستويات الأمطار: سبق أن أوضح المجلس الوطني للبحوث في إيطاليا أن هطول الأمطار انخفض في شمال البلاد بنسبة 40% خلال عام 2022، إضافة إلى استمرار الندرة الكبيرة في الأمطار منذ بداية عام 2023؛ الأمر الذي أثار قلقاً متزايداً من استمرار هذه الظاهرة خلال الأسابيع المقبلة، خاصةً في ظل الاعتماد على مياه الأمطار الغزيرة خلال فترة الربيع.

4– الاستخدام المفرط للمياه الزراعية: لا ترجع ظاهرة انحسار المياه إلى عوامل طبيعية فقط، بل إن العوامل البشرية تتدخل وتلعب دوراً أساسياً في تفاقمها؛ حيث سبق أن أوضحت وزارة الموارد المائية العراقية أن الانخفاض الشديد لمنسوب المياه في نهري دجلة والفرات بالعراق، قد جعل المخزون المائي في البلاد على المحك، وساهم في فقدان العراق نحو 70% من حصصه المائية، مشيرةً إلى أن الانخفاض يرجع إلى أساليب الري الخاطئة، التي أدت إلى مضاعفة النقص في المياه؛ حيث إن المزارعين لا يلتزمون بالمساحات الزراعية المقررة، وفق الخطة الموضوعة من السلطات.

تداعيات مقلقة

من المؤكد أن ظاهرة انحسار المياه تسببت في ظهور وتفاقم العديد من المشكلات البيئية والاقتصادية المعقدة، ومنها:

1– نقص الإنتاج الزراعي: يعد القطاع الزراعي هو أبرز القطاعات الاقتصادية تضرراً من ظاهرة انحسار المياه وانخفاض مناسيبها؛ إذ ضرب الجفاف الشديد في إيطاليا القطاع الزراعي؛ حيث أدى الإجهاد الحراري إلى تقليل المياه والأراضي العشبية الصالحة للرعي؛ ما يتسبب في انخفاض غلة المحاصيل ويؤثر على الثروة الحيوانية. كما تؤدي درجات الحرارة المرتفعة إلى تقليل توافر المياه وتفاقم تأثير الجفاف؛ فعلى سبيل المثال، أصاب الجفاف محاصيل فول الصويا والذرة والقمح في الأرجنتين؛ أكبر مصدر في العالم لزيت الصويا ودقيقه، وثالث أكبر منتج لمحصول الذرة؛ ما أدى إلى خفض توقعات موسم الحصاد بالبلاد.

2– تعطل الأنشطة الاقتصادية: يشير تقرير الكوارث الطبيعية لعام 2022، الذي نُشر بنهاية يناير الماضي، إلى أن الكوارث الطبيعية – ومن ضمنها الجفاف – قد أسفرت عن خسائر اقتصادية مباشرة بقيمة 360 مليار دولار؛ فعلى صعيد كارثة الجفاف الناجمة عن انخفاض مناسيب المياه، تجدر الإشارة إلى اعتماد العديد من الاقتصادات الكبرى على الطاقة الكهرومائية في أنشطتها الصناعية؛ فمثلاً أوقفت بكين عمل شركات مثل Toyota وFoxconn لمدة أسبوع على الأقل مع تفاقم نقص الطاقة الكهرومائية؛ وذلك على خلفية انخفاض منسوب المياه.

هذا وقد أدى انخفاض مستوى نهر الراين الحرج – وهو شريان رئيسي تعتمد عليه الصناعة في جميع أنحاء ألمانيا وسويسرا وهولندا – إلى زيادة العبء على المفاعلات النووية التي تعاني من تأخر الصيانة لنحو 3 سنوات، مع حاجة أوروبا إلى الغاز وتعويض الغاز الروسي بالاستيراد من دول أخرى وعودة محطات الفحم، وحاجتها إلى استبدال النفط الروسي كذلك، خاصةً أن الطاقة الكهرومائية تمثل نحو 11% من إجمالي الطاقة الكهربائية المنتجة في أوروبا كلها.

3– تعطل سلاسل الإمداد: تجبر حالات الجفاف المتزايدة شركات الشحن على التخلي عن بعض طرق الشحن النهرية الرئيسية في العالم؛ فمثلاً تأثرت حركة الملاحة الشحن على طول نهر الراين، الذي يتدفق من جبال الألب السويسرية إلى بحر الشمال، وهو طريق شحن مهم للعديد من المنتجات من الحبوب والمواد الكيميائية والفحم، ومن ثم فإنه عندما تنخفض مستويات المياه، تضطر سفن الشحن إلى الإبحار بحمولة منخفضة؛ ما يؤدي ذلك إلى ارتفاع تكاليف النقل وتأخير سلسلة التوريد.

4– مخاوف بشأن نقص إمدادات المياه: تدفع ظاهرة انحسار المياه إلى إثارة قلق العديد من بلدان العالم بشأن احتمالات نقص إمداداتها من المياه؛ ففي إسبانيا التي شهدت الموجة الأكثر سخونةً على الإطلاق العام الماضي، هناك مخاوف بشأن إمدادات المياه، خاصةً فيما يتعلق بمياه الشرب أو الاستخدامات الاقتصادية، التي تعتمد حصرياً على المطر؛ الأمر الذي دفع البلاد إلى الموافقة على خطط لاستثمار نحو 24 مليار دولار في مجال إدارة المياه، بما في ذلك تدابير لتحسين الصرف الصحي والمعالجة وتحديث الري. والجدير ذكره أنه منذ عام 1980، انخفض متوسط المياه المتاحة بنسبة 12%، مع توقع حدوث مزيد من الانخفاض بنسبة تصل إلى 40% بحلول عام 2050.

5– تفاقم معضلة الاستقرار الداخلي في الدول: لا يمكن إغفال أن تزايد التحدي المائي عالمياً سيكون له انعكاسات سلبية على الاستقرار السياسي الداخلي في العديد من الدول، لا سيما أن العجز المائي يؤدي إلى إشكاليات مجتمعية واقتصادية مختلفة، قد يكون أبرزها أنه يعرقل الكثير من الأنشطة الاقتصادية، ناهيك عن إحداثها بعض التغييرات في حركة الأفراد داخل الدولة، وهي الإشكاليات التي تعمق أزمة الاستقرار الداخلي؛ لأنه يعزز الانتقادات الداخلية للسلطة، ويزيد معدلات الاستياء الشعبي، وهو أمر قابل للحدوث في دول كبيرة مثل الصين.

6– احتمالية تزايد الصراعات بين الدول: ربما تدفع التحديات المائية الراهنة نحو تصاعد حدة الصراعات بين الدول للسيطرة على مصادر المياه، وهي المصادر التي لم تعد قاصرة على المصادر التقليدية مثل الأنهار، بل قد تشمل أيضاً مصادر غير تقليدية، وخصوصاً مع التطور الحادث في تقنيات الاستفادة من المياه الجوفية التي قد تقع بعضها في مناطق حدودية، علاوةً على مساعي بعض الدول إلى الاستفادة من التقنيات الحديثة في عمليات الاستمطار، وهو ما قد يُنتج أنماطاً من “حروب السحب” بين الدول.

خلاصة القول: من المتوقع استمرار ظاهرة انحسار المياه وانخفاض مناسيبها؛ نتيجةً لاستمرار ارتفاع درجة الحرارة؛ وذلك على خلفية العوامل الطبيعية والبشرية المتسببة في ذلك؛ الأمر الذي سيضع مزيداً من الضغوط الاقتصادية والبيئية على مختلف المناطق الجغرافية بأشكال مختلفة ومعقدة، بيد أن من المتوقع أن تستمر البنية التحتية العالمية والاقتصادات الوطنية في الكفاح من أجل التكيف مع العواقب الباهظة لهذه الظواهر المتطرفة.