للقراءة بصيغة PDFHTML tutorial

دفعت التطوُّرات التي شهدها النظام الدولي خلال السنوات الأخيرة، والشكوك التي تحيط بالقيادة الأمريكية المنفردة للنظام الدولي القائم، البعض إلى الحديث عن اللحظة الصينية؛ فقد حرصت بكين خلال السنوات الماضية على التكريس لحضورها ودورها المؤثر في النظام الدولي، والتكريس لصورتها كقوة كبيرة منافِسة لواشنطن، وساعد على ذلك التأثيرات الممتدة للحرب الأوكرانية. لقد حاولت الصين في هذا المضمار تقديم نفسها كوسيط عالمي يحظى بالثقة، وهو دور كانت تستأثر به الولايات المتحدة على مدار عقود، وظهر ذلك مثلاً من خلال مبادرة بكين لإنهاء الحرب الأوكرانية، وكذلك دورها في الاتفاق الأخير بين السعودية وإيران، الذي نص على استعادة العلاقات بين الدولتَين بعد سنوات من القطيعة.

جاءت هذه التحرُّكات الصينية مدفوعةً بعدد من الأهداف الرئيسية؛ قد يكون في مقدمتها محاولة الصين مواجهة الضغوط الغربية عليها؛ فقد عاد الحديث مؤخراً عن سياسات الاحتواء في ظل تبني الولايات المتحدة عدداً من السياسات الجديدة التي تُطوِّق الصين في عدد من المجالات، ناهيك عن إشارة الرئيس الصيني بصورة علنية، لأول مرة، إلى هذه السياسة، وإرجاع تراجع النمو الاقتصادي الصيني في عام 2022 إلى سياسة الاحتواء الأمريكية؛ وذلك خلال حديث جمعه بعدد من رجال الأعمال الصينيين في السادس من مارس الجاري.

تحركات بكين

كثَّفت الصين تحركاتها الدولية في الآونة الأخيرة؛ وذلك ضمن محاولات بكين استغلال حالة السيولة الراهنة في النظام الدولي، وإعادة صياغة صورة الصين بحسبانها قوة دولية مؤثرة، ولديها مقومات القيادة. وفي هذا الإطار، ارتبطت التحركات الصينية بعدد من الأبعاد الرئيسية:

1– تأكيد تحوُّل الصين لفاعل سياسي دولي: كانت الصين تُركِّز في علاقاتها الخارجية على الجانب الاقتصادي، في إطار بناء القوة الاقتصادية الصينية، وكانت لا تنخرط في الصراعات والأزمات الدولية؛ حيث كانت أكثر اهتماماً بتسجيل مواقف بشأنها عبر بيانات تُوضِّح رؤيتها، لكن دون الانخراط المكثف في حلحلتها، والمساعدة في التوصل إلى تسوية لها، بيد أنها مع بداية العام، أضحت أكثر اهتماماً بطرح مبادرات علنية لحل الأزمات الدولية؛ ففي 21 فبراير الفائت، أصدرت بكين مبادرة الأمن العالمي، التي اقترحها الرئيس الصيني، والتي تهدف إلى القضاء على الأسباب الجذرية للنزاعات الدولية، وتحسين حوكمة الأمن وتشجيع الجهود الدولية المشتركة لتحقيق الاستقرار في عصر متقلب ومتغير، وتعزيز السلام الدائم والتنمية في العالم.

كما أطلقت بكين خطتها المقترحة للتسوية السياسية للصراع في أوكرانيا، التي سعى الرئيس الصيني “شي جين بينج” إلى دفعها قدماً من خلال زيارته إلى موسكو شهر مارس الجاري. وربما تراهن بكين على نجاحها في الملف الأوكراني بعد النجاح الدبلوماسي الكبير الذي تحقَّق مع الإعلان عن توصُّل السعودية وإيران بوساطة صينية، في 10 مارس الجاري، إلى اتفاق لإعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بينهما منذ عام 2016.

2– مساعي تشكيل صورة مغايرة للصورة الأمريكية: تحاول بكين في اللحظة الراهنة بناء صورة إيجابية لها مُغايِرة للصورة الأمريكية؛ حيث ركزت كافة وثائق واستراتيجيات إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، على أن الصين قوة تعديلية في النظام الدولي القائم، الذي تهمين عليه الولايات المتحدة، وأنها تسعى لإحداث تحولات في قِيَمه وقواعده، بمساعدة حليفتها روسيا؛ لخدمة مصالحهما. ولكن توسُّط الصين في اتفاق بين السعودية وإيران لإعادة العلاقات الدبلوماسية التي من شأنها تقليل حدة التوترات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، وطرحها مبادرة لحل الأزمة الأوكرانية، يُؤكِّد أنها قوة استقرار في النظام الدولي، وأن لها مصلحة في الحفاظ على أمنه واستمراره بقيمه وقواعده الحالية، وهو الأمر الذي من شأنه تعزيز قوتها ونفوذها الدولي.

3– الحرص على تطوير القدرات العسكرية الصينية: لا يُمكن إغفال أن بناء صورة القوة العظمى عالمياً ينطوي في جانب منه على امتلاك مقومات عسكرية كبيرة، وهو الأمر الذي تتنبَّه إليه القيادة الصينية؛ لذلك أعلنت الصين في شهر مارس الجاري عن خطة لزيادة حجم إنفاقها العسكري بنسبة 7.2% خلال العام الحالي؛ وذلك بهدف دعم وتطوير قدراتها العسكرية، ليصل بذلك إجمالي الإنفاق العسكري إلى 1.55 تريليون يوان، أي ما يعادل نحو 225 مليار دولار.

وتكشف خطة زيادة الإنفاق العسكري عن رغبة الصين في تعزيز قدراتها العسكرية، وخاصةً فيما يتعلق بتشغيل حاملة الطائرات مع زيادة الاستثمار في الإنتاج السريع للطائرات المقاتلة وتكنولوجيا الفضاء والذكاء الاصطناعي. علاوةً على ذلك، فإن الطموحات العسكرية الصينية في هذا الصدد تستهدف دعم قدرة بكين على منافَسة القوة العسكرية الأمريكية؛ حيث تُعَد الولايات المتحدة أقرب منافسي الصين في مجال القوة العسكرية، بجانب القوة الاقتصادية، بيد أن الإنفاق العسكري الصيني لا يزال أقل بكثير من الإنفاق العسكري الأمريكي؛ إذ تبلغ ميزانية الدفاع الصينية الآن نحو 225 مليار دولار، بينما تنفق الولايات المتحدة أكثر من 800 مليار دولار على جيشها هذا العام، بيد أن الصين لديها أكبر مشاة وأكبر بحرية في العالم، وتُواصِل بناء مخزونها من الصواريخ والسفن الحربية والغواصات والطائرات، بما في ذلك القاذفات ذات القدرات النووية والمقاتلات؛ وذلك حتى تحاول موازنة قوتها العسكرية مع نظيرتها الأمريكية.

4– توسيع النفوذ الصيني في أقاليم مختلفة: سعت بكين إلى تعزيز وجودها في أقاليم مختلفة بهدف الضغط على المصالح الأمريكية. يظهر ذلك مثلاً من التحركات السياسية الصينية في منطقة الشرق الأوسط. علاوةً على ذلك، أظهرت الصين اهتماماً كبيراً بأمريكا اللاتينية، وضاعفت نفوذها الاقتصادي والمالي في القارة – التي تُعَد بمنزلة الفناء الخلفي الأهم للولايات المتحدة الأمريكية – خلال السنوات الأخيرة؛ فقد وضَّح تقرير صادر عن ” fDi Intelligence” تقديم الصين قروضاً تصل قيمتها إلى 141 مليار دولار أمريكي، في الفترة من 2005 حتى عام 2022، بواسطة بنكَي ” التنمية الصيني” و “الاستيراد والتصدير الصيني “، لكل من البرازيل والأرجنتين والإكوادور وفنزويلا، متخطيةً بذلك مجموع القروض المقدمة من كل من “البنك الدولي” و”بنك التنمية للبلدان الأمريكية” و”بنك التنمية لأمريكا اللاتينية ” خلال الفترة ذاتها.

وعلى الرغم من عدم تخطي الاستثمارات الصينية في أمريكا اللاتينية حجم الاستثمارات الأمريكية والأوروبية هناك، فإنه يوجد تصاعد ملحوظ في حجم الاستثمارات الصينية هناك، خاصةً المرتبطة بمبادرة “الحزام والطريق”، ناهيك عن دخول الصين في مفاوضات مع كل من كولومبيا وبنما للاتفاق على توقيع اتفاقيات للتجارة الحرة المشتركة، بالإضافة إلى وجود مساعٍ صينية للدخول في مفاوضات مشابهة مع كل من الإكوادور وأوروجواي.

5– بناء اقتصاد صيني قوي: أعلنت الصين في مايو من عام 2020 عن تبني استراتيجية خمسية جديدة تُركِّز بصورة أساسية على بناء اقتصاد صيني قوي يعتمد على سياسة “الدورة المزدوجةdual circulation strategy”، وهو ما يعني تعزيز اعتماد بكين على الداخل لتحقيق معدلات نمو اقتصادي مرتفعة، بغض النظر عن المتغيرات الخارجية، في ظل انتباه صانع القرار الصيني إلى إمكانية تعرضهم للمزيد من الضغوط الخارجية، التي تُضعِف من قدرة اقتصادهم على الحفاظ على معدلات نمو مرتفعة.

6– صياغة نظام اقتصادي بعيداً عن قبضة الدولار الأمريكي: ساعدت الصين روسيا في الإفلات من مظلة العقوبات الأمريكية خلال عام 2014، من خلال الموافقة على إجراء عدد من المعاملات التجارية القائمة فيما بينهما بالاعتماد على عملتيهما المحليتين، بدلاً من اللجوء إلى الدولار. وفي أعقاب ترقية الصين شراكتها مع روسيا إلى “شراكة استراتيجية شاملة” في عام 2019، تزايدت التحركات الصينية–الروسية باتجاه التحلل من هيمنة الدولار على المعاملات التجارية الدولية، وعَمِلتا على إقناع عدد من التجمعات الدولية لتبني السياسة ذاتها، على غرار مجموعة “البريكس”، وأعضاء منظمة شنجهاي للتعاون. وتزايدت هذه التحركات بصورة ملحوظة عقب الحرب الأوكرانية في ظل التقارب الصيني–الروسي.

7– مضاعفة المخزون الصيني من الذهب: تمتلك الصين أكبر احتياطي من الذهب عالمياً؛ حيث أشارت تقديرات المؤسسات الاقتصادية العالمية إلى امتلاكها ما تُقدَّر قيمته بـ117.24 مليار في ديسمبر من عام 2022. وأقدمت بكين أيضاً على عملية شراء جديدة للذهب في يناير من عام 2023، لتزيد حيازتها من الذهب إلى ما يقارب ألفَي طن. ويمكن تفهُّم هذا السياسة الصينية، بأنها تُهيِّئ الاقتصاد الصيني لأي صدمات وعقوبات اقتصادية خارجية قد تُفرَض عليها، وتُعرِّض احتياطاتها من العملة الأجنبية وممتلكاتها الخارجية للمصادرة، على غرار الحالة الروسية.

8– زيادة دعم الحكومة لشركات التكنولوجيا الخاصة: على الرغم من وجود العديد من الشركات الخاصة العاملة بقطاع التكنولوجيا الصيني، فإن نموذج التحديث والرأسمالية الخاصَّة الصيني، يفرض على هذه الشركات منح أسهم خاصة لأعضاء الحزب الشيوعي الصيني. وعلى الرغم من أن هذه الأسهم تمثل نسبة ضئيلة جداً من إجمالي أسهم الشركة، فإن حاملي هذه الأسهم يمتلكون سلطات تصويتية ورقابية واسعة، وهو ما دفع عدداً من الصحف الأجنبية إلى إطلاق اسم “الأسهم الذهبية” على هذه الأسهم.

صحيح أن العديد من التحقيقات الاستقصائية الغربية تؤكد أن هذه الأسهم يستخدمها أعضاء الحزب للوصول إلى جميع المعلومات التي تتحصَّل عليها الشركات خلال العمل بالخارج، بجانب دفع الشركة إلى العمل على تحقيق أهداف الدولة الصينية التكنولوجية، إلا أن هذه الأسهم قد استخدمتها الحكومة الصينية لتسهيل تقديم الدعم للشركات الخاصة في الخارج، خاصةً في حالة دخولها في أزمة قضائية ذات طابع سياسي مع الحكومات الخارجية؛ وذلك على غرار حالة شركة “هواوي”، كما تُقدِّم الدولة عبر حاملي هذه الأسهم الدعم المالي اللازم لدفع هذه الشركات للتوسع في الداخل والخارج.

9– تعزيز الرقابة والسيطرة على القطاع المالي والتكنولوجي: أعلنت الصين مؤخراً عن عدد من التغييرات في الهيكل الحكومي والقائمين على إدارة المناصب التنفيذية الكبرى في الدولة، في خطوة يُنظَر إليها باعتبارها إجراءات احترازية تلجأ إليها بكين لمجابهة الضغوط المالية والتطويق التكنولوجي الذي تتعرَّض له في إطار حربها التجارية والتكنولوجية القائمة حالياً مع واشنطن.

وستعزز هذه التغييرات سيطرة الرئيس “شي” على المؤسسات الحكومية، وتسمح له بتنصيب المزيد من المقربين منه في المناصب الرئيسية بالدولة، بما يحقق أهدافه الحالية التي تتراوح بين الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي وبين إدارة التوتر الجيوسياسي المتزايد مع الولايات المتحدة. ومن التغييرات الأهم التي تم الإعلان عنها خلال الاجتماع السنوي للمؤتمر الشعبي الوطني، إنشاء بكين هيئة تنظيمية مالية قوية جديدة، تحمل اسم “الإدارة الوطنية للتنظيم المالي (NFRA)”، وهي الإدارة التي ستحل محل “لجنة تنظيم البنوك والتأمين الصينية (CBIRC)”، التي تشرف على البنوك التجارية وشركات التأمين، وستُدِير بأسلوب مباشر الشركات المالية القابضة الكبرى في البلاد، بما في ذلك مجموعة “Ant Group” العملاقة للتكنولوجيا المالية، وهي مهمة كانت تقع سابقاً تحت نطاق سلطات “بنك الشعب الصيني”، كما ستمتد سلطات الإدارة الجديدة لتصل إلى حماية المستهلك مالياً وحماية المستثمرين.

مواجهة التطويق

يمكن القول إن هذه التحركات الصينية ارتبطت بمواجهة الضغوط الغربية وسياسات التطويق التي تتبنَّاها واشنطن ضد الصين، وكذلك استغلال السياق الدولي الراهن لتعزيز مصالحها:

1– الاستفادة من ارتدادات الحرب الأوكرانية: تذهب الكثير من التحليلات إلى أن النظام الدولي بات على مشارف تحولات راديكالية على خلفية الحرب الأوكرانية، وخصوصاً أن الحرب كشفت عن انقسامات حادة في النظام الدولي، وتراجع قدرة واشنطن على السيطرة على حلفائها وإقناعهم بالالتزام بسياسات العقوبات الغربية على موسكو، ناهيك عن تآكل الثقة بالمؤسسات الدولية القائمة. هذا السياق ربما يكون بعث رسالة إلى صانع القرار الصيني أن هذه هي اللحظة المواتية للصعود الصيني والمشاركة الجادة في قيادة النظام الدولي.

2– تفكيك القيود الغربية على تصدير التكنولوجيا المتقدمة إلى الصين: في 7 أكتوبر 2022، قامت الولايات المتحدة بإضافة عدد من التعديلات الحاكمة لتعاملاتها التجارية مع الصين؛ للحد من إمكانية وصول الشركات الصينية إلى أشباه الموصلات والمكونات الأخرى اللازمة لتطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي. وقد كشفت صحيفة “نيويورك تايمز” عن إقدام إدارة “بايدن” على عقد مناقشات مطولة مع عدد من الدول الحليفة التي تقود صناعة هذه المواد التكنولوجية المتطورة – وبالتحديد اليابان وهولندا وكوريا الجنوبية وبريطانيا وإسرائيل – وذلك بهدف إقناعها باتباع السياسة ذاتها عند التعامل مع بكين.

وعلى الرغم من عدم قدرة الإدارة الأمريكية على إقناع حلفائها باتخاذ التدابير ذاتها ضد الصين لجعلها أكثر فاعليةً، قررت واشنطن تطبيق قرار حظر تصدير أي مواد تدخل في تصنيع أشباه الموصلات والإصدارات الحديثة من التطبيقات التكنولوجية المتقدمة إلى الشركات الصينية، سواء تم تصنيع هذه المواد داخل الولايات المتحدة بواسطة شركات محلية أو أجنبية، أو خارجياً بواسطة شركات أمريكية؛ حيث تؤمن إدارة “بايدن” بأن الولايات المتحدة تهيمن على جزء كبير من هذه الصناعات، ويمكنها بمفردها العمل على الإضرار بصناعة التكنولوجيا الصينية منفردةً.

وعقب إعلان الحظر الأمريكي في أكتوبر، سارعت “شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات” إلى الإعلان عن التزامها بالقوانين الجديدة التي يضعها شركاؤها في الصناعة، في إشارة غير مباشرة إلى انصياعها للقرار الأمريكي. كما توالت التقارير الصحفية التي تؤكد توصل واشنطن إلى تفاهم عام – بعيداً عن الاتفاقيات الموقعة – مع الحكومتين اليابانية والهولندية للانضمام إليها في تطبيق سياسة حظر تصدير التكنولوجيا المتقدمة إلى الصين، وهي بذلك تكون قد قطعت أغلب خطوط الإمداد التكنولوجي التي كان من الممكن أن تلجأ إليها بكين للتحايل على العقوبات الأمريكية.

3– الرد على السياسات الغربية في الهندو–باسيفيك: لا تنفصل مساعي بكين لتعزيز دورها العالمي عن مساعيها لمواجهة السياسات الغربية في الهندو–باسيفيك؛ فعلى سبيل المثال، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية في فبراير 2022، عن استراتيجية جديدة تتبنَّاها في منطقة ما وراء المحيطين الهندي والهادي، وهي الاستراتيجية التي أظهرت رغبة أمريكية في تعزيز نفوذها. وبناءً على هذه الاستراتيجية، تم الإعلان عن إطار اقتصادي لتعزيز الشراكة بين واشنطن ودول المنطقة، كما أقدمت الولايات المتحدة على المشاركة في عدد من المناورات العسكرية ووافقت على صفقات أسلحة بالجملة مع كل من اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والفلبين، ناهيك عن تسريع الخطوات اللازمة لحصول أستراليا على تكنولوجيا الغواصات البحرية النووية، وزيادة الوجود العسكري للجيش الأمريكي في القواعد العسكرية القائمة في كل من اليابان والفلبين. واللافت أن هذه الخطوات الأمريكية تبعتها خطوات أوروبية مماثلة في ظل اقتناع العديد من الدول الأوروبية بأن الصين باتت التهديد الأبرز لها.

4– تقويض الاتهامات الغربية للصين بممارسة أنشطة تجسس: فخلال شهر نوفمبر الماضي ظهرت تقارير صحفية تؤكد تدخل الصين في الانتخابات الفيدرالية الكندية لعام 2019، وارتبط اسم 12 عضواً بالبرلمان الكندي بالحكومة الصينية؛ حيث أظهرت التقارير أنهم قد تلقَّوا تمويلاً ودعماً كبيراً من بكين؛ ما ساعدهم في النجاح بالانتخابات. بالتزامن مع ذلك، ظهرت تقارير استقصائية أخرى، تؤكد اختراق الأجهزة الأمنية الصينية عدداً من الدول الغربية، وعلى رأسها كندا والنمسا وألمانيا، عبر إقامة مراكز تابعة للشرطة الصينية، تلاحق وتتابع المواطنين الصينيين المقيمين في هذه الدول، وتقدم على معاقبتهم وصولاً إلى ترحيلهم مرة أخرى إلى الصين في حالة إقدامهم على انتقاد الحكومة الصينية هناك، أو عدم الالتزام بالتعاون مع هذه الأجهزة للوصول إلى معلومات سرية عن بلد الإقامة.

وبالرغم من خطورة مثل هذه التقارير، فإن البعض قد أشار إلى أن توقيت نشر اختراق الصين للمجتمعات الغربية، وما تبعه من الكشف الأمريكي عن منطاد يستخدم للتجسس، يؤكد عمل المجتمعات الغربية، وخاصةً واشنطن، على حشد الرأي العام الداخلي والدولي ضد الحكومة الصينية، وتبرير اتخاذ تدابير أكثر تشدداً ضدها مستقبلية، بما في ذلك تبني بعض سياسات الحماية الاقتصادية، التي يرفضها رجال الأعمال وأغلبية القطاعات الاقتصادية الغربية، التي تضررت أعمالها بفعل الحرب التجارية القائمة بين واشنطن وبكين منذ عهد إدارة الرئيس “ترامب”.

5– تخفيف الضغوط على شركات التكنولوجيا الصينية: تطمح بكين، عبر تحركاتها العالمية، إلى فتح مجالات أوسع لشركات التكنولوجيا الخاصة بها، وتخفيف حدة الضغوط الغربية المفروضة عليها. ظهر هذا التحدي مؤخراً مع فرض العديد من الدول والمؤسسات الغربية حظراً على استخدام تطبيق تيك توك بسبب مخاوف أمنية، وهو الأمر الذي دفع واشنطن إلى انتقاد هذه السياسات الغربية، واعتبرتها “سياسات منحازة ومبنية على دوافع سياسية لا على حقائق واقعية”.

6– الاستجابة لتقليص حجم الاستثمارات الأمريكية في الداخل الصيني: تناولت العديد من الصحف المتخصصة في الشؤون الاقتصادية والسياسية الأمريكية، دخول إدارة الرئيس “بايدن” في نقاشات مطولة مع رجال أعمال وخبراء اقتصاديين، للخروج بمرسوم رئاسي جديد، يُنظِّم مسار الاستثمارات والأموال الأمريكية في الداخل الصيني، في ظل تهديد الكونجرس بإصدار قرار تشريعي ينظم هذه المسألة في حالة عدم تبني الإدارة مشروعاً تنفيذياً يحدُّ من الاستثمارات الأمريكية في القطاعات الصينية التي تمس الأمن القومي الأمريكي بصورة مباشرة.

وقد ذكرت صحف من قبيل “وول ستريت جورنال” و”نيويورك تايمز”، أن القرار التنفيذي الذي يتوقع أن يصدر خلال الأشهر الثلاث القادمة، لا يزال مضمونه غير واضح، ولكن من المتوقع أن يطلب من الشركات تقديم مزيد من المعلومات إلى الحكومة حول استثماراتها المخطط لها في بعض البلدان المعادية، وعلى رأسها الصين. ورجح العديد من الخبراء أن يحظر القرار الاستثمارات الأمريكية المباشرة في بعض المجالات الحساسة، مثل الحوسبة الكمية، وأشباه الموصلات المتقدمة، وقدرات الذكاء الاصطناعي، وبعض التطبيقات والصناعات العسكرية والأمنية الرقابية المتطورة، كما أكدت تقارير أخرى دخول وزارة الخزانة والتجارة الأمريكية في مفاوضات مع دول الاتحاد الأوروبي؛ لحثها على تبني سياسات استثمارية مشابهة، وعدم المسارعة إلى سد الفراغ الذي ستخلفه الشركات والاستثمارات الأمريكية في هذه القطاعات في حالة صدور القرار.

7– مواجهة التحلل غير المعلن من مبدأ الصين الواحدة: تؤكد الولايات المتحدة في كثير من المناسبات عن التزامها بسياسة الصين الموحدة، وهو المبدأ الذي أقره البرلمان الصيني في عام 2005، والذي بموجبه يتم الاعتراف بحق الصين في ضم الأراضي المتنازع عليها (هونج كونج وهضبة التبت وتايوان) مع رفضها أن يكون الضم عسكرياً. وعلى الرغم من ذلك، لم تقدم واشنطن رؤية واضحة لكيفية تحقيق الوحدة بين تايوان والصين، وفضَّلت تجميد الوضع القائم، إلا أنه منذ قدوم الرئيس “بايدن”، اتخذت واشنطن خطوات توضح تقبُّل الولايات المتحدة تقديم الدعم العسكري للجزيرة، منعاً لضمها بأي صورة بواسطة بكين، كما تتابعت الوفود الأمريكية الرفيعة المستوى على زيارة الجزيرة، ووافقت الولايات المتحدة على عدد من صفقات الأسلحة التي ستعزِّز قدرات الجيش التايواني الجوية والبحرية.

أخيراً.. يبدو أن الصين مقتنعة في اللحظة الراهنة بأن لديها فرصةً مواتيةً للتكريس لصورتها كقوة عظمى قادرة على المشاركة في قيادة النظام الدولي. وبالرغم من سياسات التطويق التي تتبنَّاها الدول الغربية تجاه بكين، ما زالت الصين تمثل شريكاً اقتصادياً وتجارياً هاماً، يصعب على الكثير من دول العالم، قطع العلاقات معه بصورة كاملة، في سبيل الالتزام بسياسة الاحتواء الأمريكية. وعلى الرغم من ذلك، قد يتأثر الاقتصاد الصيني خلال العام الحالي بإجراءات التطويق التي تتبعها الولايات المتحدة، وقد تضطر بكين، نتيجة لذلك، إلى تسريع مساعيها الرامية إلى بناء اقتصاد عالمي بعيدًا عن المظلة الدولارية، وهو الأمر الذي سيساهم بدوره في تقوية التقارب الصيني–الروسي.