في ظل تزايد المخاوف العالمية من اندلاع حرب نووية ستكون لها تداعيات كارثية على العالم، خاصةً في غمار الحرب الروسية–الأوكرانية، وتعهُّد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بإمكانية اللجوء إلى استخدام الأسلحة النووية؛ عقدت لجنة الخدمات المسلحة بمجلس الشيوخ الأمريكي جلسة استماع بتاريخ 20 سبتمبر 2022 لشرح السياسة النووية الأمريكية، وركَّزت على التهديدات النووية للأمن القومي الأمريكي. وقد حملت جلسة الاستماع عنوان “استراتيجية وسياسة الولايات المتحدة النووية”. وتضمَّنت الجلسة سماع شهادات كلٍّ من “مادلين كريدون” الأستاذة الباحثة بكلية إليوت للشؤون الدولية بجامعة جورج واشنطن، و”روز جوتيمولر” المُحاضِرة بمعهد فريمان سبوجلي للدراسات الدولية ومركز الأمن والتعاون الدولي بجامعة ستانفورد، بجانب “إريك إيس إيدلمان” المستشار بمركز تقديرات الميزانية والاستراتيجية ومدير معهد الولايات المتحدة للسلام، و”فرانكلين ميلر” مدير مجموعة سكوكورفت.
مخاوف متصاعدة
انطلقت مادلين كريدون خلال حديثها بالجلسة من خلفيتها الأكاديمية، وقد ركزت على مجموعة من القضايا يتمثل أبرزها فيما يأتي:
1– اتسام النظام الدولي بالفوضوية: ارتأت كريدون أن العالم يعيش في فوضوية وغموض، مشيرةً إلى أن هجوم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على أوكرانيا “أمر غير مبرر”، وأضافت أن جائحة كوفيد–19 بجانب الحرب الروسية–الأوكرانية، شكَّكا في المدى والدرجة التي يمكن على أساسها الاعتماد على سلاسل التوريد العالمية، مشيرةً إلى تأثير هذين العاملين على وصول الولايات المتحدة إلى معدلات تضخُّم لم تشهدها منذ عقد الثمانينيات من القرن الماضي.
2– مخاوف من نوايا روسيا النووية: أشارت كريدون إلى مخاوفها من تملُّص موسكو من الالتزام بمعاهدة ستارت الجديدة مع الولايات المتحدة، لا سيما قرارها الأخير المتعلق بتعليق عمليات التفتيش، فضلاً عن مساعيها خلال الخمسة عشر عاماً الماضية إلى تحديث ترسانتها النووية، وإطلاق صاروخ “سارمات” الباليستي العابر للقارات ذي المدى البعيد؛ هذا بجانب تحديث أسلحتها الإلكترونية، وأسلحة الفضاء المضادة. حتى إن استنزاف القدرات التقليدية الروسية خلال الحرب الأوكرانية، قد يكون عاملاً محفزاً لها على التوجه نحو القدرات النووية، وقلقلة الاستقرار الدولي مستقبلاً.
3– تهديد صيني على المدى البعيد: رأت كريدون أن روسيا بقدراتها النووية تمثل تهديداً للولايات المتحدة على المدى المنظور. أما بكين ففي ظل مساعيها إلى تطوير ترسانتها النووية، والتوقعات المتعلقة بامتلاكها ما يتراوح من 1000 و1500 سلاح نووي بحلول عام 2030، وهدفها لتصبح قوة عسكرية عالمية المستوى بحلول عام 2049؛ كل ذلك يجعلها المُهدِّد الرئيسي للولايات المتحدة على المدى البعيد.
4– تخوُّفات من قدرات كوريا الشمالية: تطرقت كريدون أيضاً إلى مساعي كوريا الشمالية المستمرة إلى تطوير أسلحتها النووية، باعتبارها وسيلة لحماية النظام في بيونج يانج إذا تعرض للتهديد، فضلاً عن دورها في دفع العالم نحو القبول والاعتراف بها دولةً تمتلك سلاحاً نووياً، مشيرةً إلى قانون السياسة النووية الذي سنَّته كوريا الشمالية، والذي يزيد المخاطر المحيطة بالولايات المتحدة في ظل الحرب الروسية الأوكرانية.
5– أهمية الاستثمار في القدرات النووية الأمريكية: اختتمت كريدون حديثها مشددةً على أهمية الاستثمار في القدرات النووية الأمريكية، وتعزيز البنية التحتية الخاصة بمشاريع إنتاج اليورانيوم، والليثيوم، مع الحفاظ على التمويلات المُخصَّصة لتلك المشروعات، بالتزامن مع السعي إلى توقيع الاتفاقيات الدولية المفيدة، وضبط القواعد العالمية المنظمة.
سباق التسلح
تطرَّقت روز جوتيمولر، خلال جلسة الاستماع، إلى مجموعة من النقاط البارزة يمكن الإشارة إليها فيما يأتي:
1– قلق من التحديث النووي الروسي: أكدت جوتيمولر أن معاهدة “ستارت الجديدة” المُوقَّعة بين الولايات المتحدة وروسيا كانت شديدة الأهمية؛ لأنها قادرة على إلزام موسكو بحدود تحديث معينة لبرنامجها النووي، بما يساعد واشنطن على التنبؤ بحجم ووضع القوات النووية الاستراتيجية الروسية، ويساعد أيضاً على استقرار بيئة النظام الدولي. لكنها أعربت عن مخاوفها بشأن التحديث النووي الروسي المستمر الذي مكَّن موسكو من إنتاج الصواريخ الروسية، وتصنيع الرؤوس الحربية؛ ما يساعدها على تحديث الثالوث النووي الروسي المُؤلَّف من “قاذفة قنابل استراتيجية، وصواريخ باليستية عابرة للقارات، وصواريخ باليستية تُطلق من الغواصات”، مشيرةً إلى مخاوفها من عدم تمكن واشنطن حتى الآن من إدراك موسكو في تطويرها المستمر لترسانتها النووية؛ ولهذا أكدت أهمية معاهدة ستارت الجديدة التي إذا فُسِخَت فستتفوق موسكو على واشنطن من الناحية النووية.
2– تزايد القدرات النووية الصينية: أوضحت روز أن ظهور الصين على الخط كان أمراً مثيراً للقلق؛ فبالرغم من التزام بكين بضبط النفس منذ البداية، والإبقاء على ترسانة نووية صغيرة، بدأت تُلحِق بترسانتها النووية غواصات هجومية استراتيجية، وقاذفات بعيدة المدى، بما يدل على أن هناك رغبة في اللحاق بالقدرات النووية الأمريكية والروسية، وأن هناك نية مُبيَّتة على تغيير سياسة ضبط النفس المعلنة، لا سيما أنه قد تم الكشف عن 300 صومعة صواريخ باليستية عابرة للقارات، حُفِرت في صحراء شمال بكين وغربها، بما يزيد المخاوف المتعلقة حول نيتها، خاصةً أنها لا تشارك المعلومات حول برنامج التحديث الخاص بها، وتُبقِي على نواياها غامضة.
3– تحديث الترسانة النووية الأمريكية: أشارت روز إلى أهمية الاستمرار في تحديث الترسانة النووية الأمريكية عبر الحفاظ على تمويل ثابت، مشيدةً بالقرارات الحاسمة التي اتُّخذت مؤخراً بشأن بناء القدرة الإنتاجية لكل من الصواريخ وصوامع الرؤوس النووية؛ لأن هذا هو السبيل إلى حماية الولايات المتحدة من أي هجوم نووي خلال أي حقبة زمنية مشحونة بالتوترات العالمية. وقد طمأنت الحضور بشأن بكين، مشيرةً إلى أن عدد الرؤوس الحربية الصينية سيظل أقلَّ بكثير من الموجودة في ترسانة الولايات المتحدة حتى عام 2030؛ وذلك إذا ضاعفت الصين مخزونها خمس مرات على مدار السنوات العشرة المقبلة. وعلى جانب آخر، ستساعد قوة الترسانة النووية الأمريكية في العمل رادعاً للتهديدات الروسية النووية الخطيرة.
4– التعامل المرن مع خصوم واشنطن: أكدت روز أهمية الإبقاء على المفاوضات مع روسيا؛ لأن هذا من مصلحة الأمن القومي الأمريكي، فضلاً عن الحاجة إلى متابعة تجديد معاهدة ستارت الجديدة عقب انتهائها في فبراير 2026، أو التوصُّل إلى معاهدة جديدة. ولكن بالتزامن مع ذلك، يجب أن تظل الولايات المتحدة في سباقها لتحديث ترسانتها النووية؛ لأن هذا هو الذي سيقيها المخاطر، بالنظر إلى التهديدات الروسية المستمرة في أوكرانيا. وقد شددت روز على ضرورة فهم النوايا وراء اندفاع بكين نحو التحديث النووي، خاصةً أن هدف بكين أن تكون رائدةً في مجال الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030 سيدر عليها الكثير من الأموال التي تُمكِّنها من حديث ترسانتها النووية.
الردع النووي
أدلى إريك إيس إيدلمان وفرانكلين ميلر بشهادة مشتركة، تطرَّقا فيها إلى مجموعة من الأفكار يمكن إيجازها فيما يأتي:
1– حقبة المنافسة النووية الثلاثية الجديدة: أشار الشاهدان إلى المنافسة القوية التي ستدخلها الولايات المتحدة ضد كل من جمهورية الصين الشعبية وروسيا؛ فبعد أن كانت واشنطن تركز اهتمامها على روسيا وترسانتها النووية، ظهرت بكين التي تسعى حثيثاً إلى تطوير قدراتها النووية، وتستمر في تجارب إطلاق الصواريخ الباليستية المتطورة التي ستزداد قدراتها ومداها مستقبلاً. هذا بجانب عملها على تطوير الأسلحة الأكثر احتمالاً للاستخدام في الحروب التقليدية بهدف الردع، وهي أسلحة تكتيكية يمكن استخدامها لردع واشنطن إذا تدخلت لمساعدة تايوان. ومع ذلك، فإنه على المستوى النووي، تظل موسكو هي المهدد الوحيد الحقيقي للولايات المتحدة في الوقت الراهن، بالنظر إلى حجم ترسانتها النووية الحالي، والإنتاج المُتوقَّع خلال السنوات القادمة. وهي كلها أمور يجب أخذها في الاعتبار لأي مفاوضات بشأن اتفاقية ستارت الجديدة ضماناً لتحقيق “الاستقرار الاستراتيجي”.
2– مخاوف من تحرُّكات كوريا الشمالية النووية: أعرب الشاهدان عن مخاوفهما بشأن القانون الجديد الذي سنَّته كوريا الشمالية، والذي يشير إلى إمكانية إطلاق ضربة انتقامية آلية حتى لو قُتل الزعيم الكوري كيم كونج أون أو أصيب بالعجز؛ فبالرغم من صغر الترسانة النووية التي تمتلكها كوريا الشمالية، لكنها طوَّرت صواريخ باليستية عابرة للقارات وقصيرة المدى، كما أنها قادرة على إنتاج نحو 6 رؤوس نووية في السنة. وهو تحدٍّ يجب أخذه في الاعتبار من جانب صانعي السياسات في الولايات المتحدة.
3– تشكيك في جدوى الاتفاق النووي الإيراني: شكَّك الشاهدان في جدوى إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة مع إيران لعام 2015، لا سيما أنه حتى لو تم إحياؤها فستنتهي صلاحيتها خلال سنوات قليلة، وستنتهي جميع القيود المفروضة على قدرة التخصيب الإيرانية بحلول عام 2030، بما يعني أن طهران ستصبح قوة نووية في طريقها نحو الانطلاق.
4– تزايد معضلة الردع النووي لدى الدول: أضاف الشاهدان أن التطورات التكنولوجية، خاصةً تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وقدرات الأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، والاختراقات السيبرانية؛ ستعوق قدرات الردع النووي لدى الدول، وقد تدفع الدول إلى تبني خيارات محفوفة بالمخاطر، وسيكون من الصعب الثقة بأجهزة الكمبيوتر لاتخاذ قرار بشأن شن حرب نووية أم لا، مشيرَيْن إلى إمكانية حدوث تحالف بين موسكو وبكين وشن هجوم مشترك ضد الولايات المتحدة، بما سيضعها في مأزق كبير حينها، ويتطلَّب منها منذ الآن الاستعداد لمواجهة خصمَيْن في وقت واحد.
وختاماً، أكَّد الشاهدان ضرورة طمأنة الحلفاء في حلف الناتو وآسيا بأن الولايات المتحدة ستكون ضماناً نووياً لهم، وستدافع عنهم ضد أي عدوان. وهذا سيتطلَّب من واشنطن الإسراع في تحديث ثالوثها النووي للاحتفاظ بقوة كافية لردع الأعداء، مع متابعة السباق النووي العالمي لتدارك أي خلل في التوازنات العالمية، وضمان القدرة على الرد على أي هجوم، سواء كان فردياً أو مشتركاً من جانب روسيا والصين معاً.