في خطوة تعد تاريخية، صادقت الحكومة اليابانية، يوم 16 ديسمبر الجاري، للمرة الأولى منذ ما يقرب من عقد على استراتيجية جديدة للأمن القومي، مكونة من ثلاث وثائق دفاع رئيسية. وتعيد هذه الوثائق تصوير الكيفية التي ينبغي أن تكون بها البلاد قادرة على الدفاع عن نفسها، وتقدم خطة للدفع من أجل تغييرات كبيرة في سياسة البلاد الدفاعية. وأشارت استراتيجية الأمن القومي الجديدة لليابان، التي سيتم تنفيذها على مدار العقد المقبل، إلى أن البيئة الأمنية التي تعيش فيها اليابان أصبحت معقدة للغاية.
تحولات تاريخية
وفي هذا الإطار، كشفت استراتيجية الأمن القومي الجديدة لليابان عن جملة من الدلالات يمكن استعراضها على النحو التالي:
1- منح الجيش الياباني القدرة على شن هجمات مضادة: توضح الوثائق الثلاث التي تتكون منها استراتيجية الأمن القومي اليابانية الإجراءات الدفاعية التي سيتم تبنيها وأيضاً الاستراتيجيات الأمنية الأوسع نطاقاً لطوكيو. وتعبر الاستراتيجية عن سياسة جديدة ستمنح اليابان القدرة على شن هجمات مضادة، ولكن في ظل ظروف محددة، هي وجود تهديد حتمي لليابان أو لدولة صديقة يقود لتهديد حتمي لطوكيو، وألا توجد وسيلة أخرى لتفادي الضربات التي تعتبر معادية. وبحسب الاستراتيجية، ستقتصر الهجمات المضادة على الدفاع عن النفس ولن تكون على الإطلاق ضربات استباقية، كما لن يكون بالإمكان توجيه الهجمات المضادة إلا ضد الأهداف العسكرية، وستستخدم الحد الأدنى من القوة اللازمة لتحييد التهديد.
2- سعي ياباني لبناء نظام دفاعي مستقل عن واشنطن: على الرغم من أن الوثائق التي تعبر عن استراتيجية الأمن القومي الجديدة لليابان تشمل لأول مرة إنشاء “قيادة مشتركة دائمة” تكون مسؤولة عن التنسيق بين الفروع البرية والبحرية والجوية لقوات الدفاع الذاتي والجيش الأمريكي، فإنها عبرت في الوقت ذاته عن حاجة اليابان إلى بناء نظام دفاع مستقل لا يعتمد فقط على الجيش الأمريكي؛ ففي ظل التحالف الياباني الأمريكي، اعتمدت طوكيو على واشنطن لضمان القدرة على الهجوم المضاد؛ حيث لعبت الولايات المتحدة دور “الرمح” واليابان دور “الدرع”. ووفقاً لاستراتيجية الأمن القومي الجديدة، ستتحول الاستراتيجية المستقبلية لقوات الدفاع الذاتي اليابانية من التركيز على نظام الدفاع الصاروخي المعترض إلى “الدفاع الجوي والصاروخي المتكامل”.
3- رغبة يابانية قوية في تحقيق سياسة “منطقة المحيطين”: عبرت الاستراتيجية الجديدة عن رغبة يابانية في لعب دور أكثر نشاطًا لتعزيز مكانتها الدولية، وقد أشارت طوكيو إلى أن استراتيجيتها الجديدة ستساهم في الاستقرار الإقليمي من خلال العمل بشكل أوثق مع الولايات المتحدة وحلفائها، لتحقيق سياسة “منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة”. يُذكر أن رئيس الوزراء الياباني السابق شينزو آبي قدم في أغسطس 2016 مفهوم “منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة” في خطابه الرئيسي في مؤتمر طوكيو الدولي السادس حول التنمية الأفريقية الذي عُقد في كينيا. وتهدف اليابان من خلاله إلى تعزيز استقرار وازدهار المنطقة بأكملها من خلال تحسين التواصل بين آسيا وأفريقيا عبر “منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة”.
4- تصاعد المخاوف اليابانية من التهديدات الصينية: توضح الاستراتيجية الجديدة تنامي المخاوف اليابانية من الصين؛ حيث جاء فيها أن بكين تعد “التحدي الاستراتيجي الأكبر”، مكررةً التعبير الذي تستخدمه الولايات المتحدة. وبحسب ما ذكرت بعض التقارير، تمت مراجعة استراتيجية الأمن القومي الياباني لإضافة روسيا كتهديد محتمل كذلك إلى جانب كوريا الشمالية والصين. ورأى البعض أن إقرار هذه الاستراتيجية يسلط الضوء على مدى قلق طوكيو من قيام الصين بغزو تايوان على غرار التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، مشيرين إلى أن قرار اليابان الحصول على قدرات الهجوم المضاد المبين في الاستراتيجية، يمثل تخلياً من جانب اليابان عن الموقف السلمي، ويتضح من خلال نبذ دستورها للحرب.
ويبدو أن التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا كان له دور محوري في تغيير أولويات السياسة العسكرية لليابان بالشكل الموضح في استراتيجية الأمن القومي الجديدة؛ حيث لم يكن معقولاً في السابق أن تمتلك اليابان القدرة على مهاجمة أراضي دولة أخرى بشكل مباشر، أو تأمين ميزانية ضخمة للحصول على هذه القدرة. ولكن في ضوء انزعاج صانع القرار الياباني مما جرى في أوكرانيا، فإن ذلك دفعه إلى تبني رؤية أكثر واقعية للقضية الأمنية للتعامل مع التهديدات المتصاعدة في الجوار الإقليمي لطوكيو.
5- تصعيد متوقع للتوترات بين اليابان وكوريا الجنوبية: احتجت كوريا الجنوبية يوم 16 ديسمبر الجاري بشدة على وصف استراتيجية الأمن القومي اليابانية الجديدة جزر “دوكدو” التي تسيطر عليها سيول المتنازع عليها بين البلدين منذ 11 عاماً بـ”أراضينا الموروثة”. وقال المتحدث باسم وزارة خارجية كوريا الجنوبية ليم سو سيوك، إن حكومة بلاده “تعترض بشدة على ورود العبارة في استراتيجية الأمن القومي اليابانية التي تدعي السيادة على دوكدو، وتدعو إلى حذفها على الفور”، وأضاف: “يجب على الحكومة اليابانية أن تدرك بوضوح أن تكرار الادعاءات الخاطئة المتعلقة بجزر دوكدو لن يساعد في الجهود المبذولة لإقامة العلاقة الموجهة نحو المستقبل بين سيول وطوكيو”، مشدداً على أن سيول سترد بصرامة على أي أعمال استفزازية في الجزر.
6- زيادة الإنفاق العسكري الياباني بشكل غير مسبوق: كشفت استراتيجية الأمن القومي الجديدة لليابان عن زيادة غير مسبوقة في معدل الإنفاق العسكري الياباني؛ فعلى مدى السنوات الخمس المقبلة، تخطط طوكيو لإنفاق 43 تريليون ين (313 مليار دولار)، لتعزيز قدراتها الدفاعية. وبذلك يصل الإنفاق العسكري الياباني إلى ما يقرب من 2% من الناتج المحلي الإجمالي الحالي، ويتوافق ذلك مع هدف حلفاء اليابان في حلف الناتو بشأن الإنفاق الدفاعي. يُذكر أن طوكيو حافظت في السابق على سقف للإنفاق العسكري يبلغ 1% من الناتج المحلي الإجمالي منذ الستينيات من القرن الماضي.
وتشمل الميزانية الجديدة، تخصيص 5 تريليونات ين ياباني لشراء صواريخ كروز توماهوك من الولايات المتحدة، وتوسيع نطاق صواريخ كروز أرض بحر المحلية المضادة للسفن، وتطوير أسلحة تفوق سرعتها سرعة الصوت، وفقاً لبرنامج الدفاع المتوسط المدى. كما سيتم إنفاق 3 تريليونات ين ياباني أخرى على تعزيز قدرات الدفاع الجوي والصاروخي المتكاملة، بما في ذلك ترقية الرادار لنظام صواريخ باتريوت لمواجهة الأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت. جدير بالذكر أن استطلاعاً للرأي أجرته وكالة “كيودو” اليابانية، يوم 18 ديسمبر الجاري، كشف عن أن غالبية اليابانيين لا يدعمون زيادة الضرائب لتمويل التوسع في الإنفاق العسكري؛ لرؤيتهم أن ذلك سينعكس سلباً على مستوى معيشتهم.
7- تطلع إلى تعزيز القدرات بمجال الفضاء والدفاع الإلكتروني: سيتم كذلك تخصيص ما يقرب من تريليوني ين لتعزيز قدرات اليابان في مجال الفضاء والدفاع الإلكتروني، وهي نقطة ضعف لطالما ضغط المسؤولون الأمريكيون مراراً وتكراراً على طوكيو لمعالجتها. ووفقاً للاستراتيجية الجديدة، سيتم إعادة تنظيم قوة الدفاع الجوي لتصبح قوات الدفاع الجوي والفضاء. وستنشئ اليابان فريقاً إلكترونياً قوامه 20 ألف شخص، ضمن قوات الدفاع الذاتي Self-Defense Forces، لمنع الهجمات الإلكترونية قبل وقوعها.
أما الجزء الأكبر من الإنفاق العسكري – وهو 15 تريليون ين – فسيتم تخصيصه لتعزيز الاحتياجات الأساسية لقوات الدفاع الذاتي، بما في ذلك مخزونات الذخيرة وخزانات الوقود؛ ما يعكس المخاوف من أن القوات المسلحة اليابانية لن يكون لديها القدرة على المثابرة في نزاع طويل مثل الصراع على تايوان. ونوهت استراتيجية الأمن القومي الجديدة لليابان أنه سيتم تعزيز مستودعات الذخيرة في جنوب غرب البلاد استعداداً للطوارئ.
8- تعزيز القدرات البحرية والبنية التحتية للجيش الياباني: أشارت الاستراتيجية إلى أن اليابان ستنشئ أيضاً إطاراً سيسمح لها بتوفير التمويل لتعزيز القدرات البحرية والبنية التحتية المرتبطة بالجيش في دول جنوب شرق آسيا. وربطت الاستراتيجية هذا الأمر بمخاوف طوكيو المتزايدة بشأن الاستقرار في مضيق تايوان؛ حيث أكدت أن موقف الصين الخارجي الحالي وأنشطتها العسكرية، تمثل تحدياً استراتيجياً كبيراً وغير مسبوق، في ضمان السلام والأمن في اليابان والمجتمع الدولي. وربطت الاستراتيجية هذا الأمر كذلك بإطلاق كوريا الشمالية المتكرر للصواريخ، والتقدم في قدرات أسلحتها؛ حيث لفتت إلى أن ذلك يُشكل تهديداً خطيراً ووشيكاً للأمن القومي الياباني أكثر من أي وقت مضى.
فجوة مستمرة
وختاماً، قامت اليابان عبر إقرارها استراتيجية الأمن القومي الجديدة بأكبر مراجعة لسياستها الدفاعية منذ الحرب العالمية الثانية وإلغاء ستة عقود من السياسة الأمنية الدفاعية، ووضع أكبر ميزانية دفاعية في تاريخها؛ وذلك من أجل مواجهة التحدي الاستراتيجي الأكبر وغير المسبوق من جانب الصين. وبجانب توسيع الاستراتيجية للقدرات الدفاعية اليابانية، فإنها ستوفر لطوكيو قدرات الهجوم المضاد.
وعلى الرغم من أن الميزانية الدفاعية غير المسبوقة لليابان، التي من المتوقع تمويلها من خلال الزيادات الضريبية، ستقلص من التفاوت الكبير في القدرات العسكرية بين بكين وطوكيو، فإنه ستبقى هناك فجوة كبيرة بين اليابان والصين من حيث القدرة العسكرية، لكن قدرة اليابان على القيام بهجوم مضاد ستعقد حسابات صانعي القرار الصينيين وقدرة بكين التشغيلية إذا كانت ستغزو تايوان فعلياً. كما يُرجح أن تساهم الاستراتيجية الجديدة في زيادة التوترات بين اليابان من جهة، وكل من الصين وكوريا الشمالية وروسيا من جهة أخرى.