وافقت لجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان التركي على مشروع قانون يُصادِق على انضمام فنلندا إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) يوم 23 مارس 2023، على أن تُحيل اللجنة مشروع القانون إلى البرلمان بهيئته الكاملة لتتم الموافقة النهائية في منتصف أبريل القادم، قبل نهاية دور الانعقاد الحالي للبرلمان. وجاءت الموافقة بعد زيارة الرئيس الفنلندي “ساولي نينيستو” إلى أنقرة، واجتماعه مع نظيره التركي “رجب طيب أردوغان” الذي أكد أن هلسنكي أوفت بكافة المطالب التركية للموافقة على انضمامها إلى الحلف، وبهذا تكون تركيا قد اتخذت موقفاً متوازناً لإرضاء الحلف وواشنطن بضم فنلندا، بينما ما زالت تعترض على انضمام السويد، وهذا سيمنح “أردوغان” ورقة انتخابية قوية لكسب أصوات التيار القومي والمُحافِظ، وقدرة على التفاوض مع واشنطن لحل الملفات الخلافية بينهما، لا سيما حصول أنقرة على مقاتلات (F16) مقابل موافقته على ضم السويد.
دلالات متعددة
عقب العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا التي بدأت في 24 فبراير 2022، تقدَّمت كل من فنلندا والسويد بطلب رسمي للحصول على عضوية “الناتو” في مارس 2022؛ ما أنهى الحياد التقليدي للدولتين المستمر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945؛ وذلك نتيجة مخاوفهما الأمنية من توسع الحرب الروسية، ولصد الثغرات الأمنية الجيوسياسية الأوروبية في مواجهة موسكو، بيد أن تركيا أعلنت رفضها لذلك، ورهنت موافقتها بتنفيذ الدولتين عدداً من المطالب الأمنية، وهو ما عرقل انضمام الدولتين إلى الحلف لمدة تسعة أشهر؛ حيث ينص ميثاق الحلف على الموافقة بالإجماع على انضمام أي دولة جديدة. وقد وافقت بالفعل بنهاية العام الماضي (28) دولة على انضمام فنلندا والسويد، بينما علقت تركيا والمجر موافقتهما. وقد استمرت المفاوضات منذ ذلك التاريخ حتى موافقتها على انضمام فنلندا إلى الحلف. وفي هذا الصدد، يثير الموقف التركي تجاه عضوية فنلندا في حلف الناتو عدداً من الدلالات الرئيسية المتمثلة فيما يأتي:
1– تدرج الموقف التركي من فنلندا: كان الموقف التركي للموافقة على انضمام فنلندا إلى الحلف متدرجاً؛ حيث حرصت أنقرة على تنفيذ هلسنكي كافة مطالبها التي طرحتها خلال الاجتماع الرباعي الذي عُقد على هامش قمة الحلف بإسبانيا في يونيو 2022، وضم كلاً من “أردوغان” و”نينيستو” ورئيسة الوزراء السويدية آنذاك “ماجدالينا أندرسون”، والأمين العام للحلف “ينس ستولتنبرج”. وأُبرمت مذكرة تفاهم ثلاثية بين (تركيا، فنلندا، السويد) لتنفيذ مطالب أنقرة الأمنية، وهي ما تعد سابقة في تاريخ الحلف.
ثم عُقدت اجتماعات ضمَّت وزراء الخارجية للدول الثلاث باستمرار على مدار العام الماضي؛ لبحث تلبية مطالب أنقرة الأمنية، وقد التزمت فنلندا بتنفيذها؛ ما دفع أنقرة إلى الموافقة على انضمامها إلى الحلف. وتمثلت تلك المطالب في وقف دعم الدولتَين التنظيمات الكردية المسلحة (حزب العمال الكردستاني التركي، ووحدات حماية الشعب الكردية السورية)، وكذلك عناصر “حركة الخدمة” التركية والعاملون بها (مؤسس الحركة هو المفكر التركي المقيم في بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية “فتح الله جولن”، الذي يتهمه أردوغان بالتحريض على الانقلاب الفاشل في 15 يوليو 2016)، علاوةً على رفع الحظر على تصدير الأسلحة إلى أنقرة الذي فُرض عام 2019، بعد شن تركيا عملية “نبع السلام” على شمال سوريا، وكذلك تسليم أنقرة 130 مطلوباً أمنياً.
2– حصول تركيا على الدعم الأوروبي لمواجهة آثار الزلزال: يرغب “أردوغان” بموافقته على انضمام فنلندا في الحصول على الدعم الاقتصادي الأوروبي لمواجهة آثار الزلزال المدمر الذي ضرب 10 محافظات جنوب البلاد في 6 فبراير 2023؛ فخلال زيارة “نينيستو” إلى تركيا يومَي (16 –17) مارس 2023، زار المناطق المتضررة من الزلزال المُدمِّر، وتعهَّد بتقديم كل الدعم لها، ثم التقى “أردوغان” لبحث إعادة الإعمار بعد الزلزال وانضمام بلاده إلى “الناتو”. وبعد ذلك أعلن “أردوغان” أن “الحلف سيصبح أقوى مع عضوية فنلندا، وسيلعب دوراً نشطاً في الحفاظ على الأمن والاستقرار”، وهو ما وصفه “نينيستو” “بالخطوة الكبيرة والمهمة للشعب الفنلندي”. وقد تزامن مع ذلك عقدُ مؤتمر للمانحين ببروكسل، تعهدت الدول الأوروبية خلاله بتقديم مليار دولار لدعم المناطق المتضررة من الزلزال المدمر في تركيا وسوريا.
3– الضغط على السويد: أصرَّت تركيا على موقفها بفصل ملف انضمام فنلندا عن السويد، وجاءت موافقة تركيا على انضمام فنلندا بعد تنفيذها مطالب أنقرة الأمنية لتؤكد ذلك، وهو ما سيؤدي إلى الضغط على السويد لتنفيذ الشروط التركية للحصول على موافقتها؛ حتى تتمكن من الانضمام إلى الحلف أيضاً، وكانت تأمل تحقيق ذلك قبل قمة الحلف المقبلة في ليتوانيا يوليو المقبل، بيد أن “أردوغان” يرفض منح موافقته للسويد حتى الآن، ومن المتوقع أن يتمسَّك بموقفه حتى بعد الانتخابات الرئاسية التركية المقبلة في 14 مايو المقبل.
وبخلاف المطالب التركية الأمنية من السويد، تفاقمت الخلافات مؤخراً بين أنقرة وستوكهولم بعد قيام رئيس حزب “هارد لاين” اليميني المتطرف بالسويد “راسموس بالودان” بحرق نسخة من القرآن الكريم أمام مبنى السفارة التركية في ستوكهولم في الـ21 من يناير الماضي، وكذلك نظمت عدد من التنظيمات الكردية تظاهرات مناهِضة لـتركيا حرقوا خلالها “دمية” “لأردوغان”؛ الأمر الذي احتجَّت عليه أنقرة، وطلبت من ستوكهولم وقف التصرُّفات العدائية ضدها، وطلبت من السويد تسليم 120 مطلوباً أمنياً لتركيا؛ من بينهم صحفيون وقيادات كردية، وهو ما ترفضه السويد حتى الآن.
4– إرضاء حلفاء أنقرة: يهدف الموقف التركي من الموافقة على انضمام فنلندا إلى حلف الناتو إلى إرضاء أعضاء الحلف وواشنطن، وإثبات التزام أنقرة بمعايير الحلف بعد التشكيك في جدوى عضويتها بالحلف وانحيازها إلى موسكو، إثر عرقلة انضمام فنلندا والسويد، واتهام أنقرة باتباع سياسة خارجية ودفاعية مستقلة عن الحلف. وقد رحب مستشار الأمن القومي الأمريكي “جيك سوليفان” بالقرار التركي، ودعا إلى “تسريع التصديق على بروتوكولات انضمام السويد إلى حلف الناتو”.
كما رحَّبت الخارجيتان الفرنسية والألمانية بالقرار ، وكذلك الأمين العام للحلف “ينس ستولتنبرج” الذي أصدر بياناً يصف الخطوة التركية بأنها “ستُعزز أمن السويد وفنلندا والناتو”. وفور الموافقة التركية، نشر الحلف مقاتلات حربية له لأول مرة في أجواء فنلندا على الحدود الروسية؛ ما يُعزز البنية الأمنية للحلف شمالاً، ويُمكِّنه من الدفاع عن دول البلطيق (ليتوانيا، إستونيا، لاتفيا)، خاصةً أن فنلندا تملك أطول حدود برية مع روسيا بين دول الحلف، ويبلغ طولها (1300كم)، كما أن تأمين الجبهة الشمالية للحلف ستكون هامَّة مع إطالة أمد الحرب الأوكرانية لعام أو اثنين مقبلين.
5– دعم مطالب أنقرة بالحصول على أسلحة غربية: سيُساهم الموقف التركي في دعم مطالبها بالحصول على منظومة الدفاع الجوي الإيطالية الفرنسية “سامب – تي”، ومقاتلات (F16) الأمريكية؛ حيث رفضت باريس وواشنطن ذلك؛ نظراً إلى شراء أنقرة نظام الدفاع الجوي الروسي (S–400). وكانت أنقرة قد قدَّمت في أكتوبر 2021 طلباً لواشنطن بشراء 40 مقاتلة من طراز “إف – 16″، و80 معدة من معدات التحديث لطائراتها الحربية الحالية؛ لتحديث قوتها الجوية، بعد فشل شراء مقاتلات (إف – 35) القتالية، ولكن واشنطن لم توافق على ذلك.
6– رفع شعبية “أردوغان”: يهدف الرئيس التركي “أردوغان” من موافقته على انضمام فنلندا، واستمرار رفضه ضم السويد، إلى استقطاب الأصوات القومية والمحافِظة، ورفع شعبيته قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة في 14 مايو 2023؛ حيث إن أحد أسباب رفضه هو مواقف أحزاب اليمين السويدي المعادية للإسلام؛ ما يستقطب الكتلة التصويتية الدينية المحافِظة، وكذلك يستقطب الكتلة القومية المعادية للأكراد؛ لأنه يرهن موافقته بتسليم “الإرهابيين الأكراد”، ووقف التنظيمات الكردية بالسويد. ومن المتوقع أن يستمر متمسكاً بموقفه هذا من السويد حتى إجراء الانتخابات التركية الرئاسية، مع إمكانية عقد اجتماعات بين أنقرة وستوكهولم برعاية “الناتو”؛ لبحث مطالب تركيا الأمنية.
أبعاد جيوسياسية
تحمل موافقة تركيا على انضمام فنلندا إلى حلف “الناتو” العديد من الأبعاد الجيوسياسية لأنقرة والحلف، وهو ما سينعكس بطريقة ما على سير العمليات العسكرية بأوكرانيا. ويمكن تناول هذه الأبعاد على النحو التالي:
1– تراجع الأهمية الجيوسياسية لتركيا “بالناتو”: رغم أن موافقة تركيا على انضمام فنلندا تهدف إلى دعم الجناح الشمالي الشرقي للحلف وتعزيز بنيته الأمنية لحماية دول شمال أوروبا (البلطيق وفنلندا السويد) من أي هجوم عسكري روسي مستقبلي ضدها، فإن ذلك ربما يؤدي إلى تراجع الأهمية الاستراتيجية لتركيا داخل الحلف؛ فمنذ انضمامها إليه عام 1952، كانت تُوصَف بأنها “حائط الصد” أمام أي تقدم سوفييتي ثم روسي في شرق أوروبا.
وحالياً تُعَد تركيا صاحبة ثاني أكبر الجيوش عدداً في الحلف، ومن أكثر الدول إنفاقاً عسكرياً بنسبة (1.89%) من دخلها القومي، كما توجد عدة قواعد عسكرية للحلف بتركيا؛ أبرزها “مقر القيادة البرية للحلف LANDCOM” بأزمير، وقاعدة “إنجرليك الجوية” جنوب تركيا، وقاعدة “أفيون الجوية”. وهذه المكانة الاستراتيجية الهامة لأنقرة داخل الحلف، مُهدَّدة بالتراجع عقب انضمام فنلندا حالياً والسويد لاحقاً؛ حيث ستُمثِّلان “الخط الأمامي للدفاع” عن الحلف بالجناح الشمال الشرقي، لا سيما مع طول الحدود الروسية الفنلندية المباشرة المشتركة. ويمكن نقل عدة قواعد عسكرية للحلف إلى فنلندا لتعزيز دفاعات الحلف.
2– تبني “الناتو” المطالب الأمنية التركية: يهدف الرئيس التركي إلى دفع الحلف لتبني المطالب الأمنية التركية؛ حيث يطالب دول “الناتو” بتصنيف التنظيمات الإرهابية التركية، وتسجيلها على قائمة الإرهاب بالحلف؛ ما يقتضي وقف أي دعم مُقدَّم لها، واعتقال المنتمين إليها وتسليمهم إلى أنقرة، بيد أن الحلف ودوله يعترضون على ذلك، ويفصلون بين الجناحين العسكري والسياسي لحزب العمال الكردستاني التركي.
كما ترفض كافة دول الحلف – وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكي – تصنيف حركة “الخدمة” المدنية التركية تنظيماً إرهابياً؛ نظراً إلى كونها حركة مجتمع مدني تركية لها أنشطة في 140 دولة بالعالم، ولم يُنسَب إليها أي عمل إرهابي. وهناك تشكيك في الرواية التركية بضلوع الحركة أو مؤسسها “جولن” في الانقلاب الفاشل بيوليو 2016، بيد أن “أردوغان” ما زال يضغط ويساوم للحصول على كافة مطالبه.
3– التوازن مع المصالح الروسية: يسعى “أردوغان” إلى تحقيق التوازن بين عضوية تركيا بالحلف وشراكته الاستراتيجية مع روسيا؛ حيث إن استمرار عرقلة أنقرة انضمام السويد سيمنح روسيا فرصة لتعزيز دفاعاتها الأمنية شمالاً مع إطالة أمد الحرب الأوكرانية. وقد أعلنت موسكو في 30 نوفمبر 2022 أن نشر قوات “للناتو” في فنلندا والسويد بعد انضمامهما إلى الحلف سيضر بالأمن الأوروبي، وأكدت أنها ستتخذ كل الإجراءات التي تضمن أمنها إذا تم ذلك. وبعد موافقة أنقرة على انضمام فنلندا، أكدت موسكو أن “روسيا لا تشكِّل بأي حال تهديداً لفنلندا والسويد”، وهذا ربما يؤدي إلى صدام بين أنقرة وموسكو مستقبلاً إذا تمدَّدت الحرب، وسيكون على أنقرة الاختيار بين عضويتها بالحلف وشراكتها مع روسيا.
خلاصة القول: ربما تساعد موافقة تركيا على انضمام فنلندا إلى عضوية “الناتو” في تعزيز عضويتها بالحلف وتحقيق عدد من مصالحها الرئيسية، بيد أن الإشكاليات التي ارتبطت بقضية العضوية ستحتاج إلى إعادة نظر لتقييم طبيعة العلاقة بين أنقرة ودول الحلف، ولمعالجة الخلافات البنيوية بين أنقرة والحلف، لا سيما ما يخص الأولويات الأمنية والخارجية لكلٍّ منهما.