×

  قضايا كردستانية

  ​استفتاء الإقليم والبدائل الدولية



*د.فؤاد معصوم

كانت الايام التي سبقت الاستفتاء بشأن اقليم كردستان وطبيعة علاقته بالدولة العراقية من أصعب الأيام وأشدها قلقا وتحسبا لما يمكن ان يحصل من تداعيات .

لقد كان التعامل مع هذا التطور والاندفاع فيه من أعقد ما واجهنا من مشكلات طيلة فترة الرئاسة.

قبل ان انتخب رئيساً للجمهورية كنت مواطناً سياسياً رُشح الى هذا المنصب الأرفع في الدولة من خلال (الاتحاد الوطني الكردستاني) الذي قضيت فيه اجمل سنوات عمري واخطرها، وبالتالي فأنا جزء من الحركة القومية الكردية التي ناضلت لعقود ضد الدكتاتورية ولصالح حريات وحقوق الشعب الكردي في كردستان العراق.

وكان نضال هذه الحركة برغم خصوصيته القومية، لاينفصل في أحيان  كثيرة عن النضال الوطني لمعظم القوى الوطنية العراقية.

لقد كان شعار (الديمقراطية للعراق.. والحكم الذاتي الحقيقي لكردستان) هو الشعار الذي جمع الاتحاد الوطني الكردستاني بالكثير من القوى الوطنية العراقية الأخرى في مختلف ميادين ومراحل النضال ضد الدكتاتوريات.

يجب هنا القول ان ليس هناك كردي، اينما كان، لا يحلم بتحقيق الدولة الكردية.

لكن الحلم شيء وإمكانات تحقيق الحلم شيء آخر .

هذه بديهية بقيت طيلة العقود تستوجب منا، على الاقل في (الاتحاد الوطني الكردستاني)، ان يتركز جانب اساس من جهدنا النضالي لصالح تحقيق الديمقراطية في العراق كله، ولم يكن هذا النضال من اجل الديمقراطية هدفاً تكتيكياً، انما هو مسعى من اجل بلوغ عراق ديمقراطي اتحادي تكون فيه الحريات والعدالة متاحة للجميع، من عرب وكرد وتركمان وسواهم، من مسلمين ومسيحيين وسواهم، يساريين ويمينيين وسواهم.

ان تكون في بلد ديمقراطي وتحترم فيه إرادة مواطنيه فهذا يعني انك حر بالتعبير عما يعتمل في نفسك، ومن ثم يمكنك، وبأساليب ديمقراطية، ان تنال ما لم تنله من حقوق وبضمنها الحقوق القومية.

 لقد تأسس الاتحاد الوطني الكردستاني عام 1975 بعد انهيار الثورة الكردية في اعقاب اتفاقية الجزائر الموقعة من قبل شاه ايران محمد رضا بهلوي وصدام حسين بحضور الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين، وما ترتب جراء تلك الاتفاقية من انتكاس للحركة القومية الكردية.

وحينذاك أعلن الاتحاد الوطني الكردستاني ببيان له عن (الثورة العراقية المندلعة في جبال كردستان) وذلك بعد قيامه بإعداد مفارز مسلحة للدفاع عن الشعب الكردي في العراق.

وهنا يجب الوقوف عند نقطة جديرة بالاعتبار وهي وثيقة الصلة بسعي (الاتحاد الوطني)عام 1984 الى اتباع تغليب مبدأ الحل السياسي والتفاوض مع السلطة، وهو مبدأ يركن له (الاتحاد) كلما لاح افق للحوار السياسي، لم تكن العودة الى العمل المسلح إلا اضطراراً بموجب تعنت العقلية الدكتاتورية، خاصة في عهد صدام، وهي عقلية لم تفكر يوماً بالاستقرار وحل المشاكل التي عانى منها الشعب العراقي، وبضمنه الشعب الكردي في العراق .

ان الهدف من ذلك كان نضال الحركة من اجل الديمقراطية للعراق .

اشير في هذا السياق الى انه، وبرغم ان القيادة والكوادر الحزبية والبشمركة كانوا كلهم من الكرد تقريباً، إلا ان كثيراًمن القيادات وكوادر العمل السياسي الوطني العراقي المعارض طيلة العقود كانوا يجدون فرصهم الحرة والكريمة للحياة والعمل السياسي المعارض الى جنب كوادر وقيادات الاتحاد الوطني في كردستان العراق.

وحينما يأتي ممثلون عن القوى العراقية للمعارضة، كان يجري استقبالهم من قبل البيشمركة بتقدير وبمشاعر الأخوة الوطنية.

اضافة الى ذلك كان الاتحاد الوطني الكردستاني طرفاً مهماً وأساسياً في التجمع الوطني العراقي .

لقد كان النضال من اجل ديمقراطية العراق هو مايوحد الجميع إذ ما كنا لسنوات طويلة لنضطر لحمل السلاح والقتال لو كانت هناك سلطات في البلد توفر للكرد فرصة اسماع صوتهم ومطالبهم.

فالسلاح كان وسيلة للضغط حين تنعدم وسائل التفاهم الأخرى ولا يبقى سوى حمل السلاح ضد السلطات الغاشمة، وهكذا فقد وجدنا أنفسنا لمرات كثيرة نجمد استخدام السلاح وذلك كلما كان الحوار والتفاهم ممكنين.

وبعد كل مرة كنا نعود للسلاح مضطرين ودفاعاً عن انفسنا، وذلك كلما أغلقت الأبواب وسُدت الأذان واشتد الطغيان، فيما كان الكرد دائماً مستعدين للحوار .

كان بناء عراق ديمقراطي اتحادي هدفا مهماً لنا، كما هو الحال بالنسبة لمعظم العراقيين.

في عام 2003، ومع سقوط الدكتاتورية، كان إقليم كردستان في وضع يشبه الاستقلال وذلك منذ سنوات بدأت مع ربيع عام 1991.

لكن سقوط الدكتاتورية في 2003 وتوفر فرصة بناء عراق ديمقراطي اتحادي كان سبباً مباشراً ليصبح الزعيمان الكرديان جلال طالباني ومسعود البارزاني في بغداد وفي مجلس الحكم، للإسهام ببناء دولة ديمقراطية عراقية .

وقبل هذا لم تنقطع القيادات الكردية عن المعارضة الوطنية العراقية والعمل مع مختلف فصائلها وشخصياتها بشتى السبل من اجل حرية العراق وديمقراطيته وتخلصه من الدكتاتورية.

لقد نتج عن العمل المشترك في مجلس الحكم ان يكون مام جلال اول رئيس كردي لمجلس الحكم، وهو ثالث رئيس لهذا المجلس بعد ابراهيم الجعفري واحمد الجلبي، فيما كانت مبادرة الرئيس الراحل طالباني في اول ايام رئاسته لمجلس الحكم بالتخلي عن جوازه التركي الذي منح له في فترة الرئيس توركوت أوزال، حيث أعاد الجواز مع رسالة شكر الى الحكومة التركية، وكان هذا تعبيراً بليغاً عن الإرادة الوطنية العراقية في العراق الديمقراطي الجديد.

كان مام جلال مضطراً لأخذ ذلك الجواز، وجوازات اخرى بأسماء مستعارة من ايران وسورية، خلال سنوات الدكتاتورية لحاجته الى استخدامها في السفر والتنقلات، فيما كانت أعادة الجواز االتركي النافذ، وبملء حرية طالباني ومن دون وجود اضطرار قانوني (حينها) على تلك الأعادة، هي ما أعطى لهذا  الموقف من زعيم كردي عراقي مغزاه الوطني ورسالته الواضحة بأن العراق الديمقراطي الاتحادي هو بلد الجميع وهو هدف اساس من اهداف نضالنا وقد تحقق حتى انتفت الحاجة للجواز بتسلم الرئيس طالباني جوازاً باسم جمهورية العراق وممهوراً بختم وطني عراقي .

في غمار تلك السنوات كنت شخصياً، قد تشرفت بكوني اول رئيس من القومية الكردية للمجلس الوطني العراقي، ومن المساهمين الأساسيين في كتابة الدستور الجديد بعد 2003، لقد كنا كسياسيين كرد نحرص على تقديم المثال في خلق معنى جديد للوطنية العراقية، بعد عقود طويلة جرى فيها امتهان مبادئ المواطنة من قبل الدكتاتوريات، انه معنى يكون فيه الجميع بناةً ومؤسسين، ويكون فيه  العراق بلداً يتساوى فيه الجميع بفرصهم، في المسؤوليات والواجبات، واتوقع اننا نجحنا في ذلك الى حد بعيد. سأورد هنا واقعة تعود الى عام 1993 وذلك للتعبير عن طريقنا ومنهجنا في التفكير الوطني.

فعندما توليت للمرة الأولى رئاسة مجلس الوزراء لإقليم كردستان في 4/7/1992، وعندما اقتربت الذكرى السنوية لتأسيس الجيش العراقي في السادس من كانون الثاني عام 1993، فإني كلفت الشاعر الكبير الراحل شيركو بيكس، وكان حينها وزيراً للثقافة في حكومة الاقليم، ان يكتب بيان تهنئة لأفراد القوات المسلحة بمناسبة عيدهم السنوي، والإعلان عن هذا اليوم وذكراه السنوية عطلة رسمية في اقليم كردستان.

فرغم ان الجيش حينها كان تحت قيادة صدام، الا ان هذا وسواه لم يمنع من اتخاذنا القرار بالتهنئة والعطلة الرسمية، وكان هدفنا من ذلك التأكيد بأن الجيش والقوات المسلحة للشعب العراقي، ولكل العراقيين.

وعملياً بقينا دائماً نبدي حرصنا الشديدعلى احترام التلازم مابين الديمقراطية والحريات والمبادء الوطنية والمواطنة.

ولهذا لم نجد تعارضاً بين الطموح القومي الكردي وبين كوننا عراقيين رغم ان بعض وقائع الحياة السياسية وصروفيها والاختلافات فيها كانت تضع الجميع في تعارض افتراضي مابين (الهويتين)، مابين كوننا مواطنين الكرداً وعراقيين، لكنه يظل تعارضاً طارئاً يزول مع زوال اسبابه، وهكذا كان وجود رئيس الجمهورية من القومية الكردية داعياً لاعتزاز معظم العراقيين من مختلف المكونات.

في اول اللقاءات التلفزيونية والصحفية التي أجريت معي بعد تسلمي رئاسة الجمهورية عام 2014 كنت قد أكدت مامعناه ( اني كعراقي من القومية الكردية رئيس يمثل مصالح جميع العراقيين، ويعمل على الالتزام بالدستور العراقي والحفاظ عليه من اي تجاوز او خرق، ومن يمثل الكرد في المؤسسات الاتحادية هم النواب أعضاء الكتل الكردستانية في مجلس النواب العراقي) .

وخلال عملي رئيساً للجمهورية، وبما يتيحه لي المنصب من مسؤليات وصلاحيات، ساعدتُ في حلحلة جانب من الاختناقات وتخفيف وطأة العديد من الاختلافات مابين السلطات الاتحادية والسلطات في الاقليم كما ساعدتُ في تذليل مصاعب كثيرة من مواطني الاقليم حين يكون شأن ما من شؤونهم متعلقاً بقرارات واجراءات اتحادية، وكان هذا لايختلف عن العمل الذي بقيت ابذله ليس فقط لصالح المناطق والمواطنين في اقليم كردستان وانما لعموم المواطنين في مختلف المناطق والمحافظات في اطار الدولة العراقية .

كنت اؤمن بمبدأ ان افضل مايمكن ان اقدمه لحزبي ولقوميتي خلال فترة عملي في رئاسة جمهورية العراق هو ان انجح في الحفاظ على مهمتي الدستورية كرئيس للعراقيين جميعهم.

واعتقد اني مضيت بمسار طويل حافظت فيه على هذه المعادلة وهذا التوازن، لكن التحدي الأخطر الذي واجهته هو كيف يجب ان يكون التعامل من موقعي كرئيس عراقي، ومن هويتي القومية الكردية، مع قضية الاستفتاء من أجل استقلال كردستان.

***

لم يكن بقي على موعد إجراء استفتاء في كردستان سوى ايام قليلة حين صار واضحاً ان إمكانية التراجع  عن اجرائه تكاد تكون مستحيلة، فقد كان التحشيد للاستفتاء كثيفاً، فيما كرست وسائل الإعلام والاحتفالات والتجمعات في كردستان جواً يعمق الحماسة من اجل المضي بخيار الاستفتاء، بينما على الجانب الآخر كان الموقف الحكومي الاتحادي يجد الكثير مما يساعده على مواصلة رفض الاستفتاء جملة وتفصيلا .

قبل الاستفتاء كنت في تواصل مستمر مع مختلف الأطراف فقد سافرت في غضون تلك الايام مرتين وذلك للقاء بقيادات كردية، لاسيما في الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني.

إن مسؤوليتي كرئيس للجمهورية من جانب، وكسياسي كردي من جانب آخر، جعلتني في مواجهة مع واحدة من اخطر تحديات عملي خلال السنوات الأربع في قصر السلام .

دستوريا واخلاقياً، كان يجب ان استقيل قبل إجراء الاستفتاء، وذلك في حال توفر قناعة لدي بصواب فكرة الاستفتاء في ظرفها وبضرورته وجدواه.

لكني كسياسي كردي في مواقع قيادية طيلة عقود، ومن ثم في عملي بالبرلمان العراقي ورئيساً للجمهورية، كنت أمام قناعة مترسخة تفيد بأن التفكير العملي بدولة كردية غير ممكن في الظروف الحالية، لأسباب إقليمية ودولية ولأسباب داخلية كثيرة .

قلت إن الحلم شيء بينما الواقع شيء آخر وقد كانت اجتماعاتي خلال الأسابيع التي سبقت الاستفتاء تؤكد هذه القناعة .

ففي منتصف شهر آيار 2015 كان كاك مسعود بارزاني في واشنطن على رأس وفد في زيارة للولايات المتحدة، وهي زيارة مهمة في سياق ظرفها، كان الوفد الكردي مؤلفاً من السادة قوباد طالباني وريباز كوسرت رسول علي ومصطفى سيد قادر .

في تلك الزيارة التقى كاك مسعود والوفد المرافق له الرئيس الأمريكي (حينها) باراك أوباما ونائب الرئيس جو بايدن وسفير الولايات المتحدة ببغداد دوغلاس سيليمان ، وقدم كاك مسعود في اللقاء بشكل مركز نبذة عن معاناة الشعب الكردي خلال مائة عام لم يجد الكرد أثناءها سوى المآسي و الجرائم بحقهم والإهمال المتعمد ضدهم مما جعل حلم الدولة الكردية أملهم الوحيد، وخلص الى ان الاستفتاء المزمع إجراؤه هو خطوة أولى عملية في مسار تحقق حلم الدولة الكردية .

وكان حديث الرئس اوباما دبلوماسياً كما هو معروف عنه فتحدث عن الوضع في المنطقة وبملابساته وعن مشكلات الإرهاب في العراق كأولويات مهمة لابد من التركيز عليها، وفضل للوفد ان يستمع لرأي نائب الرئيس السيد جو بايدن وهو الخبير المطلع بالشأن العراقي وظروف المنطقة، وهو معروف ايضاً بكثرة تردده على اقليم كردستان والعراق .

غادر اوباما قاعة الاجتماع، وبدأ بايدن بالحديث اكثر تفصيلاً.

لقد تحدث عن ضرورة احترام الدستور العراقي وعن اهمية ان يكون الإقدام على إجراء كالاستفتاء مقترناً بموافقة الجانبين في الحكومة الاتحادية وحكومة الاقليم.

وفي ختام كلامه ابتسم بايدن وقال وهو يوجه الكلام الى كاك مسعود:(ربما يأتي يوم نرى فيه نحن الاثنين دولة كردية، ولكن الآن لاتوجد مثل هذه الفكرة).

بعد هذا وفي اثناء استقبالي لسفير الولايات المتحدة ببغداد السيد دوغلاس سيليمان، وكان هذا بعد الاستفتاء، أكد لي ان الولايات المتحدة ابلغت القيادات الكردستانية بموقفها غير الداعم لفكرة الاستفتاء .

وفي الحقيقة لم يكن هذا هو موقف الولايات المتحدة وحدها فقط من الاستفتاء في كردستان العراق، فقد كان التفكير العام السائد لدى جميع الدول العظمى ومعها كبريات الدول يتطابق والموقف الامريكي، إذ لم ألتق سفيراً او مسؤولاً غربياً، وبضمنهم سفير بريطانيا ببغداد، إلا وأكد الموقف ذاته .

تاريخياً قدمت بعض الدول الإقليمية دعماًمختلفاً بمستوياته لبعض الحركات الكردية في دول أخرى، ولكن ضمن نطاق لايشكل معه ذلك الدعم تهديداً مستقبلياً للدولة الداعمة .

وعندما تلتقي مصالح دولتين وتتفقان فإن الدعم يتوقف، وغالبا ماكانت الدولتان تتخذان موقفاً موحداً من هذه الحركة، وقد قدم لنا التاريخ أمثلة ليست قليلة في هذا الشأن .

في حديث لي أثناء اجتماع مع قيادة الاتحاد الوطني يوم 20 ايلول 2017 في السليمانية قبل الاستفتاء سألت بعض  القادة الاتحاديين المتحمسين لفكرة الاستفتاء: (مَن مِن الدول العظمى او الكبرى قدمت لسلطات الاقليم وعداً يعبر عن دعم أكيد للدولة الكردية في حال مضى الاستفتاء الى الاستقلال، وحين نشرع بإجراءات الانفصال؟) ولم يكن هناك من جواب.

 كان موقف الاتحاد الوطني بشكل عام يذهب الى ضرورة وحدة الموقف الكردي، والى ان الاختلافات في التفاصيل مهما عظمت، ينبغي ان لاتفرط بوحدة الموقف، وفي الحقيقة فإن القيادات الكردية مختلفة فيما بينها، فبينما كان بعض القياديين يرى إمكانية القيام بالاستفتاء ولكن داخل مناطق الاقليم فقط، فإن بعضاً آخر تشدد فاشترط وجوب اجراء الاستفتاء وشموله في المناطق المتنازع عليها بما فيها محافظة كركوك، وإلا فإن هذا البعض يعلن عن نيته مقاطعة الاستفتاء حين يكون خلاف ذلك أي حين لا يشمل جميع المناطق العراقية المتنازع عليها .

في ذلك اليوم نفسه اجتمعت أيضاً في السليمانية مع رئيس الاقليم السيد مسعود بارزاني، بحضور عدد من قادة الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني.

وكان النقاش يتركز على الموضوعات نفسها مع المرور على موقف المجتمع الدولي من استفتاء كتالونيا .

فقد تزامن العمل على استفتاء اقليم كردستان مع سعي حثيث في اسبانيا من اجل استفتاء على انفصال اقليم كتالونيا.

لكن، وقبل البدء باستفتاء في الاقليم الاسباني، أُحبطت مساعي الكتلونيين من اجل الانفصال واعلان الدولة بإجراءات حكومية اسبانية شديدة ومدعومة من دول الاتحاد الأوربي وغيرها، وكان يجب تأمل هذه النتيجة التي كان الموقف الاوربي مهماً فيها وله دلالات بما يخص استفتاء كردستان العراق، وهو ما سنأتي عليه بعد قليل .

لكن في الحقيقة كانت هناك تصورات لاتريد اي مقاربة بين ماكان يحصل لكتلونيا وما يمكن ان يحصل في كردستان العراق .

وكان هناك رأي آخر يفيد بأن الموقف الاوربي المضاد لانفصال كتالونيا يمكن ان يكون مؤيداً لاستقلال كردستان .

كان الاعتماد كبيراً على افكار بعض المستشارين واغلبهم من الأجانب، وكانت فكرة هؤلاء المستشارين تمضي الى ان العالم سيقبل بواقع الحال، وبالتالي سيقبل بالدولة الكردية بعد إعلانها، اذا ماذهبت نتائج الاستفتاء الى ذلك الانفصال .

وكانت تلك استشارات غير امينة سواء بحسن النية او بنية اخرى او مصالح شخصية.

أحياناً في اجواء حماسة جماعية من اجل هدف معين فإن الكثير من التفاصيل تختفي عن صورة الهدف ولايظل منها سوى ما يعضد الحماسة ويدعمها وما يؤججها .

هكذا جرى إهمال المواقف المتوقعة من دول الجوار التي ستكون بعضها معنياً بشكل مباشر نتيجة الاستفتاء وما قد يترتب عليها، فيما سيكون بعض آخر من دول الجوار والمنطقة هو أيضاً معنياً بالنتائج وإن بشكل غير مباشر .

اعلنت الدول العربية موقفها الرافض للاستفتاء، وحضر امين عام جامعة الدول العربية وابلغ سلطات الاقليم بذلك كما اعلن ذلك للرأي العام منطلقا من مبدأ الحفاظ على وحدة التراب الوطني العراقي .

وفي الواقع لم يكن من الممكن توقع غير هذا الموقف من الدول العربية ومن الجامعة في موضوع، إذا ماحصل فعلاً فإن من العسير توقع نتائج هزاته الارتدادية على اكثر من بلد عربي متعدد الإثنيات .

اما موقف الامم المتحدة، فقبل ايام من تنفيذ الاستفتاء تسلمتُ نسخة من ورقة أعدتها الأمم المتحدة، من خلال ممثليها ببغداد وكانت تبدو مشروعا مقترحاً لتفادي الازمة الناشبة بين مختلف الاطراف، والخروج منها بتصورات تهدف الى تجاوز المشكلة ووضع حلول ممكنة بديلة لفكرة الاستفتاء، وبما يمكن معه تفادي مشاعر التراجع او التنازل من الجانبين، سواء الحكومة الاتحادية او الاقليم .

لا يختلف موقف المنطقة الدولية عن مواقف الدول الكبرى في رؤيتها للعلاقة مابين الدولة الاتحادية والاقليم بموجب هذه الرؤية كان هنالك مايشبه الاجماع على تعضيد جهود بناء الدولة الديمقراطية التحادية في العراق، وهناك ما يقرب من كونه التزاماً مشتركاً بالمحافظة على وحدة البلد .

إذ لاتختلف الدول الكبرى في هذه الغاية ولا الدول المجاورة للعراق والتي يبدو بعضها او معظمها اكثر تشدداً و تزمتاً في موضوع الاستفتاء من السلطات التحادية العراقية نفسها.

كانت الورقة التي أعدتها للامم المتحدة حذرة جداً في صياغتها وفي تعبيرها عن سعي المنطقة الدولية لأن تكون محوراً مساعداً في الوصول الى حلول مشتركة تراعي مصالح جميع الاطراف العراقية وتضمن وحدة الموقف وتفادي العنف وفرض الرأي .

في اللقاءات الكثيرة التي جمعتنا في مكتبنا بممثل أمين العام الأمم المتحدة ببغداد السيد يان كوبيتش وجدناه يؤكد هذا المسعى المعبر دائماً عن موقف واضح وثابت للمنطقة الدولية إزاء وحدة العراق أولاً وديمقراطية نظامه السياسي وعدالته في تمثيل الجميع والتعبير عن مصالحهم المشتركة ثانياً.

وهذه سياسة ثابتة للأمم المتحدة، إذ ان قضيتين أساسيتين لايمكن الاختلاف فيهما آنذاك، بالنسبة للمنطقة الدولية وللدول الصديقة للعراق، وهما الموقف من محاربة الإرهاب خصوصاً بنسخته الداعشية والاتزام بوحدة العراق .

وكانت فكرة الاستفتاء قد ترافقت مع مناسبتين يتوجب اخذهما بالحسبان حينذاك .

أولاهما الحرب الخطيرة التي كانت متواصلة بضراوة حينها ضد داعش، وثانيتهما تزامن استفتاء إقليم كردستان العراق مع نية اقليم كتالونيا الإسباني إجراء الاستفتاء والانفصال .

لقد عبر الغرب كما قلنا قبل قليل، عن موقف صريح وواضح ضد استفتاء ونية كتالونيا بالانفصال فيما حرصت معظم الدول على التعبير عن موقفها غيرالمقنع بفكرة استفتاء إقليم كردستان العراق، وكانت هذه الدول بمعظمها تسعى من اجل تفاهم وطني عراقي يحول دون تنفيذ الاستفتاء .

وهذا ماتشير إليه ورقة الأمم المتحدة بقولها بضرورة:(ملاحظة موقف المجتمع الدولي الذي كرر دعمه للديمقراطية في العراق ووحدته وسلامة اراضيه واستقراره، وأشار هذا الموقف الى قلق المجتمع الدولي من اجراء استفتاء لاستقلال بشكل أحادي الجانب، وأنه يقوض على نحو خطير سيادة العراق وسلامة اراضيه، ويزيد خطورة عدم الاستقرار في العراق والمنطقة، وتبقى محاربة داعش الأولوية، وعبر المجتمع الدولي عن انه يدعم حل القضايا العالقة بما فيها مسألة الاستفتاء عبر الحوار والمفاوضات).

كانت صياغة ورقة الأمم المتحدة تفصح عن هذا الحرص المتوازن، لكنها كانت واضحة وصريحة بتأكيدها على اتفاق الشعب العراقي طوعياً بموجب الدستور المصوت عليه (وبما فيه كردستان العراق على ان العراق دولة موحدة وديمقراطية وفيدرالية، وان احترام الدستور والعملية الديمقراطية أمر أساسي) كما جاء في نص الورقة .

وتقر الورقة ايضاً بأنه (في هذه المرحلة، وفي الوقت الذي يقوم فيه الشعب العراقي، بما فيه اقليم كردستان، بالتعاون في مايُسمى بـ (داعش)، فإن محاربة داعش تبقى لها الأولوية  وعليه يجب ان تتم معالجة القصور الذي حدث ومراجعة الاسس والمبادئ والترتيبات في البيت العراقي ومن اجل معالجة تطلعات وطموحات كافة العراقيين بمن فيهم الشعب الكردي).

لم تكن فكرة الأمم المتحدة ضد الاستفتاء بشكل مطلق، لكنها لا تؤيد ان يكون الاستفتاء من طرف واحد، ويمكن لها كما تعبر الورقة عن ذلك، ان تكون مع استفتاء يتفق عليه الطرفان ولا يخالف الدستور والقوانين السارية في البلد .

لذلك تحدثت الورقة المقترحة عن الحاجة الى موافقة (الحكومة العراقية وحكومة اقليم كردستان، عملاً بروح الشراكة والتعاون بينهما واحترام مشترك لكل منهما لتطلعات الشعب العراقي بمن فيه الشعب الكردي ووفقا للدستور على مايلي:

•      الدخول في شهر ايلول في مفاوضات شراكة منظمة ومستدامة ومكثفة تعتمد على تحقيق نتائج ومن دون شروط مسبقة وبجدول اعمال مفتوح لحل كافة المشاكل والقضايا العالقة وفقا لمبادئ وترتيبات تحدد العلاقة المستقبلية بين بغداد وأربيل والتعاون بينهما.

•      تستكمل هذه المفاوضات خلال 2_3 أعوام من تاريخ بدئها.

•      الطلب من الأمم المتحدة، نيابة عن المجتمع الدولي، تقديم مساعدتها الحميدة لعملية التفاوض وتنفيذ ماتتفق عليه الاطراف من نتائج) .

ولتتويج  هذا الاتفاق، تقترح ورقة الأمم المتحدة ان (تقوم حكومة إقليم كردستان بعدم إجراء الاستفتاء في 25 أيلول 2017 وفق ما أعلن في قرارها المرقم 106 الصادر في 8 حزيران 2017، ويمكن لها ان تعود لهذه المسألة انتظار نتائج المفاوضات).

ورأت الورقة ان هذا الاتفاق من شأنه ان يكون بمثابة ( فرصة لكل من مجلس النواب العراقي وبرلمان إقليم كردستان لتبني التشريع اللازم الذي ينظم إجراء أي استفتاء في المستقبل).

وتختم الورقة بما يلي: (يرحب المجتمع الدولي، ممثلاً بالأمم المتحدة، ويدعم هذا الاتفاق .

وان الدعم والضمانات الدولية ستساعد في تسهيل حل القضايا العالقة وتنفيذ المبادئ والترتيبات التي ستحدد مستقبل العلاقة والتعاون بين بغداد وأربيل) .

كانت هذه صيغة ناضجة ومتقدمة في النظر لمسألة الاستفتاء والعلاقة ما بين الحكومة الاتحادية وحكومة الاقليم، وأعتقد انها كانت تنطوي على التعبير الأكثر تقدماً وتفهماً من المجتمع الدولي لطموحات الكرد العراقيين.

 

اجتماع منتجع دوكان

وفي اجتماع منتجع دوكان مابعد إجراء الاستفتاء، وسأتحدث عنه في صفحات التالية، وكان بحضور السادة مسعود بارزاني ونيجرفان بارزاني ومسرور بارزاني وبعض قيادات الحزبين، سألت السيد نيجرفان عن صحة هذه الورقة فأكد أنه تسلمها فعلاً من الأمم المتحدة .

ولم توافق حكومة إقليم كردستان على ورقة الأمم المتحدة، كانت تريد تحديد موعد بديل للاستفتاء المعلن على ان يكون من الأمم المتحدة نفسها، وان لايتم التأجيل دون هذا التحديد وكان هذا أمراً ليس هيناً، إذ ليس من المعقول العمل بمبدأ كل شيء او لاشيء .

إقليمياً، كان الأخطر هو عدم التفكير جدياً بالموقفين الإيراني والتركي .

وكان هذا التجاهل لموقفيهما يدعو فعلاً للاستغراب ففي الحسابات السياسية لايحتاج الأمر الى الكثير من الجهد والتحليل حتى يخلص المرء الى استحالة صمت، وليس موافقة البلدين الجارين على فكرة الاستفتاء أساساً، ناهيك عن النتيجة المتوقعة للاستفتاء في حال إجرائه، وكانت واضحة مسبقاً .

وفعلا فقد جرى تحريك قطاعات عسكرية تركية بعربات مدرعة باتجاه الحدود مع العراق وحتى داخل الأراضي العراقية في كردستان العراق وكانت هذه رسالة واضحة، لكن بعض الأخوة من كبار القياديين في كردستان، وحين أشرت بحديث لي معهم الى مغزى الرسالة التركية قبل الإقدام على تنفيذ الاستفتاء، ظلوا حريصين على تهوين مايحصل ووصفه على أنه محاولة لتعطيل المباشرة بالاستفتاء ولاتنطوي على أي بعد أو هدف آخر أبعد من الاستفتاء .

الإيرانيون كانوا اكثر صراحة معنا، ففي لقاء في منزلي مع السيد قاسم سليماني بتاريج 13 تشرين الأول 2017 قال لي: ( أنا متألم جداً، فقد كنت دائماً صديقاً للكرد في العراق، لكن الآن تحتم الظروف ان اكون في مواجهتكم)وكان يتحدث عن الاستفتاء وما قد يترتب عليه، قلت له حينها: (في كل حال فإن هذا الشأن عراقي، ومن المهم البحث عن حلول، وليس القتال) .

سأعود هنا الى موقف حصل لي عام 1981حيث زرت الجمهورية الإسلامية حينها.

ففي تلك الزيارة التقيت بسماحة السيد علي خامنئي، وكان حينها ممثلاً للإمام خميني في مجلس الدفاع الأعلى، كان الحديث يجري عن المعارضة العراقية بمختلف فصائلها، وكنت اتحدث عن (الاتحاد الوطني الكردستاني) بوصفه حركة كردية عراقية وثيقة الصلة بأطراف المعارضة الوطنية من أجل حرية الشعب بمختلف أطيافه ومستقبل العراق، ولا ينشغل الاتحاد بأي نشاط خارج حدود بلدنا العراق، فيما كان رأي السيد الخامنئي صريحاً وهو يقول لي: (الحركة الكردية في أي بلد هي في حقيقتها وجوهرها لاتبقى  محصورة في داخل جغرافية بلدها) استعيد ذكرى هذا التعبير وذلك للقاء لتأكيد ثبات الموقف الإيراني إزاء هذه القضية المهمة المتعلقة بإجراء استفتاء حول انفصال الاقليم.

داخلياً كان موقف رئيس الوزراء د.حيدر العبادي واضحاً، وقد عبر عنه للإعلام اكثر من مرة، كان يقول بعدم شرعية الاستفتاء، وهو الموقف الذي أكده البرلمان العراقي، ومختلف القوى السياسية الممثلة بالبرلمان حصل هذا في جلسة شهدت تصريحات متشنجة من كثيرين حتى وصل الأمر ببعضهم الى المطالبة بمحاسبة أعضاء مجلس النواب الذين شاركوا في التصويت بالاستفتاء، وكان بعض المتحدثين قد أكد على وجوب اسقاط عضوية هؤلاء النواب الكرد وكذلك بعض كبار الموظفين الكرد في الحكومة الاتحادية ممن شاركوا في الاستفتاء .

وفي اجتماع مع قيادات أساسية في بغداد ذهب زعيم كتلة برلمانية كبيرة وهو رئيس الوزراء الاسبق نوري المالكي، الى ان الاستفتاء من الممكن ان يجري القبول به على مضض، لكن فقط حين يكون استفتاء بلا أية مترتبات، وحين تقييد بمحافظات اقليم كردستان حصراً ولايتجاوزها الى المناطق المختلف عليها ومن ضمنها كركوك .

وقبل الاستفتاء بأيام قليلة، وفي اجتماع مع القيادات الكردستانية نقلت رأي المالكي وغيره، وخصوصاً ما يتعلق منه بالمناطق المتنازع عليها، فكان الرد أننا لم نتخذ قراراً بعد بالاستفتاء في كركوك والمناطق المتنازع عليها .

لكن الاستفتاء أجري بالفعل في كركوك، ثم حصل ماحصل فيها.

 

***

استقبلت في قصر السلام نهار السادس عشر من أيلول 2017 وفداً من كردستان ضم الدكتور روز نوري شاويس وسعدي بيرة وقد حضره وزير الثقافة السابق فرياد راوندوزي وعدد من ممثلي الأحزاب الكردستانية والأقليات في الاقليم .

كان أعضاء الوفد اصدقاء و رفاقاً وكان التفاهم فيما بيننا يتجاوز الأطر البروتوكولية، ويسمح بالتعبير الصريح والمباشر، كنا جميعاً  ندرك حرج تلك اللحظة وكانت فكرتهم تتركز على إمكانية (التأجيل) الاستفتاء واستعدادهم لتلك الفكرة، وقد اقترحوا من أجل المباشرة بها، ان يحصل ذلك بموجب دعوة من الولايات المتحدة.

فقد اقترحو تصوراً يمكن للولايات المتحدة ان تتقدم به ويفيد بأن ليس من مصلحة المنطقة حالياً التفكير بإجراء استفتاء، ويجري اقتراح التأجيل مقابل العمل على تقريب وجهات النظر ما بين الطرفين لحل المشاكل القائمة .

كان هذا موقفاً واضحاً وهو التأجيل، بموجب وعد من دولة كالولايات المتحدة، وبهذا فهو غير إلغاء الاستفتاء لا أتوقع ان هذا يرضي الجانب الحكومي الاتحادي ولا الجهات الداخلية والاقليمية، ومن غير المتوقع ان يقتنع الامريكان بذلك، لكن لابأس في مناقشته كخطوة تمضي الى الامام بأتجاه تفكيك الأزمة العاصفة.

ربما لا نتفق على فكرة الحل المطروحة لكن البحث فيها قد يساعد في تقريب وجهات النظر عند حل قد نصادفه في اثناء الحوار، لا شيء يزيد في تعقيد أية مشكلة مابين الطرفين اكثر من تقطع سبل الحوار والتفاهم مابينهما واشير هنا الى ان السيد نوري شاويس أكد لنا خلال الحوار عدم الرغبة في اجراء الاستفتاء في كركوك والمناطق الأخرى المتنازع عليها.

بعد لقائنا بقصر السلام، زار الوفد  الكردي رئيس مجلس النواب د. سليم الجبوري، كما التقى بقيادات صدرية ثم التقى بالسيد عمار الحكيم وبأطراف أخرى قبل ان يجتمع الوفد برئيس الوزراء الدكتور حيدر العبادي، وفهمت ان اعضاء الوفد انهم كانوا راضين عما جاء في تلك اللقاءات والاجتماعات بشكل عام .

وفي مساء اليوم نفسه زارني سفير الولايات المتحدة دوغلاس سيليمان في منزلي ببغداد، وكان يبحث عما استجد في لقاءات الوفد القادم من اربيل، كانت ايام ماقبل الاستفتاء بشأن اقليم كردستان مشحونة بالكثير من التوترات السياسية، وبقلق شغل الجميع فقد صار واضحاً ان الأمور تمضي باتجاه الاستفتاء، إنما وسط جو ضبابي غامض، وكان الغموض يكمن في ضبابية الرؤية لما بعد الاستفتاء، كيف سيكون الحال والى اين تتجه الأمور، بغض النظر عن نتيجة الاستفتاء؟

لم يكن الوضع بحاجة الى الكثير من التفكير ليقرر بموجبه اي متابع ان الاستفتاء لن يترتب عليه شيء من هدفه المباشر، وهو الانفصال او الاستقلال حيث تختلف التعابير، فهذا لن يتحقق لكن المشكلة هي في أجواء مابعد الاستفتاء، كيف ستستأنف الحياة السياسية دورتها الطبيعية مابين الاقليم والحكومة الاتحادية؟

كيف يعاد بناء العلاقات التي بدات في لحظة كما لو أنها قد تقطعت نهائياً؟

كان السفير الامريكي قد عمل بالتواصل مع حكومة الاقليم وذلك برفقة السيد بريت ماكغورك، وهو محام امريكي ومستشار لهم في شؤون العراق .

فقد بقيا لمدة ليست بالقصيرة يتواصلان خلاله مع حكومة إقليم كردستان، واكد السفير لي في ذلك المساء بمنزلي أنه قضى ثلاثة أسابيع مع السيد مسعود بارزاني حيث واصلا نقاشات وحوارات استغرقت مامجموع حوالي تسع ساعات وتركزت على قضية الاستفتاء وموضوعة الانفصال .

كان تصور السفير ان السيد بارزاني لديه شعور متحمس وقوي للاستفتاء وان رغبته تتركز على ان يكون الحوار مختصاً بما بعد الاستفتاء، فقد كان يريد حواراً ومفاوضات تعقب إعلان نتائج الاستفتاء .

أوضح السفير ان بلاده اقترحت على قيادة الاقليم الدخول مباشرة بحوار كثيف مع الحكومة الاتحادية، كما اقترحوا استعداد الولايات المتحدة والأمم المتحدة للمساعدة في قيام حوارات تخص انتهاكات الدستور وغيرها .

وكان سؤال السيد مسعود بارزاني يتركز على ما اذا كانت الولايات المتحدة ستعلن دعمها للاستفتاء في حال لم يتفق الطرفان على حل مشاكلهما العالقة خلال فترة محددة .

كان رد السفير متوقعاً: لن ندعم هذا الاستفتاء، يجب حصول موافقة العراق أولاً، وجرى التأكيد ايضاً حسب السفير، على ان الأمر يزداد تعقيداً إذا ماشمل الاستفتاء المناطق المتنازع عليها مثل كركوك وسنجار وخانقين ومناطق أخرى .

كان الامريكان يريدون تقديم دعم آخر، يقول السفير: عرضنا دعماً للدخول في حوار مباشر ومختلف عن النقاشات والحوارات السابقة .

ستضع الولايات المتحدة جدولاً للأعمال، وسندعم النتائج والالتزام بقرارات المتخذة من الطرفين بموجب الحوار.

وكان السفير الامريكي يتساءل، أو ينقل تساؤل حكومته، عما اذا كان هناك من حل سوى الاستفتاء، لقد كان يقول: (سندعم النتائج التي يتوصل إليها الوفدان المتفاوضان، خاصة بعد هزيمة داعش، سنلتزم بإعادة بناء والاستثمار في كردستان،لقد نجحنا في إقامة تفاهم مابين البيشمركة والجيش لصالح المعركة ضد داعش .. هذه الاشياء ستضيع اذا حصل الاستفتاء) .

لقد كان هذا الموقف الأمريكي واضحاً ومعلناً، ولم تكن المواقف الإقليمية تقل وضوحاً عن هذا .

وقد كان مهماً في ضوء قناعتي العمل على إيجاد حلول مناسبة قبل التفكير بالمضي الى الاستفتاء وأذكر هنا ان نائب رئيس الجمهورية حينها الدكتور اياد علاوي زارني يوم الحادي عشر من أيلول 2017 وأخبرني بعزمه على السفر في اليوم التالي الى كردستان تلبية لموعد لقاء مع السيد مسعود بارزاني في متجع صلاح الدين  باربيل .

كان هدف اللقاء هو الحديث عن الاستفتاء، أراد الدكتور معرفة رأيي عما يمكن عملة خلال لقائه بالسيد بارزاني فأوضحت له وجوب التفكير بحلول تضمن التهدئة وان لايخسر فيها طرف ولابد من مخرج، رجوته ان ينقل تحياتي لكاك مسعود وتصوري الذي فضلت بموجبه ان يجري تحويل موضوع الاستفتاء الى برلمان الاقليم، ومساعدته على تهيئة الاجواء له بحيث يطلب البرلمان تأجيل موضوع الاستفتاء من أجل إجراء مزيد من الاستعدادات السياسية والدبلوماسية، وأخذ فسحة كافية من الوقت للحوار الجاد والعميق، ولم أكن أرى هذا تنازلاً من البارزاني  عن رأيه قدر ما هو استجابة لقرار البرلمان، بخلاف هذا اقترحت ان يقتصر الاستفتاء على الاقليم فقط خاصة وان هناك اقضية ونواحي تابعة للمناطق المتنازع عليها مازالت حينها تحت سيطرة داعش .

حين عاد الدكتور اياد علاوي مساء يوم الموعد بعد لقاء بالسيد مسعود بارزاني اتصل بي واخبرني بأن كاك مسعود لم يعط جواباً محدداً وربما كان بصدد التشاور مع بعض مستشاريه .

 

***

لم تقف التداعيات عند هذا الحد بعد ما اجري الاستفتاء في الاقليم وفي المناطق المسماة بالمتنازع عليها وأعلنت نتائجُه، ولم تتوقف جهودي ومحاولاتي لتطويق التداعيات، بل اوصلت التأكيد، من خلال اللقاءات والاتصالات على ضرورة الحوار، ومشدداً على ان لا حل من دون الحوار مابين الحكومة الاتحادية والاقليم .

في الواقع وجت نفسي، في غمرة التشاحن مابين الاقليم والحكومة الاتحادية، أمام مشكلة مزدوجة مع الطرفين المتشددين في بغداد وكردستان، إذ لم ينفع مع الحكومة الاتحادية تقيدي التام بالتزامي الدستوري، فكان التركيز على هويتي القومية الكردية داعياً لفتور الصلة وإعاقة محاولاتي لتبديد مشكلات مابعد الاستفتاء .

ومقابل هذا ظل بعض القادة الكرد ينظرون الى استمرار عملي كرئيس للجمهورية الاتحادية كما او أنه مانع يحول دون أداء دور مطلوب لصالح ابناء قوميتي .

ما لم يرد الطرفان التفكير به هو انني لم أفصل البتة مابين الطبيعتين، مابين تقييدي بعملي الدستوري وما بين اهتمامي بأبناء قوميتي.

والى الآن لا اشعر بأي فصل بين المهمتين خلال سنوات عملي رئيساً للجمهورية، فقد كان التزامي بالدستور هو مسؤولية أمام من منحوني اصواتهم، وهم يمثلون الشعب العراقي بكل أطيافه، بينما اهتمامي بالمشكلات التي تواجه قوميتي جراء التداعيات للاستفتاء هي مسؤولية دستورية .

أشير بهذا الصدد الى مطالبة بعض السياسيين ببغداد بإقالة رئيس الجمهورية، وهذا ما عارضه السيد مقتدى الصدر ببيان له اصدر في الرابع عشر من تشرين الأول حيث اكد فيه ان المطالبة بإقالة رئيس الجمهورية ليست إلا نوعاً من انواع الضغط السياسي وهو غير صحيح، وكانت توجيهات الدكتور اياد علاوي لكتلته تمضي بهذا المنحى الرافض للإقالة .

 

***

في خضم هذه الأحداث انتقل الى رحمة الله تعالى في الثالث من تشرين الأول من ذلك العام (2017) بألمانيا رئيس الجمهورية السابق والأمين العام للاتحاد الوطني الكردستاني جلال طالباني .

كان وقع الخبر مؤلماً بالنسبة لي وذلك بعد حياة نضالية مشتركة، وبعد تاريخ من العمل السياسي في فترة المعارضة وأثناء العملية السياسية ما بعد 2003، في الفترتين كان دور مام جلال حيوياً ومتفائلاً في تطلعه لبناء عراق ديمقراطي اتحادي يسع الجميع، ولنيل الكرد كامل حقوقهم .

تألمت كثيراً لفقدانه وهذا ماعبر عنه البيان الذي صدر عنا ونعيناه فيه، حيث قلنا فيه ان الشعب ( خسر مناضلاً صلباً، جمع بين الفكر القومي الإنساني والوطنية الصادقة والثقافة الرفيعة فضلاً عن الإيمان الراسخ بالفكر الديمقراطي التقدمي والإحساس العالي بالمسؤولية ومقارعة الظلم والاضطهاد) ..

كانت مشاعر غالبية العراقيين سواء في فترة مرض مام جلال أو عند انتشار خبر وفاته تؤكد تلك الخساره، وبهذه العواطف والمشاعر الجياشة فقد كان فقدانه يؤكد نوعاً آخر أكثر إيجابية في صلة مابين المواطن والسياسي الحاكم .

اتصلت حينها برئيس الوزراء الدكتور حيدر العبادي واقترحت عليه إصدار بيان بإعلان حداد لمدة ثلاثة أيام وإرسال طائرة لنقل جثمان الفقيد الراحل من المانيا الى مدينته السليمانية فوافق الرجل مشكوراً وأوعز بذلك .

 

***

بعد أيام على رحيل مام جلال كنت في متجع دوكان، وذلك في غمار المساعي لتطويق التداعيات الأزمة التي اشتدت بعد الاستفتاء سافرت في 13 تشرين الأول الى مدينة السليمانية، وفي الطريق من مطار المدينة الى الفندق الذي أقيم فيه تحدثت مع ملا بختيار رئيس الهيئة العامة للاتحاد الوطني، وكان معه محافظ السليمانية د. هافال ابو بكر، حيث طلبت من ملا بختيار تحديد موعد مع كاك مسعود لاجتماع مشترك يضم  أيضاً قادتي الحزبين .

وفعلاً تحدد الموعد وأجري هذا الاجتماع يوم 15 تشرين الأول في متجع دوكان الذي شهد من قبل الكثير من الاجتماعات المهمة مابين قادتي الجزبين وبالأخص مابين مام جلال وكاك مسعود .

حضر هذا الاجتماع بالإضافة لكاك مسعود بارزاني وكاتب هذه السطور كل من السادة نيجرفان بارزاني ومسرور بارزاني و د. روز نوري شاويس، عن الحزب الديمقراطي الكردستاني، ومن الاتحاد الوطني الكردستاني حضر السادة كوسرت رسول علي النائب الأول للأمين العام وملا بختيار وعمر فتاح (عن الهيئة العامة) للاتحاد وأعضاء آخرون من المكتب السياسي من بينهم رزكار علي وآسو مامند ورفعت عبدالله، كما حضر الاجتماع السيد بافل جلال طالباني .

تحدثت في مستهل الاجتماع عن الوضع المتأزم مابين الحكومة الاتحادية وحكومة الاقليم، وعن التهديدات الاقليمية التي بات يجري التلويح بها من اكثر من مكان بالمنطقة، كما حاولت تقديم صورة واضحة وصريحة ودقيقة عن مواقف مختلف الاطراف العراقية، وكذلك مابلغني من مواقف أثناء لقاءاتي بسفراء وممثلي البلدان المعنية بالشأن العراقي اقترحت حينها فكرة إصدار مشترك يجري فيه التأكيد على الالتزام بالدستور من دون المرور بالاستفتاء والسعي من أجل الدخول في حوار جاد لحل المشاكل القائمة .

كان الشك سيد الموقف، وكان من المؤسف ان الشكوك تعثر الثقة مابين مختلف الأطراف قد جعل من الاجتماع ملبداً بالانشغال بمناقشات لغوية حول طبيعة البيان بحيث لم يفض الاجتماع لما هو مأمول منه .

في تلك الأثناء طلب رئيس الوزراء حيدر العبادي مباشرة في كلمة أمام البرلمان بإلغاء نتائج الاستفتاء قائلاً (يجب ان يلغى هذا الاستفتاء، ونبدأ الحوار في إطار الدستور .

لن ندخل في اي حوار بناءً على نتائج مثل هذا الاستفتاء) .

من جانبه دعا السيد مسعود بارزاني الحكومة الاتحادية لإجراء حوار جاد بدلاً من التهديد .

التطور الأوضح كان قد حصل قبيل فجر السادس عشر من تشرين الأول 2017 عندما دخلت قوات من الشرطة الاتحادية والحشد الشعبي أطراف مدينة كركوك، فيما دخل قسم منها الى المدينة نفسها، وانسحبت مجاميع من البيشمركة بينما حصلت في بعض المواضع مناوشات مابين الطرفين حوالي مدينة كركوك ونجم عنها استشهاد عدد من البيشمركة .

مع هذا التطور اخذت عوائل كردية تجمع مايمكنها جمعه من حاجاتها المهمة قبل مغادرتها المدينة .

قبل ليلة دخول القوات كنت في اتصال تكرر لمرتين مع السفير الامريكي حيث وردتنا معلومات عن التحشد لدخول كركوك، طلبت التدخل للحيلولة دون مزيد من التدهور مابين بغداد والاقليم، لكن السفير نفى ان تكون لديه أية معلومات عن أية استعدادات عسكرية لذلك .

صباح اليوم التالي، وقد دخلت القوات فعلاً الى مدينة كركوك، عاد السفير في اتصال هاتفي ليؤكد عدم معرفة السفارة بأي تفاصيل مما حصل، وعزا ذلك الى حق المستشارين الامريكان بالاحتفاظ بسرية المعلومات التي كانت متاحة لهم، بحيث لم يبلغوا السفير او السفارة بمعلومات عن دخول القوات الاتحادية الى مدينة كركوك، او هذا في الأقل ماقاله  السفير، لقد كان التنسيق واضحاً من المشاورات واللقاءات ما بعد إجراء الاستفتاء.

اذ تكثفت اللقاءات العسكرية والسياسية مابين العراق من جانب وكل من تركيا وإيران من جانب آخر فقد سافر رئيس اركان الجيش العراقي الى انقرة، ووقف هناك الى جانب رئيس الأركان التركي في حضورهما استعراضاً عسكرياً وبعد الاستفتاء سافر الدكتور حيدر العبادي الى تركيا للغرض نفسه، وجاء في بيان لمكتب رئيس مجلس الوزراء ان هذه الزيارة الى تركيا تأتي في إطار جولة اقليمية تشمل السعودية ومصر وتركيا والاردن وايران .

عدت فأكدت لرئيس الوزراء باتصال هاتفي ضرورة حفظ أمن الكرد وسلامتهم في كركوك، وضبط النفس إزاء اي تطورات قد تحصل، وقد تكون النتائج خطيرة و وخيمة، وانه لابد من الحوار في نهاية المطاف .

وفي تطور آخر ضمن ردود فعل الحكومة الاتحادية على الاستفتاء صدر قرارها بإيقاف حركة الملاحة الجوية والسيطرة على المطارات ومنافذ الحدود في كردستان، كما جرى حث كل من تركيا وإيران على منع التبادل التجاري مع الاقليم .

لقد تغيرت الصورة حين بات اقليم كردستان يطالب بالحوار فيما بقيت الحكومة الى الغاء الاستفتاء ونتائجه كشرط اساس للحوار .

وسط هذه التطورات وفي الأجواء المتوترة جاء الموقف من المحكمة الاتحادية التي اعلنت بقرار لها في 20 تشرين الأول ان الاستفتاء ليس له اي مرجع دستوري وينتهك احكام الدستور، وبناء على ذلك قررت المحكمة عدم دستورية الاستفتاء ورد جميع نتائجه، كان هذا القرار اكبر من حدوده القانونية الدستورية فقد كانت المحكمة بهذا القرار أغلقت منفذاً لاحتمالات الفتنة التي يمكن ان يتعرض لها الكرد في بغداد ومختلف المناطق المشتركة في تلك الظروف التي شحنت بمشاعر الغضب والبغضاء .

وايضاً في يوم 20 تشرين الأول اكد ممثل المرجع الأعلى، في خطبة الجمعة التي تمثل رأي المرجعية، ضرورة البدء بحوار بين الحكومة الاتحادية وحكومة الاقليم، مشيراً الى اهمية وحدة الموقف وضرورة ان لاتنظر الحكومة الاتحادية على انها انتصرت، من انتصر بهذا هو العراق بعربه وكرده وتركمانه وسائر مكوناته.

وكان هذا سعياً للحيلولة دون مواصلة تداعيات الوضع مابين الاقليم والحكومة الاتحادية بعد الاستفتاء .

 

***

من الصحيح ان الأمم المتحدة والولايات المتحدة وفرنسا وكذلك المملكة المتحدة وألمانيا وكندا لم يكونوا مع اجراء الاستفتاء في الاقليم والمناطق المتنازع عليها بالمقابل لم يكونوا مع تلك الاجراءات التي أقدمت عليها الحكومة الاتحادية والتنسيق الذي ظهرت ملامحه مابين العراق وتركيا وأيران .

لقد دخلت تلك الدول الكبرى على الخط مباشرة وذلك بهدف الوصول الى حوار مابين الحكومة الاتحادية وحكومة الاقليم، فكان ان وجه الرئيس الفرنسي ماكرون دعوة للسيد نيجيرفان بارزاني لزيارة باريس للتباحث معه بشأن الوضع في العراق، وكذلك وجهت السيدة تيريزا ماي رئيسة وزراء المملكة المتحدة دعوة مماثلة انيجيرفان لزيارة لندن واللقاء به كما تلقى دعوة مماثلة من مستشارة المانيا السيدة ميركل، وفي 27 تشرين الأول أعلنت كندا سحب قواتها في العراق نتيجة الاشتباكات الحاصلة بين قوات الاتحادية والبيشمركة .

وقبل هذا في يوم 23 تشرين الأول من ذلك العام، وصل الى بغداد وزير خارجية الولايات المتحدة السيد ريكس تيلرسون للاطلاع على تداعيات مابعد الاستفتاء وتفاهم التطورات والتصريحات المنفعلة، وتجدر الإشارة هنا الى ان الوزير الامريكي قبل الاستفتاء كان قد بعث رسالة الى قيادة الاقليم يؤكد فيها بوضوح موقف بلاده من الاستفتاء وعدم الموافقة عليه في حال عدم قبول الحكومة الاتحادية بإجرائه وعدم اتفاقها مع سلطات الاقليم، وقد اكدت حكومة الاقليم تلقيها هذه الرسالة قبل اجراء الاستفتاء لكنها اشارت الى ان ماتلقته كان عبارة عن مسودة..!

وحين التقيت الوزير تيلرسون في مساء يوم وصوله الى بغداد، وكان لقاؤنا في جناح لرئاسة الجمهورية بقصر الحكومة في المنطقة الخضراء، كانت الاحداث قد تجاوزت النقاش بشأن إجراء او عدم إجراء الاستفتاء، فما استجد بعد يوم الاستفتاء من تداعيات بات هو الأكثر مدعاة للبحث عن فرص تطويقه وتطوير التفاهم يشأنه لقد كنت حريصاً جداً على ان يكون الدور الأمريكي مساعداً في عودة مياه الحوار مابين الاقليم والحكومة الاتحادية الى مجاريها الطبيعية .

قبل اللقاء بالوزير الامريكي بدقائق، وفيما كنت انتظر وصول الوزير بالموعد المحدد كان رئيس الوزراء في إقليم كردستان (حينها) السيد نيجيرفان بارزاني قد اتصل بي هاتفياً، مستفسراً ما اذا كنت سألتقي بالوزير ريكس تيلرسون، وحين عرف ان المتبقي على موعد اللقاء دقائق قليلة فقط، فقد استفسر مني عن إمكانية الحديث مع الوزير وعن ورود معلومات تؤكد نية الحكومة العراقية إرسال قوات الى فيشخابور، سيؤدي توجه تلك القوات لهذا الممر الحدودي حتماً الى تصادم بينها وبين البيشمركه، واذا حصل هذا فسيكون مدعاة للمضي اكثر في التطورات السلبية مابين الجانبين في تلك الاجواء الملبدة، فيما يريد الاقليم البدء فعلاً بحوار جاد وعملي مع الحكومة الاتحادية .

لم يكن الإعداد للقائي بوزير خارجية الولايات المتحدة بعيداً كثيراً عن هذا التطور الذي تحدث به نيجيرفان بارزاني، كانت ظروف مابعد الاستفتاء هي المحور الاساس ليس لهذا اللقاء فقط وانما في جميع الفعاليات والنشاطات الجارية  ببغداد او كردستان بمختلف المستويات السياسية .

وفي غضون ذلك صدر بيان عن الرئيس الامريكي دونالد ترامب، تناقلته الوكالات وجاء فيه: على مدى سنوات طويلة اقمنا علاقات طيبة للغاية مع الكرد ووقفنا ايضاً الى جانب العراق برغم انه ماكان ينبغي لنا الذهاب الى هناك، وأكد ترامب عدم انحياز بلاده الى اي من الجانبين في تلك المشكلة .

وفي الحادي والعشرين من الشهر نفسه أعلن التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة التوصل الى اتفاق من شأنه إيقاف القتال بين القوات العراقية والبيشمركة، وجاء الاتفاق في اعقاب اتصال هاتفي لوزير خارجية الولايات المتحدة السيد تيلرسون مع كل من رئيس الوزراء الدكتور حيدر العبادي ورئيس الاقليم السيد مسعود بارزاني .

فقد تحدثت، في لقائي مع السيد تيلرسون الذي حضره سفير الولايات المتحدة السيد دوغلاس سيليمان وآخرون، عن رغبة الاقليم في الحوار والوصول الى تفاهمات مشتركة، وفهمت من الحديث ان النقطة الاساسية في الحوار ما بين رئيس الوزراء حيدر العبادي والوزير تيلرسون كانت تدور حول فيشخابور، وهذا ماجعل حديثهما منصرفاً بشكل أساس لهذا الجانب وللحديث عن مخاطر اي تصادم ينتج عن ارسال قوات الى تلك المنطقة، بينت للوزير ضرورة الاهتمام بهذا الموضوع وأوضحت ان هناك ( من يشجع الحكومة على ارسال القوات لعدة منطلقات)، وقد بدا مهتماً جداً ومطلعاً على تفاصيل دقيقة .

قلت لوزير الخارجية الامريكي: ( من المهم استخدام صلتكم الطيبة بالطرفين لمنع الاندفاع باتجاه اي عنف او اقتتال، الحكومة المتمثلة برئيس الوزراء القائد العام للقوات المسلحة تفكر بالعودة الى خطوط ماقبل 2003 ثم استقر الرأي الى العودة الى خط ماقبل 2014، الخشية هي من حدوث اقتتال دامٍ، سيكون من الصعب ايقافه بسرعة، العراق الموحد هدف الجميع، لكن هذا يتطلب خطوات هادئة وتفاهماً بناءً للوصول الى اتفاقات ملزمة للطرفين) فأكد الرجل التزام بلاده باستمرار صلاتها ببغداد واربيل وإنها ( تؤدي دورها بما يؤكد مبادئ الحوار ومن دون تدخل جهات أخرى) كما عاد ثانية في حوارنا معاً الى تأكيد ان ( امريكا ملتزمة مع اربيل وبغداد، وعلينا ان نشجع الطرفين على الحوار والمضي قدماً فيه .نشجع ان تكون الحوارات ايجابية فيما يخص قضية فيشخابور، ومن دون اي عنف، النقطة الاكثر اهمية هي إعادة الاقتصاد وتسليم صادرات النفط.العبادي لديه كل المقومات والنية الحسنة تجاه الكرد) .

وفي اليوم التالي 24/10 أعلنت حكومة اقليم كردستان رسمياً عن الرغبة ببدء حوار مع الحكومة الاتحادية وسيكون تجميد الاستفتاء الخطوة الأولى في الانطلاق بهذا الحوار .

*من كتاب (السنوات الاربع في قصر السلام)


17/10/2024