عرض: صباح عبد الصبور
تُجادل بعض الكتابات بأن الهدف من العولمة كان تقريب العالم بعضه من بعض، وإشراك الاقتصادات المتقدمة والنامية في شبكة من الروابط الاقتصادية والمالية المفيدة للطرفين. ومنذ منتصف الثمانينيات تقريباً، توسَّعت التدفقات التجارية والمالية بين البلدان بسرعة؛ حيث أزالت الحكومات الحواجز أمام هذه التدفقات. لكن لم يَسِر كل شيء حسب الخطة؛ إذ تصاعدت التوترات؛ لأن الفوائد لم يتم تقاسمها بالتساوي داخل الدول أو فيما بينها. وفي ضوء هذا، نشر موقع “فورين بوليسي” مقالاً بعنوان “ندم العالم على تراجعه عن العولمة”، في 24 مارس 2023، للكاتب “إسوار براساد” أستاذ السياسة التجارية في كلية دايسون بجامعة كورنيل ومؤلف كتاب “مستقبل المال”.
مزايا العولمة
يشير المقال إلى أنه خلال عصر العولمة، استفادت دول الأسواق الناشئة بطرق متعددة؛ وذلك على النحو التالي:
1- فتح شركات متقدمة في الأسواق الناشئة: مع انخفاض تكاليف النقل، وجدت الشركات في الاقتصادات المتقدمة أنها يمكن أن تستفيد من انخفاض تكاليف العمالة في البلدان النامية. علاوةً على ذلك، فقد تمكنت تلك الشركات من هيكلة سلاسل التوريد الهزيلة والفعالة التي تتنقل عبر بلدان متعددة؛ ما يتيح توفير التكاليف من خلال الاعتماد على تخصص البلدان المختلفة في مختلف المنتجات الوسيطة.
2- زيادة تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى الأسواق: يشير المقال إلى أن بلدان الأسواق الناشئة، التي لم تتمكن لفترة طويلة من الحصول على تمويل أجنبي إلا في شكل ديون وبشروط غير مواتية، تتلقَّى الآن تدفقات أكثر استقراراً، وبشروط أفضل، لا تتطلب منها تحمُّل كل المخاطر. وبحسب المقال، يميل الاستثمار المباشر إلى أن يكون أقل تقلباً من الديون أو أشكال التمويل الأخرى، ويشارك المستثمرون الأجانب في مخاطر هذا الاستثمار مقابل احتمالات تحقيق عوائد أفضل.
3- استفادة الأسواق الناشئة من العملات الصعبة: وفقاً للمقال، كانت التدفقات المالية تسير في كلا الاتجاهين؛ حيث تستخدم العديد من بلدان الأسواق الناشئة فوائضها التجارية لتجميع العملات الصعبة واستثمارها في السندات الحكومية التي تُصدِرها الولايات المتحدة والاقتصادات المتقدمة الأخرى. وبهذه الطريقة، إذا اتجه المستثمرون الأجانب إلى دولة سوق ناشئة كانت متوافقةً سياسياً مع بلدانهم، فسيظل ذلك البلد قادراً على سداد قيمة وارداته بالعملات الصعبة وحماية قيمة عملته. ومن ثم، فقد تطورت علاقة تكافلية بين بلدان الأسواق المتقدمة والناشئة؛ حيث يستفيد كلا الطرفين من التجارة غير المقيدة نسبياً والتدفقات المالية.
أسباب التراجع
رغم الفوائد الواسعة للعولمة، أشار المقال إلى أنه على مدى فترة العقد ونصف العقد الماضية، تراجعت العولمة بسبب عدد من الصدمات والاحتكاكات الجيوسياسية، ومن أبرزها ما يلي:
1- الأزمة المالية العالمية: يشير المقال إلى أن التدفقات المالية عبر الحدود انخفضت بعد الأزمة المالية العالمية. ويرجع ذلك أساساً إلى كبح البنوك الغربية تطلعاتها العالمية، بينما استمرت التدفقات التجارية في التوسع. وبالنسبة إلى كلا النوعين من التدفقات، ظلت الاعتبارات الاقتصادية، مثل الكفاءة وتقليل التكلفة في صدارة العوامل التي تحدد أنماط تلك التدفقات. لكن بحسب المقال، كان الأمر مجرد مسألة وقت قبل أن تعود التدفقات المالية، أو على الأقل تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، إلى مستويات ما قبل الأزمة.
2- معضلة جائحة كوفيد-19: أوضح المقال أن جائحة كورونا عطَّلت سلاسل التوريد في جميع أنحاء العالم؛ فمع تأثير الجائحة على بلدان مختلفة في أوقات مختلفة وبدرجات متفاوتة، أدى ذلك إلى تفاقم الركود الناجم عن الوباء؛ حيث يمكن أن يؤدي كسر حلقة واحدة إلى تعطيل السلسلة بأكملها، كما تسببت استراتيجية الصين في القضاء على فيروس كورونا المستجد في مزيد من الخراب لسلاسل التوريد العالمية؛ وذلك حسب وصف المقال.
3- الصراعات الجيوسياسية بين القوى الكبرى: بحسب المقال، أظهرت الحرب الأوكرانية أن الاعتماد على مورد واحد لمنتجات الطاقة يمكن أن يترك قارة بأكملها عرضةً للخطر. وقد لاحظت الحكومات الوطنية وقادة الشركات ذلك، كما يرى المقال أن الجغرافيا السياسية اتخذت منعطفاً نحو الأسوأ، مع تصاعد التوترات بين الولايات المتحدة والصين؛ ما أدى إلى تفاقم هذه المشاكل؛ فقد أصبحت التكنولوجيا ساحة معركة جديدة؛ حيث تهدف الصين إلى الاكتفاء الذاتي، وتتطلع إلى زيادة حصتها في السوق العالمية لمنتجات التكنولوجيا الفائقة، فيما تشهد الولايات المتحدة تهديداً لمصالحها التجارية وكذلك أمنها القومي؛ بسبب زيادة الشركات الصينية. وفي إطار ذلك، فرضت الولايات المتحدة قيوداً على صادرات المنتجات والتقنيات العالية التقنية، وحاولت حتى ثني الاستثمار الخاص عن التدفق إلى الصين.
4- تفاقم مشكلة تغير المناخ: يشير المقال إلى أن التوترات التجارية، والتصدعات الجيوسياسية، والجهود المبذولة لمكافحة تغير المناخ، ساعدت على صرف التركيز بعيداً عن الكفاءة، وتحويله نحو الاستقرار والمرونة المتمثلين في سلاسل التوريد الضعيفة والمتوسطة.
عواقب واسعة
مع تراجع الدول عن العولمة والبدء في التطلع إلى الداخل، يرى المقال أنه يمكن أن تكون هناك تداعيات واسعة النطاق على الاستقرار الاقتصادي والجيوسياسي. ويتوقع المقال أن تتحمَّل البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، العبء الأكبر؛ وذلك على النحو التالي:
1- تعزيز التدابير التجارية المحلية للدول: بحسب المقال، تمثلت إحدى طرق الدول والشركات للتعامل مع عدم اليقين، في تنويع مصادر التوريد وأسواق التصدير للسلع والخدمات؛ فعلى سبيل المثال، تحاول شركة أبل تحويل بعض منتجاتها وعمليات تجميعها نحو الهند وفيتنام، لكن التنويع عادةً ما يكون مكلفاً، ويضيف تعقيدات من نوع مختلف، بما في ذلك الاضطرار إلى إدارة سلاسل توريد متعددة. وبدلاً من ذلك، تتخذ البلدان والشركات مساراً مختلفاً؛ حيث تعيد توجيه تدفقاتها التجارية والمالية لتتماشى مع الالتزامات الجيوسياسية. وتشمل هذه الاستجابات التدابير التجارية (التعريفات وقيود الاستيراد والتصدير) وكذلك السياسات الصناعية لتعزيز التقنيات المحلية، وهي السياسات التي تعمل – بحسب المقال – كحواجز للتجارة والاستثمار.
2- الميل إلى صنع السياسات الاقتصادية محلياً: يرى المقال أن اضطرابات سلسلة التوريد، والتجزئة الجيوسياسية، والتكيف مع تغير المناخ، ومجموعة من الضغوط الاقتصادية والسياسية، تدفع جميعها في الاتجاه نفسه، نحو ميل داخلي لصنع السياسات الاقتصادية، وأنها فتحت ستار الحفاظ على التفوق التكنولوجي للولايات المتحدة، وتحسين أمن الطاقة، وتعزيز الاستثمار المحلي في التقنيات الخضراء، وغيرها من التقنيات الجديدة؛ حيث وَضَعَ قانون الحد من التضخم عدداً من السياسات تعمل ضمنياً كحواجز أمام التجارة الحرة، مثل الإعفاءات الضريبية لـلسيارات الكهربائية المصنوعة في الولايات المتحدة.
3- تقليل نقل التكنولوجيا والمعرفة إلى الأسواق الناشئة: بحسب المقال، تتغير أنماط كلٍّ من التجارة وتدفُّقات الاستثمار الأجنبي المباشر الآن تدريجياً بطرق تعكس التحالفات الجيوسياسية. وبالنسبة إلى اقتصادات الأسواق الناشئة غير المتوافقة سياسياً مع الاقتصادات المتقدمة، فإن انخفاض التدفقات التجارية والمالية سيعني تقليل نقل التكنولوجيا والمعرفة؛ ما يُعيق طريقها إلى التنمية.
4- تقييد الوصول إلى أسواق التصدير: يشير المقال إلى أنه مع تراجع البلدان عن التكامل العالمي، قد يصبح الوصول إلى أسواق التصدير أكثر تقييداً بمرور الوقت. وقد يكون هذا أقل أهميةً بالنسبة إلى بلدان مثل الصين والهند والبرازيل – التي نمت بشكل كبير، وصارت أكثر اكتفاءً ذاتياً، وأكثر ثراءً من العديد من اقتصادات الأسواق الناشئة الأخرى – ولكنها قد تخنق البلدان الأصغر التي لا تزال في مراحل مبكرة من التنمية الاقتصادية.
5- إعاقة التنمية في الاقتصادات المنخفضة الدخل: يتوقع المقال أن تؤدي هذه الاتجاهات إلى إعاقة التنمية الاقتصادية للبلدان المنخفضة الدخل، التي يتمتع الكثير منها بميزة القوى العاملة الشابة نسبياً والمتوسعة، ولكنها تظل محرومة من الموارد المالية وغيرها. وبحسب المقال، تفتقر البلدان ذات الدخل المنخفض في أفريقيا جنوب الصحراء، على وجه الخصوص، إلى رأس المال المالي والمعرفة التكنولوجية لبناء التصنيع الأساسي، ناهيك عن المنافسة الفعَّالة في صناعات المستقبل.
6- محدودية الاستثمار الأجنبي في الاقتصادات النامية: يشير المقال إلى أن الاستثمار الأجنبي المحدود – خاصةً في التصنيع بدلاً من مجرد صناعات استخراج الموارد – والقيود المفروضة على وصول السلع إلى الأسواق العالمية، سيجعلان من الصعب على هذه البلدان تحقيق التقدُّم الاقتصادي، وتحسين مستويات المعيشة لسكانها، لكن من الممكن أن يظل حجم التدفقات المالية إلى الأسواق الناشئة على حاله بشكل أساسي؛ إذ تعاني الاقتصادات المتقدمة من شيخوخة السكان، وارتفاع مستويات الدين العام، وانخفاض نمو الإنتاجية. ومن ثم، فإن المستثمرين الذين يبحثون عن عوائد أفضل على استثماراتهم، أو عن فرص التنويع على الأقل، من المُرجَّح أن تظل اقتصادات الأسواق الناشئة جذابةً بالنسبة إليهم. لكن طبيعة هذا التمويل يمكن أن تتغير بطرق مهمة؛ فبدلاً من التدفقات الأكثر استقراراً، مثل الاستثمار الأجنبي المباشر، قد تتلقى الأسواق الناشئة المزيد من هذا التمويل في شكل استثمارات حافظة؛ أي أموال تتدفق إلى أسواق الأسهم وديون الشركات، كما تميل هذه التدفقات إلى جلب فوائد جانبية أقل، مثل عمليات نقل التكنولوجيا.
وختاماً، يشير المقال إلى أنه قد يترك التراجع عن العولمة الدولَ تشعر بمزيد من الأمان وبأنها أقل عرضةً للتقلبات العالمية، لكن ستكون تكاليف هذا الانسحاب كبيرةً على المدى الطويل، وستندم جميع الدول؛ الغنية منها والفقيرة، يوماً ما على تحولها الداخلي، كما يجادل المقال بأن السياسات الصناعية بأشكال مختلفة، تحفز التحول الضعيف نحو التجارة العالمية والتكامل المالي، ومن أبرزها سياسة “التداول المزدوج” للصين، من خلال تعزيز الطلب المحلي والابتكار المحلي مع الاستمرار في الانخراط في الاقتصاد العالمي، وكذلك مبادرة “صُنع في الهند”، التي لها أهداف مماثلة لتعزيز التصنيع الهندي من خلال حماية المصنعين المحليين في قطاعات معينة من المنافسة الأجنبية، بجانب السياسات الصناعية الأمريكية؛ إذ يرى المقال أنه حتى الاقتصادات المتقدمة قد تراجعت عن تأييدها المطلق للتجارة الحرة.