الرئيس مام جلال ونهجه الراسخ للحل السلمي للقضية الكردية في تركيا
في خضم التحولات الإقليمية المتسارعة التي طالت القضية الكردية في العقد الماضي، يبقى اسم الرئيس الراحل جلال مام جلال حاضرا في أذهان كثير من الفاعلين السياسيين بوصفه رجل اللحظة، وصانع التوازنات، وجسر الوصل بين أنقرة والاقليم، وبين قنديل وإسطنبول، وبين أكراد العراق وسوريا وتركيا.
بعيدا عن الحديث حول حقبة تورغوت اوزال ودور الرئيس مام جلال كوسيط اساسي لحل القضية الكردية ومسارالعملية واندثارها، الا ان غيابه عن المشهد منذ إصابته بالمرض في ديسمبر عام 2012، ثم رحيله في 2017، شكل نقطة انعطاف حساسة في مسار هذه القضية، ولا سيما في تركيا، حيث تزامن الغياب مع لحظة سياسية مفصلية وهي انتخابات يونيو 2015 ،حيث دخل حزب الشعوب الديمقراطي (HDP) بقيادة صلاح الدين دميرتاش التاريخ من أوسع أبوابه في 7 حزيران 2015، حين حصل على أكثر من 13% من الأصوات، متجاوزا العتبة الانتخابية (10%)، ودافعا نفسه كلاعب رئيسي في البرلمان التركي بـ 80 مقعدًا. هذا الإنجاز حرم حزب العدالة والتنمية من الأغلبية البرلمانية التي كان يتمتع بها منذ عام 2002.
لكن هذا الانتصار لم يستثمر كما ينبغي فقد رفض الحزب الكردي الانخراط في الائتلاف الحكومي الذي اراد الرئيس التركي رجب طيب اردوغان تشكيله لضمان التعديلات على الدستور وتغيير نظام الحكم الى النظام الرئاسي ، ليُعاد فتح صناديق الاقتراع بعد خمسة أشهر فقط، في نوفمبر، وقد تراجعت أصوات حزب الشعوب الديمقراطي بمقدار مليون صوت تقريبا، وخسر الحزب 21 مقعدًا، ما شكل انتكاسة واضحة للمشروع السياسي الكردي في تركيا وعاد حزب العدالة والتنمية ليحصد الأغلبية ويشكل الحكومة مع الحزب القومي التركي، وبالطبع لتراجع الصوت الكردي عوامل عدة منها تصاعد الخطاب الأمني بعد أحداث العنف بين الدولة والـPKK وكذلك تخوف الناخبين من الفوضى وغياب الاستقرار واخيرا ضعف الدعم الإقليمي للكرد، بعد غياب شخصيات معتدلة مؤثرة مثل الرئيس مام جلال.
كان للرئيس مام جلال دور محوري في رسم معالم التوازن الكردي-الإقليمي، خاصة في تعامله مع الملف الكردي في تركيا ومع أن اهتماماته كانت تنصب بالدرجة الأولى على العراق، فإن حضوره السياسي والدبلوماسي امتد ليشمل تأثيرا واضحا على تطور العلاقات الكردية-التركية، وهنا تحديدا، يبرز غياب الرئيس مام جلال كعامل محوري، فلو كان حاضرًا، لكان قادرا بحنكته وعلاقاته الشخصية المتينة مع الرئيس أردوغان على لعب دور الوسيط بين HDP والعدالة والتنمية، كما كان سيُشجع قيادة الحزب الكردي على تبني موقف براغماتي واقعي، والانخراط في تحالف حكومي مرحلي، كان من شأنه أن يعزز الحضور السياسي الكردي في أنقرة بدل عزله.
الرئيس مام جلال الذي طالما تميز بنهج مرن وواقعي، كان بإمكانه التوسط لتحقيق شراكة تاريخية بين الكرد والدولة التركية، وهي شراكة كانت ستشكل أرضية مهمة لحل سياسي شامل للقضية الكردية في تركيا، ولم يكن يسمح بان يتعثر مشروع الانفتاح الديمقراطي كما حدث ويتجدد القتال الى يومنا هذا .
غياب الرئيس مام جلال لم يكن مؤثرا فقط في الداخل التركي، بل طال كذلك العلاقات الإقليمية، فقد أدى رحيله إلى تراجع الاهتمام التركي بدور الاتحاد الوطني الكردستاني على الساحة الإقليمية، ولا سيما في علاقاته مع تركيا، التي بدأت تميل بثقلها إلى جناح أربيل، ممثلا بالحزب الديمقراطي الكردستاني،وبالتالي فقد أدى ذلك إلى شرخ واضح في الموقف الكردي العراقي تجاه تركيا، وإلى تآكل التوازن الذي لطالما أرساه طالباني بين المصالح الحزبية والمصلحة الكردية العامة وهو معروف بكونه مهندس تعزيز العلاقات العراقية التركية حيث اثمر زيارته الى تركيا في اذار 2008 عن الاتفاق على علاقات استراتيجية وقد وصف المراقبون الزيارة بانها ميلاد عهد جديد في العلاقات بين البلدين معتبرين اياها شجاعة و تحمل رسائل مهمة و صفحة جديدة في العلاقات التركية ـ العراقية من حيث الاتفاق على اقامة علاقات ستراتيجية مديدة وعلى تشكيل لجنة عليا و لجان مختلفة مع التأكيد على ضرورة تعزيز علاقات اقتصادية ، نفطية ، تجارية و ثقافية واسعة بين البلدين وكذلك احياء اللجنة العراقية الامريكية التركية لموضوع الامن فيما يتعلق بحزب العمال الكردستاني .
وكذلك إحدى الزوايا المهمة التي يُغفلها كثير من المحللين هي أثر غياب مام جلال على العلاقة مع الكرد في سوريا، فقد كان يتمتع بعلاقات معقولة مع مختلف الأطراف الكردية في سوريا، وكان يُنظر إليه على أنه الأب السياسي الجامع الذي يستطيع تقريب وجهات النظر بين جميع الاطراف الكردستانية في سوريا اولا و بين هذه الاطراف (روجافا) والأطراف الإقليمية، وخاصة تركيا، لكن غيابه عن هذا المشهد أدى إلى انقطاع خط الوساطة بين أنقرة واطراف كردية سوريا اساسية مثل الاتحاد الديمقراطي وقوات سوريا الديمقراطية «قسد»، في ظل اشتداد الشكوك التركية حيال دور الأخيرة، وغياب أي صوت كردي عقلاني قادر على إقناع تركيا بتخفيف منسوب التهديد الأمني في تعاملها مع الكرد السوريين دون ان ننسى ان غيابه اثر سلبا على وحدة الصف الكردي في روج افا خاصة الشرخ والتباعد بين حزب الاتحاد الديمقراطي وحلفائها مع المجلس الوطني الاكرادي (ENKS) الذي كان له اثر سلبي داخليا وضمن المعادلات الدولية والاقليمية .
لقد كان حضور مام جلال في أي لحظة أزمة بمثابة صمام أمان للقضية الكردية، ليس فقط في العراق، بل على امتداد الجغرافيا الكردستانية، وغيابه لم يؤد فقط إلى تراجع التأثير الكردي في تركيا، بل فاقم الخلافات الكردية-الكردية، وترك “روجافا” من دون غطاء سياسي إقليمي يوازن بين طموحاتها ومخاوف جيرانها.
في اللحظة التي خسرت فيها الحركة الكردية في تركيا مليون صوت، وانسحبت من مشهد صنع القرار، كان غياب مام جلال أشد من مجرد فراغ شخصي؛ كان غياب عقل استراتيجي، ومشروع توافقي، وموقع وسطي لم يتمكن أحد من ملئه، لكن ورغم التحديات الا ان رئيس الاتحاد الوطني بافل طالباني وقيادة الحزب تمسكوا بنهج الرئيس الراحل ولم يساوموا عليه ويردد دوما هذا النهج كاستراتجية دائمة للاتحاد الوطني في تعاطيه مع الملف الكردي ليس في تركيا بل في سوريا وايران ايضا وكان لهذا التمسك بهذا النهج الوطني ضريبة على الاتحاد الوطني من حيث ابعاد ممثله من انقرة ومنع استخدام المجال الجوي التركي للرحلات الى مطار السليمانية ورغم التهديد والوعيد الا ان الاتحاد الوطني رئيسا وقيادة وقاعدة لم يحد عن النهج الذي ارساه الرئيس الراحل مام جلال في التعاطي مع القضية الكردية في الاجزاء الكردستانية عموما و تركيا خاصة .
لقد شكل غياب الرئيس مام جلال محطة مفصلية في مسار القضية الكردية، ليس فقط في العراق، بل على مستوى الإقليم، وخاصة في تركياو تداعيات مرضه وابتعاده عن المشهد السياسي كانت عميقة ولو كان حاضرا خلال الانتخابات التركية التي برز فيها صلاح الدين دميرتاش، لكان من المرجّح أن يشكل حضور الحزب الكردي في الحكومة التركية تطورا نوعيا في القضية الكردية ولما وصل الوضع الى ان نرى دميرتاش واغلب القادة الكرد وعمداء المدن الكردية في الاعتقال .
مع مرور اعوام على غياب الرئيس مام جلال تصاعدت المعارك والعداء بين تركيا مع حزب العمال الكردستاني من جهة ومع حزب الشعوب الديمقراطي (HDP) حيث تم حظره ليدخل الى العملية السياسية باسم حزب المساواة وديمقراطية الشعوب (DEM) ،واليوم نجد انفتاحا حذرا لدى الجانبين للبت في الحل السلمي ،فرئيس الحزب القومي التركي دولت بهجلي الذي قرر في 2015 الدخول في الحكومة مع حزب العدالة والتنمية كان شرطه الاساسي تخلي الرئيس اردوغان وحزبه عن الانفتاح الديمقراطي على القضية الكردية لكن تحديات المرحلة دفعته اليوم الى ان يبادر هو بطرق باب الحل السلمي والذي سمي بمرحلة المصافحة ويطلب من وفد ايمرالي التوجه الى زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله اوجلان من اجل العمل معا في سبيل الحل السلمي وانهاء التمرد المسلح والاستخدام العسكري ليمارس الجميع نضاله تحت قبة البرلمان التركي وقد استجاب اوجلان للطلب عبر رسالة تاريخية في 27 شباط 2025 دعا فيها الحزب الى حل نفسه وانهاء الكفاح المسلح مقابل ضمانات دستورية وقانونية وديمقراطية وقد استجاب الحزب للنداء وفي الفترة من 5 إلى 7 أيار 2025 عقد الحزب مؤتمره الثاني عشر واتخذ قرارات ذات أهمية تاريخية فيما يتعلق بحزب العمال الكردستاني على أساس دعوة اوجلان .
لقد اصبحت الكرة الان في ملعب الدولة التركية لتستجيب للخطوات وتدخل في مسارجاد للحل السلمي الذي سيخدم تركيا والمنطقة عموما .
في الكثير من خطاباته من 2008-2015 كان الرئيس اردوغان يؤكد ان سياسة انكار وجود الشعب الكردي في تركيا قد انتهت، ولن ندع أي شيء يضر باخوتنا» في اشارة الى الكرد و ان «الحكومة بدأت عهدا جديدا في تركيا منذ توليها السلطة منذ2002 وانها تقف على حد سواء من المواطنين كافة».
وخلال هذه الفترة وخاصة عام 2010 فان اوجلان قد رفع عدداً من الرسائل الى الحكومة التركية خلال لقائه الاخير مع محامييه، يدعوها الى معالجة القضية الكردية ونقل عنه قوله ان «الكرد في اية بقعة من كردستان يمرون بمرحلة تاريخية، وان الاشهر الستة المقبلة مهمة جداً وهي اهم من جميع المراحل الماضية لمعالجة القضية الكردية بالطرق السلمية وينبغي على جميع المسؤولين ان يضطلعوا بالمهام الملقاة على عاتقهم» .
كل ذلك اثبات لحقيقة وجود ارادة لدى الجانبين للحل ولكنها بحاجة الى جدية اكثر و سعي افضل من لدنهما لايصال هذه السفينة الى
شاطئ الامان .
هذا المسار السلمي الذي يتطلع اليه ليس الكرد والترك فحسب ، بل العالم اجمع يؤكد صوابية رؤية الاتحاد الوطني الكردستاني ازاء القضية الكردية في تركيا وقد تحدث الرئيس مام جلال عن اهميته و ضروراته قبل ايام من اصابته بالوعكة الصحية وفي حوار مع الكاتب حسن جمال في صحيفة «ميلييت» التركية قائلا: ان النقطة الهامة هي فتح باب الحوار مع حزب العمال الكردستاني، وان رجلا واحدا يمكنه فتح هذا الباب، وهو اوجلان الذي يمكنه إصدار قرار التخلي عن الكفاح المسلح وإنزال المسلحين
من الجبال».
وقد طرح باختصار خارطة الطريق انذاك ، لتخلي حزب العمال الكردستاني عن الكفاح المسلح وترك الجبال:
1- تحسين أوضاع أوجلان في السجن، (المرحلة الأولى تحسين الأوضاع في السجن، المرحلة الثانية الإقامة الجبرية، والمرحلة الثالثة العفو، وفيما بعد المراحل الدارجة في خارطة الطريق».
2- وقف إطلاق نار حقيقي.
3- سحب كوادر ومقاتلي حزب العمال الكردستاني الى خارج
الحدود التركية.
4- ايجاد تعريف جديد للمواطنة.
5- إصدار قانون العفو العام.
واليوم نلتمس صوابية رؤية الرئيس الراحل مام جلال في التعاطي مع هذه القضية وتمسك الاتحاد الوطني بهذا النهج القويم فحتى بعد رحيله ، واصل الاتحاد الوطني الكردستاني، السير على نهجه في دعم الحل السلمي.
ففي فبراير 2025، استقبل رئيس الاتحاد الوطني بافل طالباني وفد ايمرالي الذي نقل رسائل من أوجلان، وأكد لهم أن الاتحاد الوطني “يدعم أي مبادرة تحمي حقوق شعبنا في تركيا”، وذكر أن “الرئيس مام جلال وضع الحجر الأساس لهذه الجهود منذ عام 1993” ،وكذلك كما رحب طالباني بقرار حزب العمال الكردستاني بحل نفسه وإلقاء السلاح، معتبرًا ذلك “خطوة تاريخية” نحو السلام، ومؤكدًا أن “الاستقرار الدائم في الشرق الأوسط لا يمكن تحقيقه إلا من خلال حل سلمي وعادل للقضية الكردية.
ختاما ، من اجل تسليط الضوء على اهمية وانعكاسات الحل السلمي للقضية الكردية في تركيا على استقرارها و تعزيز مكانتها،نعيد نشر نص رسالة ونداء الرئيس مام جلال عبر نفس الحوار مع الكاتب حسن جمال في صحيفة «ميلييت» التركية في نوفمبر 2012 الى الرئيس اردوغان جاء فيها نصا :
أخي العزيز أردوغان
أوجد حلاً للقضية الكردية، ليعم السلام في ربوع الجبال، لقد ولى زمن نضال الجبال، وحان وقت العمل السياسي تحت قبة البرلمان المنتخب بأصوات الشعب.
أخي العزيز
إن حل القضية الكردية سيكون عاملاً لترسيخ الأمن والاستقرار في تركيا والمنطقة، وسيشجع المواطنين على الإقبال على صناديق الاقتراع وذلك من مصلحة الجميع.
اخوكم
مام جلال
|