الاغتيال المقنَّع ..رسالة دم الى الشارع
يشكل الاغتيال المقنَّع في الأنظمة الاستبدادية، أحد أساليب القمع النظيف ظاهريا، والمُخطط بعناية في العمق، حيث لا يُقتل المحتج ،المتظاهر أو المعارض برصاصة مباشرة ومتعمدة، بل بـ”خطأ” أو “صدفة” تبدو في ظاهرها غير متعمدة، لكنها في جوهرها نتيجة سياسة ممنهجة تستخدم العنف المموَّه كأداة للردع.
الاغتيال المقنَّع لم يعد خطأ فرديا، بل أصبح نهجا أمنيا ممنهجا: تضليل، إنكار، إهمال طبي، تشويه سُمعة الضحايا، ترويج روايات كاذبة،ولأن القاتل محصّن، فإن القتل يصبح عادة، حيث يتم أحيانا تنفيذ عمليات قتل ممنهجة دون أوامر مكتوبة أو قرارات علنية، ومن بين هذه الأساليب:
1-القمع العنيف بـ”الخطأ” المتعمد، مثلا شرطي “يُفلت” سلاحه، أو “ينزلق إصبعه على الزناد”، أو “يخطئ في التصويب” فيصيب المتظاهر الخطأ، الذي هو في الواقع المستهدف الحقيقي، والهدف طبعا: التنصل من المسؤولية الجنائية وتحميل الحادث لـ”الظروف” أو “أخطاء فردية”.
2- استعمال أدوات تفريق مظاهرات قاتلة، مثل قنابل الغاز عن قرب، أو الرصاص المطاطي باتجاه الرأس، أو الضرب حتى الموت دون استخدام الرصاص.
3- التصفية عبر التعذيب أو الإهمال الطبي،كأن يُترك المعتقل ينزف دون علاج، أو يُلقى في زنزانة ضيقة بدون تهوية أو طعام.
كل هذا يدخل في خانة القتل دون قرار سياسي معلن، لكنه لا يتم إلا بتسهيل وتشجيع من الأعلى.
في الأنظمة التي تمارس القمع بخبث، لا يُقتل المتظاهر برصاصة مباشرة، بل يُصفّى عبر رصاصة ضائعة، وُجّهت بدقة تحت غطاء العشوائية. القاتل لا يُسمّى قاتلا، بل يُوصف بأنه “مرتبك تحت الضغط”، بينما تكتب أجهزة الدولة على جدران الصمت: “لم يكن مقصودا… ”.
**في الأنظمة الاستبدادية، لا يشترط أن تُرفع أوامر مكتوبة لإسكات الأصوات، ولا حاجة لإصدار قرارات رسمية بإطلاق النار على المتظاهرين، فكل ما يتطلبه الأمر هو ترسيخ ثقافة القتل غير المباشر، وتوفير بيئة تفلت فيها الرصاصة بسهولة، وتُسجل الجريمة تحت بند “الخطأ” أو “ردة الفعل” أو حتى “الدفاع عن النفس”.
القتل لم يعد بحاجة إلى قنّاص يضع إصبعه على الزناد، بل إلى نظام يُعفي أصابعه من التبعات.
بين الخطأ والنية…
شهدت دول عدة، في السنوات الأخيرة، حالات قتل لمتظاهرين ومحتجين بذرائع تبدو سطحيا عشوائية: شرطـيٌّ يسحب سلاحه بعصبية ويصوّبه نحو الأرض، لكنها تصيب صدر متظاهر في الخلف؛ ضابطٌ يضرب بعقب بندقيته شابا فيدوي إطلاق نار “غير مقصود” باتجاه شخص كان يقف بجانبه؛ أو جندي يطلق قنبلة غاز في الرأس من مسافة قريبة “دون قصد”.
لكن الحقيقة أن هذه “الأخطاء” تتكرر بنفس الشكل، وتنتج عنها وفيات ممنهجة، ومتلائمة مع توجه السلطة لقمع الحراك دون تَورّطٍ قانوني مباشر.
الجريمة بلا قاتل… لكنها بجثة
في مثل هذه النُظم، تُصاغ سياسات القمع بأدوات من “البراءة القانونية” و”الفوضى المتعمدة”،فلا تُعتبر الجريمة قتلا متعمدا، ولا يُحاسب الفاعل باعتباره منفذا لتصفية، بل موظفا أخطأ تحت الضغط.
وهنا تكمن عبقرية الاستبداد المعاصر: إخفاء القتل خلف واجهات إدارية، واختزال الجريمة في سلوك فردي معزول، رغم أن السياق العام مشحون بكل دلائل التواطؤ البنيوي.
إنه القتل الذي يصمت عنه القانون ويتواطأ معه الإعلام الداجن، وتُغلق ملفاته بالتحقيقات الشكلية، لأن النظام لا يريد قتلا مباشرا يجرّ الاتهام، بل يريد رسالة بالدم تصل إلى الشارع: “نستطيع أن نقتلكم بلا قرار، وبلا حساب”.
ما يميّز هذا النوع من الاغتيال أنه ليس خللا، بل جزء من بنية الردع، إنه اغتيال بلا توقيع، يُنفذ بعناية كي لا يُحمّل النظام مسؤولية مباشرة، لكنه يُبقي الرعب حيّا في العيون.
إنها سياسة “القتل من خلف ستار الضباب”، حيث لا أحد يمسك بالبندقية بوضوح، لكن الجميع يعلم من ضغط على الزناد… أو أمر بالصمت بعده.
في ظل أنظمة كهذه، يتحول المواطن إلى هدف متحرك، ليس لأنه مذنب، بل لأنه تجرأ على رفع صوته.
وتتحول الدولة إلى آلة قتل ناعمة، لا تصدر أحكاما بالإعدام، لكنها تهيّئ الظروف كي يُنفذ الإعدام في الشارع… ثم تقول: “لقد وقع خطأ”.
في البلاد التي تصدح فيها الشعارات أكثر من الحقوق، لا يُطلب من الأجهزة الأمنية كثيرا كي تُسكت الأصوات. ليس مطلوبا قنّاصون، ولا غرف عمليات، ولا حتى قرارات صريحة، كل ما تحتاجه الأنظمة الاستبدادية لتصفية الخصوم والمحتجين هو مساحة رمادية، يموت فيها الناس وتبقى الجريمة “قيد التحقيق”.
هكذا يُقتل المتظاهر او المحتج في الشارع، لا برصاصة مقصودة، بل بـ”خطأ” في تصويب سلاح، أو بـ”حركة عفوية” أطلقت الرصاص بالصدفة، أو بـ”دفع” خفيف جعل بندقية تهدر دون قصد، لتصيب من يجب إسكات صوته.
ما يُروّج على أنه “قتل غير متعمد” هو في الحقيقة شكل من أشكال القمع المدروس.
فالسلطة التي تطلق يد عناصرها في مواجهة الحراك، وتغلق ملفات المحاسبة، وتمنح الحصانة عبر الصمت، إنما تمارس نوعا من القتل البطيء للمجتمع نفسه، حيث لا أحد يعرف متى ستصله الرصاصة “الطائشة”.
وفي كل هذه الحالات، القاتل واحد: نظام يخطط ليبقى بريئا.
وهنا الرسالة واضحة… دون أن تُقال،الرصاصة التي تخطئ الهدف وتُصيب شخصا ، ليست “انحرافا فنيا”، بل رسالة:“نستطيع قتلكم دون أن نُتَّهم… ونفلت من العقاب حتى لو سقطتم في البث المباشر”.
وفي مثل هذه البيئات السياسية، يتحول القتل إلى تكتيك… وتتحول الجريمة إلى إدارة أزمة.
لكن الضحايا يعرفون جيدا من أطلق النار، حتى لو كُتب على التقرير الرسمي: “توفّي إثر إصابة غير معروفة”.
|