×

  رؤا

الاغتيال المقنَّع ..رسالة دم الى الشارع

16/07/2025

يشكل الاغتيال المقنَّع في الأنظمة الاستبدادية، أحد أساليب القمع النظيف ظاهريا، والمُخطط بعناية في العمق، حيث لا يُقتل المحتج ،المتظاهر أو المعارض برصاصة مباشرة ومتعمدة، بل بـ”خطأ” أو “صدفة” تبدو في ظاهرها غير متعمدة، لكنها في جوهرها نتيجة سياسة ممنهجة تستخدم العنف المموَّه كأداة للردع.

الاغتيال المقنَّع لم يعد خطأ فرديا، بل أصبح نهجا أمنيا ممنهجا: تضليل، إنكار، إهمال طبي، تشويه سُمعة الضحايا، ترويج روايات كاذبة،ولأن القاتل محصّن، فإن القتل يصبح عادة، حيث يتم أحيانا تنفيذ عمليات قتل ممنهجة دون أوامر مكتوبة أو قرارات علنية، ومن بين هذه الأساليب:

1-القمع العنيف بـ”الخطأ” المتعمد، مثلا شرطي “يُفلت” سلاحه، أو “ينزلق إصبعه على الزناد”، أو “يخطئ في التصويب” فيصيب المتظاهر الخطأ، الذي هو في الواقع المستهدف الحقيقي، والهدف طبعا: التنصل من المسؤولية الجنائية وتحميل الحادث لـ”الظروف” أو “أخطاء فردية”.

2- استعمال أدوات تفريق مظاهرات قاتلة، مثل قنابل الغاز عن قرب، أو الرصاص المطاطي باتجاه الرأس، أو الضرب حتى الموت دون استخدام الرصاص.

3- التصفية عبر التعذيب أو الإهمال الطبي،كأن يُترك المعتقل ينزف دون علاج، أو يُلقى في زنزانة ضيقة بدون تهوية أو طعام.

 كل هذا يدخل في خانة القتل دون قرار سياسي معلن، لكنه لا يتم إلا بتسهيل وتشجيع من الأعلى.

في الأنظمة التي تمارس القمع بخبث، لا يُقتل المتظاهر برصاصة مباشرة، بل يُصفّى عبر رصاصة ضائعة، وُجّهت بدقة تحت غطاء العشوائية. القاتل لا يُسمّى قاتلا، بل يُوصف بأنه “مرتبك تحت الضغط”، بينما تكتب أجهزة الدولة على جدران الصمت: “لم يكن مقصودا… ”.

**في الأنظمة الاستبدادية، لا يشترط أن تُرفع أوامر مكتوبة لإسكات الأصوات، ولا حاجة لإصدار قرارات رسمية بإطلاق النار على المتظاهرين، فكل ما يتطلبه الأمر هو ترسيخ ثقافة القتل غير المباشر، وتوفير بيئة تفلت فيها الرصاصة بسهولة، وتُسجل الجريمة تحت بند “الخطأ” أو “ردة الفعل” أو حتى “الدفاع عن النفس”.

القتل لم يعد بحاجة إلى قنّاص يضع إصبعه على الزناد، بل إلى نظام يُعفي أصابعه من التبعات.

 

بين الخطأ والنية…

شهدت دول عدة، في السنوات الأخيرة، حالات قتل لمتظاهرين ومحتجين بذرائع تبدو سطحيا عشوائية: شرطـيٌّ يسحب سلاحه بعصبية ويصوّبه نحو الأرض، لكنها تصيب صدر متظاهر في الخلف؛ ضابطٌ يضرب بعقب بندقيته شابا فيدوي إطلاق نار “غير مقصود” باتجاه شخص كان يقف بجانبه؛ أو جندي يطلق قنبلة غاز في الرأس من مسافة قريبة “دون قصد”.

لكن الحقيقة أن هذه “الأخطاء” تتكرر بنفس الشكل، وتنتج عنها وفيات ممنهجة، ومتلائمة مع توجه السلطة لقمع الحراك دون تَورّطٍ قانوني مباشر.

 

الجريمة بلا قاتل… لكنها بجثة

في مثل هذه النُظم، تُصاغ سياسات القمع بأدوات من “البراءة القانونية” و”الفوضى المتعمدة”،فلا تُعتبر الجريمة قتلا متعمدا، ولا يُحاسب الفاعل باعتباره منفذا لتصفية، بل موظفا أخطأ تحت الضغط.

 وهنا تكمن عبقرية الاستبداد المعاصر: إخفاء القتل خلف واجهات إدارية، واختزال الجريمة في سلوك فردي معزول، رغم أن السياق العام مشحون بكل دلائل التواطؤ البنيوي.

إنه القتل الذي يصمت عنه القانون ويتواطأ معه الإعلام الداجن، وتُغلق ملفاته بالتحقيقات الشكلية، لأن النظام لا يريد قتلا مباشرا يجرّ الاتهام، بل يريد رسالة بالدم تصل إلى الشارع: “نستطيع أن نقتلكم بلا قرار، وبلا حساب”.

ما يميّز هذا النوع من الاغتيال أنه ليس خللا، بل جزء من بنية الردع، إنه اغتيال بلا توقيع، يُنفذ بعناية كي لا يُحمّل النظام مسؤولية مباشرة، لكنه يُبقي الرعب حيّا في العيون.

إنها سياسة “القتل من خلف ستار الضباب”، حيث لا أحد يمسك بالبندقية بوضوح، لكن الجميع يعلم من ضغط على الزناد… أو أمر بالصمت بعده.

في ظل أنظمة كهذه، يتحول المواطن إلى هدف متحرك، ليس لأنه مذنب، بل لأنه تجرأ على رفع صوته.

 وتتحول الدولة إلى آلة قتل ناعمة، لا تصدر أحكاما بالإعدام، لكنها تهيّئ الظروف كي يُنفذ الإعدام في الشارع… ثم تقول: “لقد وقع خطأ”.

في البلاد التي تصدح فيها الشعارات أكثر من الحقوق، لا يُطلب من الأجهزة الأمنية كثيرا كي تُسكت الأصوات. ليس مطلوبا قنّاصون، ولا غرف عمليات، ولا حتى قرارات صريحة، كل ما تحتاجه الأنظمة الاستبدادية لتصفية الخصوم والمحتجين هو مساحة رمادية، يموت فيها الناس وتبقى الجريمة “قيد التحقيق”.

هكذا يُقتل المتظاهر او المحتج  في الشارع، لا برصاصة مقصودة، بل بـ”خطأ” في تصويب سلاح، أو بـ”حركة عفوية” أطلقت الرصاص بالصدفة، أو بـ”دفع” خفيف جعل بندقية تهدر دون قصد، لتصيب من يجب إسكات صوته.

ما يُروّج على أنه “قتل غير متعمد” هو في الحقيقة شكل من أشكال القمع المدروس.

فالسلطة التي تطلق يد عناصرها في مواجهة الحراك، وتغلق ملفات المحاسبة، وتمنح الحصانة عبر الصمت، إنما تمارس نوعا من القتل البطيء للمجتمع نفسه، حيث لا أحد يعرف متى ستصله الرصاصة “الطائشة”.

وفي كل هذه الحالات، القاتل واحد: نظام يخطط ليبقى بريئا.

وهنا الرسالة واضحة… دون أن تُقال،الرصاصة التي تخطئ الهدف وتُصيب شخصا ، ليست “انحرافا فنيا”، بل رسالة:“نستطيع قتلكم دون أن نُتَّهم… ونفلت من العقاب حتى لو سقطتم في البث المباشر”.

وفي مثل هذه البيئات السياسية، يتحول القتل إلى تكتيك… وتتحول الجريمة إلى إدارة أزمة.

لكن الضحايا يعرفون جيدا من أطلق النار، حتى لو كُتب على التقرير الرسمي: “توفّي إثر إصابة غير معروفة”.

 

 

  مواضيع أخرى للمؤلف
←  الاغتيال المقنَّع ..رسالة دم الى الشارع
←  شتان بين تسليم السلاح او حرقه
←  -ترجمات- تولاي حاتم أوغلاري :​نحن على أعتاب لحظة تاريخية
←  عائشة غول: سنكون في السليمانية لحدث تاريخي
←  صحيفة "ميلليت"التركية:ماذا حدث على ارتفاع ​852 مترا ؟
←  مجلة تايم:شرق أوسط جديد يتكشف أمام أعيننا
←  الأمير تركي الفيصل:لا ينبغي للسيد ترامب أن يتبع معايير مزدوجة
←  موديرن دبلوماسي: شي جين بينغ يتخطى البريكس.. توبيخ صامت لكتلة متصدعة؟
←  حصاد النصف الاول من العام
←  تونجر بكرهان :إنها فرصة الجميع لإرساء الديمقراطية في تركيا
←  فورين افيرز :ترامب وكيفية انهاء مهمته في إيران والشرق الأوسط
←  تونجر بكرهان: ضمان الأمن بالمساواة والعدالة وليس بمزيد من التسلح
←  نيويورك تايوز:آية الله الخامنئي لديه خطة
←  موديرن دبلوماسي:الصين و تصاعد انتشار القواعد الأمريكية في الخليج والشرق الأوسط
←  بولدان: العملية السلمية دخلت مرحلة جديدة وتقتضي ​تفعيل البرلمان
←  بيان حقائق للبيت الأبيض:خبراء يؤكدون التدمير الكامل للمنشآت النووية الإيرانية
←  ترجمة خاص...بهتشلي يحذر من تطورات الحرب ويدعو لدعم مبادرة حل «الكردستاني»
←  بولدان: مجلس الأمة التركي الكبير امام مسؤوليات تاريخية
←  ترجمة خاص...الدروس الكبرى من 12 يوما من الحرب مع إيران
←  ترجمة خاص...الحرب الإسرائيلية الإيرانية: انتهت ولكن لم تُحل
←  الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين:حـــــرب عــــــالمية ثالــــــثة
←  ترجمة...مارك روته:العالم بحاجة إلى حلف ناتو أقوى
←  ريسبونسبل ستيت كرافت:العراق على حافة الهاوية بين إيران والمصالح الامريكية في حرب جديدة
←  صلاح الدين دميرتاش :"حان وقت الشجاعة وليس التحدي"
←  فورين افيرز: ترامب بين دخول الحرب او منع تصعيد كارثي
←  تقييم الوضع والمعضلات وتداعيات الحملة ضد إيران..(رؤية اسرائيلية)
←  ذي ناشنال:الخلاف بين بغداد وكردستان لا يقتصر على الطاقة فحسب
←  ناشيونال انترست:العراق في مرمى نيران الحرب الإسرائيلية الإيرانية
←  مظلوم عبدي: انها مرحلة تاريخية وعلى الكرد التكاتف واخذ مكانتهم
←  فورين افيرز:أمريكا على حافة كارثة في الشرق الأوسط
←  ديفيد إغناتيوس:مهمة إسرائيل في إيران تتسلل إلى تغيير النظام
←  ناشيونال انترست: الصراع الإسرائيلي الإيراني واعادة تشكيل الشرق الأوسط
←  الاتحاد الوطني.. صوت العقل في وجه عواصف الحروب
←  ترجمات / فورين بوليسي: سيناريوهات لنهاية الحرب الإسرائيلية الإيرانية
←  ترجمات / كينيث م. بولاك:خيار طهران الأخطر للرد على إسرائيل
←  ترجمات: تصعيد يضع الشرق الأوسط على حافة الانفجار
←  ترجمات/ نيويورك تايمز:احتمالات تحول الصراع الإسرائيلي الإيراني إلى مزيد من الاضطرابات
←  ترجمات : هل الحرب في الشرق الأوسط باتت وشيكة؟
←  ​موديرن دبلوماسي :الصين تتدخل في الصراع الإسرائيلي الإيراني مع ظهور الدعم الأمريكي
←  ترجمات: الموساد والخطة الأساسية للحملة العسكرية
←  ترجمات/ مايك واتسون:فرض السلام بالقوة
←  الغارديان: إسرائيل وإيران.. هل الصراع مرشح أن يدوم طويلا؟
←  فورين افيرز: توازن القوى الجديد في الشرق الأوسط..أمريكا وإيران والمحور العربي
←  من ضفاف الدجلة والفرات إلى شواطئ نيس
←  كلمة تولاي حاتم: لدينا فرصة تاريخية لحل مشكلة عمرها 100 عام
←  فورين بوليسي: إيران ليست ضعيفة
←  بين انجازات عظيمة ومهام اكثر
←  الرئيس مام جلال.. وضرورات تأسيس الاتحاد الوطني وحماية ثقله الاستراتيجي
←  الرئيس بافل وخطابات تجديد العهد وتصحيح المسار
←  ترجمة وتحرير...أحمد أوزر:أنا هنا لأنني كردي
←  ترجمة وتحرير..بكرهان: نشهد عملية تاريخية في الشرق الأوسط والعالم
←  ترجمة وتحرير..تولاي حاتم أوغولاري: لدينا مسؤولية كبيرة تجاه شعبنا
←  ترجمة وتحرير:السلام يعني تركيا ديمقراطية.. فرص مهمة ومخاطر جدية
←  ترجمة وتحرير: عن وجود القوات الأمريكية وقوات التحالف الدولي في العراق
←  الرئيس مام جلال ونهجه الراسخ للحل السلمي للقضية الكردية في تركيا
←  من مام جلال إلى رشيد:​رئاسة كردية للقمة العربية ...رسائل ومعان
←  بغداد.. اربع ​قمم ومفارقات أربع
←  الصحافة الكردية وتصويب مسار الحكم و جدلية “السلطة الرابعة”
←  العدد (٨٠٠٠) شهادة المهنية والمصداقية في زمن التقلّبات
←  المرصد..بعد العقد الثالث.. الريادة ومواكبة المرحلة
←  مستقبل العلاقات العربية-الكردية في العراق: التحديات، المقومات، والمكاسب
←  ترجماتي..(التعددية القطبية)... تقرير ميونيخ للأمن 2025
←  المجلس الاطلسي:المنافسة الاستراتيجية المتكاملة.. نهج جديد للأمن القومي الامريكي
←  سيرجي لافروف:ميثاق الأمم المتحدة، كأساس قانوني لعالم متعدد الأقطاب
←  ترجمات... ستيفن م. والت: 10 تداعيات على السياسة الخارجية لانتخابات الولايات المتحدة
←  ترجمات...لاري دايموند:الديمقراطية بدون امريكا
←  2025: عام التحول والحسم
←  قسد والإدارة الذاتية ومسؤوليات المرحلة العصيبة
←  التعداد السكاني في زمن الذكاء الاصطناعي
←  استثمار التعداد كفرصة للتقارب وليس التآمر
←  اقليم كردستان في الاستراتيجية الامريكية
←  فورين بوليسي: ماذا يعني فوز ترامب للسياسة الخارجية الأمريكية
←  فورين بوليسي: اسباب خسارة كامالا
←  فورين افيرز: كيف سيغير ترامب العالم؟
←  نيوزويك:أعظم عودة في تاريخ السياسة
←  ستيفن هادلي:محور الخاسرين الذي يقوده شي جين بينغ
←  كل ماتريد معرفته عن سباق البيت الابيض 2024
←  فورين افيرز:امرأة في البيت الأبيض
←  الايكونوميست:عن مدى سوء رئاسة ترامب الثانية
←  ستيفن هادلي:محور الخاسرين الذي يقوده شي جين بينغ
←  ديفيد سانجر:حرب أوسع في الشرق الأوسط، من حماس إلى حزب الله والآن إيران
←  جيم كاراموني:مهمة العزم الصلب في العراق وسوريا و الانتقال
←  دانييل بايمان:تحديد موقع الاستخبارات الإسرائيلية التي مكنت من ضرب نصر الله
←  الاستفتاء بين قبول المبادرات والمجازفة بالمكتسبات
←  صرح شامخ لـ(حراس الحقيقة)
←  صون الحريات هويتنا وعمق استراتيجتنا
←  فرانسيس فوكوياما: الانتخابات والديمقراطية و الاختبار الأعظـم
←  قناة كركوك ومؤسستها الاعلامية ..هدفان وهوية جامعة
←  31 آب واشهار العلاقة الخيانية
←  البروفيسور لويس رينيه بيريس: توضيح المخاطر الاستراتيجية: سيناريوهات الحرب الإسرائيلية الإيرانية
←  فورين بوليسي: عن اعتماد الدفاع الأمريكي في الشرق الأوسط على حاملات الطائرات
←  مشتركات التبادل الثقافي العربي الكردي
←  كوندوليزا رايس: مخاطـــــر الانعزالـــــية
←  مركز أبحاث الكونغرس: واقــع العــراق اليــوم وتحـــدياته
←  الكسندر بالمر:لمــــــاذا ستصعــــــــد إيــــــران؟
←  موديرن ديموكراسي: الخطوة الإيرانية التالية مفتاح ديناميكيات التصعيد في الشرق الأوسط
←  اخيرا.. كركوك في ايد امينة
←  ترجمات...الشرق الأوسط يستعد لحرب أوسع نطاقا
←  الوحدة والتكاتف..رغبة أم مسؤولية؟
←  اوراق في ذكرى الغزو الصدامي وخيانة الطاغية ​
12