لامبارك استمع لعادل إمام… ولا صدام اقتدى بنصيحة مام جلال
--حين لا يسمع القادة صوت العقل.. يدفع الوطن الثمن--
*كتب المقال في 30-12-2025
في عالم السياسة، ليست النصيحة مجرد رأي عابر؛ بل قد تكون الفارق بين دولة تنهض، ودولة تنزلق إلى الهاوية. وبين قائد يخرج من التاريخ مرفوع الرأس، وآخر يسحب من المشهد نهاية لا يحسده عليها أحد.
الفنان عادل إمام كان واحدا من الأصوات التي وجهت رسائل سياسية جريئة عبر المسرح والسينما. لم يكن يهاجم من أجل الضحك، بل كان يقدم نقدا ذكيا موجها إلى الأنظمة العربية، وبالأخص نظام الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، الذي لم يبق لعادل إمام إلا أن يناديه باسمه صراحة وكان يكرر له عبر أعماله أن الاعتماد على أجهزة الأمن وحدها يبعد الحاكم عن شعبه، وأن الأنظمة التي تفصل القائد عن الناس بأنابيب المخابرات تنتهي نهاية مأساوية وإن الحكم الذي ينعزل في غرف الأمن يفقد بمرور الوقت شرعية الشارع.
ومع كل تلك الرسائل التي كانت تسمع في كل بيت عربي، لم يستمع مبارك وتجاهل نصائح الفن قبل نصائح السياسة، ليواجه في النهاية خاتمة بائسة كان يمكن تفاديها لو تبنى إصلاحا حكيما في الوقت المناسب.
لقد كان بإمكانه أن يستمر كقائد، لكنه فضل الاتكاء على الأجهزة بدل الجماهير والنصائح التي كانت تعرض يوميا على شاشات التلفزيون والمسارح.
المشهد العراقي لم يكن بعيدا عن هذا النمط. خلال الأيام الأخيرة قبل حرب 2003، كان صدام حسين يبحث عن “أعداء” في كل اتجاه. وعندما أدرك أن مام جلال – وليس غيره – يشكل ركيزة أساسية في إنهاء حكمه، بعث إليه برسالة تهديدية تحمل روح الاستعلاء ذاتها التي أنهكت العراق عقودا، وبالطبع مدركا أن الرجل يمثل قوة وطنية كبرى وقاعدة سياسية لا يمكن تجاوزها، لكن رد مام جلال لم يكن ردا من خصم يريد تسجيل نقطة سياسية؛ بل كان خطابا تاريخيا مشبعا بالحكمة والمسؤولية.
كان بإمكان صدام، لو امتلك قدرا يسيرا من بصيرة التاريخ، أن يتوقف أمام نصيحة خصم يحترمه العالم. لكن الرسالة التي أرسلها مام جلال ردا على تهديد صدام تحولت إلى وثيقة سياسية يمكن أن تدرس، لأنها قدمت رؤية خروج مشرفة لحاكم يقف على حافة الهاوية.
الرد الذي كتبه مام جلال لم يكن استسلاميا ولا انكسارا، بل كان خارطة طريق للخلاص وهو ينصحه بأن يتخلى عن السلطة بطريقة مسؤولة، وأن يترك العراق لحكومة وحدة وطنية، وأن يختار نهاية مماثلة لبدايته: شابا مناضلا في حزب معارض، لا ديكتاتورا محاصرا.
وأبرز ما جاء في رسالة مام جلال الجوابية هو:
• الدعوة إلى مصالحة وطنية حقيقية تقوم على إنهاء الدكتاتورية وإقامة عراق برلماني ديمقراطي فدرالي.
• تحذير صدام من نتائج الاستبداد ومن استمرار الحروب التي أنهكت الشعب والاقتصاد والجيش والهوية الوطنية.
• التذكير بجرائم الأنفال والكيميائي ليس للتشفي، بل للتأكيد أن استمرار هذا النهج سيقود البلاد إلى الكارثة.
• التوضيح أن شمال العراق ليس جبهة حرب وأن الحديث عن “تهديد كردي” مجرد ذريعة لتبرير قمع جديد.
• التأكيد على وجود جبهة وطنية عراقية تسعى لتجنيب البلاد الحرب وليس دفعها نحوها.
• تقديم نصيحة شخصية لصدام:
بأن يختار نهاية مسؤولة عبر التنحي وتسليم السلطة إلى حكومة وطنية ائتلافية تنقذ الشعب من الكارثة القادمة.
كانت الرسالة تحمل لغة غير مسبوقة:
لم يكن فيها استسلام ولا تحد، بل عرض أخلاقي وسياسي للخروج بأقل الخسائر… وإنقاذ العراق من الدم والنار.
لكن صدام، مثل مبارك، لم يستمع. رفض نصيحة الرجل الذي رأى مبكرا أن الحرب ستفتح أبواب الجحيم.
ولو قبِل بنصيحة مام جلال، لكانت احتمالات العراق مختلفة تماما:
• ما كان البلد سيدخل عشرين عاما من الإرهاب العبثي.
• ولا كان سينزلق إلى العنف الطائفي الذي مزق المجتمع.
• ولا كانت المدن العراقية ستتحول إلى ساحات صراع بين الجماعات المسلحة.
• ولا كان صدام نفسه سينتهي نهاية مأساوية، ومعه عائلته، بعدما خسر كل شيء.
لقد شاء القدر أن تتحقق كل التحذيرات التي ذكرها مام جلال في رسالته، واحدة تلو الأخرى، كأن الرسالة كانت تقريرا استباقيا لما سيحدث للعراق إذا استمرت الدكتاتورية في عنادها.
دلالة تاريخية أخرى…
واللافت أن صدام، حين أرسل رسالته التهديدية إلى مام جلال، وضع في الهامش عبارة مقتضبة:«نسخة منه إلى مسعود ملامصطفى البرزاني»، ما يعني أن صدام لم يكن يرى في السيد مسعود البرزاني تهديدا فعليا، بل كان تركيزه الحقيقي واتصاله المباشر موجها نحو مام جلال.وهذا وحده يفسر حجم الدور الذي لعبه مام جلال في إسقاط النظام وتغيير المشهد السياسي العراقي.
الأفلام والمسرحيات التي أطلق عبرها عادل إمام رسائله ما زالت محفوظة في هواتف وحواسيب الناس.
ورسالة مام جلال ما زالت وثيقة محفوظة في الذاكرة العراقية، لكن الدرس الأهم لم يستوعب بعد:الزعيم الذي لا يسمع النصيحة، يسمع في النهاية صوت السقوط.
واليوم، وفي العراق والمنطقة… بل وحتى في إقليم كردستان، لا يزال بعض القادة يسيرون في طريق مبارك وصدام، غير آبهين بما يقوله الفن، أو التاريخ، أو حتى خصومهم الذين يقدمون لهم نصائح من ذهب.
خير مانختم به هذا المقال هو اعادة نشر الرسالة الجوابية للرئيس مام جلال، لا لإحياء الماضي، بل كي يتعلم الحاضر قبل أن يكتب تاريخه بالطريقة ذاتها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من جلال طالباني إلى صدام حسين
لقد سمعت ومن ثم قرأت رسالتك التهديدية الموجهة لي. كم كنت أتمنى أن تكون رسالتك تتضمن الدعوة إلى المصالحة الوطنية القائمة على أسس إنهاء الدكتاتورية وإقامة البديل الديمقراطي البرلماني الفدرالي التعددي في العراق. ولكن المؤسف أنكم لم تستنتجوا الدروس الضرورية من الكوارث والويلات التي جلبتها الدكتاتورية الطائشة على العراق شعبا واقتصادا وجيشا وكيانا وحروبا داخلية وإقليمية وعالمية.
إن تهديدكم لنا فارغ وباطل، لأنك تعرف حتما بأن القيادة الكردية المشتركة قد أعلنت أنها لن تهاجم مدن الموصل وكركوك ولا الجيش العراقي. وبالتالي فليست هناك جبهة شمالية الآن. ومن ثم فإنك قد مارست طوال حكمك كل أنواع المظالم والعدوان على شعب كردستان الذي أوى أجدادك عندما شردهم والي بغداد وهددهم بالغناء في العهد العثماني.
فلقد دخلت التاريخ كأول حاكم يستعمل الأسلحة الكيمياوية ضد شعبه ومواطنيه، وتفاخرت علنا بعمليات “الأنفال” التي لا مثيل لإجراميتها وبشاعتها وفظاعتها في التاريخ، ودمرت قواتك جميع قرى وقصبات كردستان العراق ونهبت المواشي والثروة الحيوانية كلها. هذا فضلا عن عمليات الإعدامات والاغتيالات والتشريد والنفي وزج الشبان في ثلاث حروب عدوانية: حرب على شعبنا الكردي، وحرب على الشعب الإيراني الجار المسلم والصديق، وحرب على الشعب الكويتي الشقيق المسالم.
والآن، وأنت تعرف جيدا أننا لم نقاتل مع الأميركان إلا جماعة ضالة إرهابية مجرمة تدعى “أنصار الإسلام” يقودها العقيد في المخابرات العراقية سعدون محمود عبد اللطيف العاني (أبو وائل). فلماذا إذن وما هو الغرض من هذه الرسالة التهديدية؟ هل لتخويف شعبنا الذي صمد عقودا من الزمن وحيدا بوجه الطغاة والظالمين، أم هو لتبرير جرائم جديدة تهين ضد شعب كردستان العراق؟
إذن يقينا أنك تعلم بعدم وجود جبهة شمالية حتى الآن، ناهيكم عن عدم اشتراك الكرد فيها. بل هناك جبهة وطنية عراقية تقودها الهيئة القيادية التي أتشرف بعضويتها، تناضل من أجل إنقاذ العراق من مآسي الحرب التي فرضتها الدكتاتورية على شعبنا والتي نجمت أساسا عن اغتصاب حق شعب العراق في تقرير مصيره بنفسه وحكم نفسه عن طريق ممثليه المنتخبين بحرية. لقد أعلنت الهيئة القيادية في بيانها الأخير سياستها واضحة جلية، ونحن ملتزمون بها عاملون بجد وإخلاص لتحقيقها.
فإذا كنت أيها السيد صدام مخلصا للدفاع عن العراق العظيم، فسبيله ليس بحرب طائشة خاسرة واضحة النتائج، وإنما بتقديم استقالتك والتنحي عن الحكم وتسليمه إلى وزارة وطنية ائتلافية تنقذ الشعب والوطن من الحرب التي جلبتها الدكتاتورية عليهما. وبذلك تكون قد أنهيت حياتك السياسية مثلما بدأتها شابا مناضلا في حزب عراقي معارض يعمل وطني، وبخطوة تخلصك وعائلتك من جزء من المسؤولية التاريخية الهائلة التي تتحملونها.
والسلام على من اتبع الهدى
جلال طالباني
4/4/2003
|