قرارات منع اللغة الكوردية.. خلل عابر أم محاولات ممنهجة ؟
في خطوة أثارت موجة استياء في الأوساط الكردية، أصدرت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في الحكومة الاتحادية بتاريخ 16 تموز 2025، قرارا يمنع استخدام اللغة الكردية في الامتحانات الجامعية في جامعات الموصل، كركوك، وديالى، القرار، الذي وصفه كثيرون بأنه عنصري ومخالف للدستور، لم يمر دون رد؛ إذ وُوجه برفض واسع من قبل مؤسسات رسمية، ثقافية، ومجتمعية في إقليم كردستان وخارجه.
لكنّ السؤال الأعمق الذي يفرض نفسه اليوم: هل نحن أمام خلل إداري عابر، أم أمام محاولة ممنهجة للانقضاض على مبادئ التعددية الدستورية وفرض أحادية لغوية وثقافية تتعارض مع روح العراق الاتحادي؟
لا يحتاج المرء إلى اجتهاد قانوني ليعرف أن المادة (4) من الدستور العراقي تنص بوضوح على أن العربية والكردية هما اللغتان الرسميتان للعراق. ومع ذلك، يبدو أن بعض مؤسسات الدولة ما زالت تتعامل مع هذا النص بوصفه "إكسسوارا دستوريا"، يمكن تجاوزه أو تعطيله بكتاب رسمي أو توجيه وزاري.
فالقرار الصادر عن وزارة التعليم العالي لا يتعلّق فقط بلغة أسئلة الامتحان، بل ينطوي على توجه خطير نحو إقصاء مكوّن أساسي من المعادلة الوطنية، في لحظة سياسية تتطلب تعزيز الثقة لا تقويضها.
رغم تراجع الوزارة لاحقا عن القرار بفعل الضغط، إلا أن المسألة أبعد من مجرد إجراء إداري، إنها جزء من نمط متكرر يستهدف تقليص المساحة الدستورية الممنوحة للهوية الكردية في الدولة العراقية، خاصة في المناطق المتنازع عليها، حيث يتم اختبار حدود الصبر الكردي ومرونة النص الدستوري، فالقرارات الإدارية لا تبنى في الفراغ، بل تعكس في كثير من الأحيان عقلية سياسية كامنة تعجز عن استيعاب التعدد، وتسعى لفرض منطق "الأغلبية الحاكمة" بدل شراكة "المكونات المتساوية".
في دولة اتحادية، لا تكون اللغة حقا قابلا للجدل أو المقايضة، بل عنصرا تأسيسيا للدستور والشراكة الوطنية، ومن هذا المنطلق، فإن الدفاع عن اللغة الكردية هو دفاع عن جوهر الدولة الدستورية نفسها.
ما حدث في 16 تموز ليس حادثا عابرا، إنه اختبار جديد لإرادة الشراكة الحقيقية في العراق والمطلوب اليوم ليس فقط التراجع عن القرار، بل إعادة تأكيد التزام الدولة بمبادئ الدستور، وتحصين الحقوق الثقافية واللغوية في مواجهة أي نزعة إقصائية، فالتراجع عن مثل هذه القرارات تحت ضغط الرأي العام والاعتراضات السياسية لا يعني بالضرورة أن أصحاب القرار قد اقتنعوا بخطئهم، بل هو في الغالب تكتيك مرحلي لتفادي التصعيد، في انتظار لحظة أخرى يعاد فيها طرح الموضوع بطريقة أكثر دهاء.
إن السكوت عن هذه المحاولات أو الاكتفاء بالردود المؤقتة يجعل من هذه الحوادث “تمارين اختبار” مستمرة، تهدد مستقبلا بتحويل الاعتراف الدستوري بحقوق القوميات إلى مجرد “عرف سياسي” يمكن تجاوزه بقرار إداري أو تعميم وزاري وإذا كانت الدولة الاتحادية جادة في بناء عراق تعددي ديمقراطي، فلا بد أن تعترف بأن الشراكة اللغوية ليست منّة من الأغلبية، بل ركيزة دستورية ووجودية للدولة ذاتها.
شراكة دستورية أم منطق الأغلبية
منذ إقرار الدستور العراقي الدائم عام 2005، كان الاعتراف باللغة الكردية كلغة رسمية إلى جانب العربية خطوة مهمة نحو تأسيس عراق اتحادي يعترف بالتعددية القومية والثقافية. إلا أن ممارسات بعض مؤسسات الدولة الاتحادية في السنوات الأخيرة — من خلال إصدار تعليمات تقيد استخدام اللغة الكردية في الدوائر الرسمية والجامعات ثم التراجع عنها بعد الضغوط — تثير تساؤلات جدية حول مدى التزام الدولة بروح هذا الدستور، وتفتح الباب أمام نقاش عميق: هل نحن أمام عراق فيدرالي قائم على الشراكة الدستورية، أم أن منطق الأغلبية يسعى لفرض نفسه من جديد بطرق ناعمة؟ قبل الخوض في عمق اكثر ، لنطلع على ماجاء في الدستور العراقي حول لغات الوطن :
المادة (4):
اولاً :ـ اللغة العربية واللغة الكردية هما اللغتان الرسميتان للعراق، ويضمن حق العراقيين بتعليم ابنائهم باللغة الام كالتركمانية، والسريانية، والارمنية، في المؤسسات التعليمية الحكومية، وفقاً للضوابط التربوية، او بأية لغة اخرى في المؤسسات التعليمية الخاصة. ثانياً :ـ يحدد نطاق المصطلح لغة رسمية، وكيفية تطبيق احكام هذه المادة بقانونٍ يشمل:
أ ـ اصدار الجريدة الرسمية باللغتين .
ب ـ التكلم والمخاطبة والتعبير في المجالات الرسمية كمجلس النواب، ومجلس الوزراء، والمحاكم، والمؤتمرات الرسمية، بأيٍ من اللغتين.
ج ـ الاعتراف بالوثائق الرسمية والمراسلات باللغتين واصدار الوثائق الرسمية بهما.
د ـ فتح مدارس باللغتين وفقاً للضوابط التربوية.
هـ - اية مجالات اخرى يحتمها مبدأ المساواة، مثل الاوراق النقدية، وجوازات السفر، والطوابع.
ثالثاً: ـ تستعمل المؤسسات والاجهزة الاتحادية في اقليم كردستان اللغتين .
رابعاً: ـ اللغة التركمانية واللغة السريانية لغتان رسميتان أخريان في الوحدات الادارية التي يشكلون فيها كثافةً سكانية.
خامساً: ـ لكل اقليمٍ او محافظةٍ اتخاذ اية لغة محلية اخرى، لغةً رسمية اضافية، اذا اقرت غالبية سكانها ذلك باستفتاء عام.
عقلية مركزية موروثة
ومع ذلك، لا تزال بعض المؤسسات تتعامل مع اللغة الكردية بوصفها “لغة محلية” أو “ثقافة فرعية” يمكن تجاهلها في الإجراءات الإدارية والتعليمية، وكأن الاعتراف الدستوري مجرد بند رمزي لا يمتد إلى الممارسات اليومية.
هذا السلوك يعكس عقلية مركزية موروثة من أنظمة سابقة، ترفض الاعتراف الحقيقي بمبدأ الشراكة المتساوية بين مكونات العراق، وتحاول إعادة إنتاج خطاب تفوق الأغلبية على حساب التعددية التي يُفترض أن تكون جوهر الدولة الاتحادية.
اللغة الكردية ليست ورقة تفاوضية ولا بندا تجميليا في الدستور، إنها حق مؤسساني يعكس جوهر النظام الاتحادي الذي اختاره العراقيون بدماء ثقيلة وتجارب مريرة، وأي محاولة لانتقاص هذا الحق، سواء بقرارات إدارية عابرة أو بسياسات ممنهجة، هي في الحقيقة محاولة انقلاب ناعم على العقد الوطني العراقي.
المطلوب اليوم ليس الدفاع عن اللغة الكردية بوصفها “لغة قومية” فقط، بل بوصفها مرآة لكرامة المواطن وشراكته الحقيقية في بناء دولة دستورية لا تميّز بين أبنائها و على القوى الكردية، السياسية والثقافية، أن ترتقي بالموقف من رد فعل مؤقت إلى سياسة دائمة تعيد الاعتبار لقضية اللغة الكردية بوصفها قضية وطنية سيادية، لا ملفا تقنيا يُدار بالمراسلات، فالدستور الذي كُتب بدماء الجميع، لا يُسمح لأحد أن يعبث به بالحبر وحده.
|