×

  رؤا

عزل أميركا للصين خطيئة استراتيجية

20/09/2022

فرانسيس فوكوياما

* زميل أقدم في "مركز الديمقراطية والتنمية وسيادة القانون" في "جامعة ستانفورد" ومؤلف كتاب "أصول النظام السياسي: من عصور ما قبل الإنسانية إلى الثورة الفرنسية"

 

المهمة الرئيسة لادارة بوش الثانية هي وضع هندسة أمنية مناسبة لشرق آسيا.

فالولايات المتحدة تواجه مشاكل آنية عدة، بما في ذلك المجابهة النووية الكورية الشمالية، والتوتر بين الصين وتايوان، و «الارهاب الاسلامي» في جنوب شرق آسيا.

لكن السياسة الخارجية المتقدمة لا تقتصر على إدارة الأزمات، بل هي تشكّل مضمون الخيارات السياسية المستقبلية عبر خلق مؤسسات دولية.

لقد ورث شرق آسيا سلسلة من التحالفات من أوائل الحرب الباردة. وهي بمنزلة شراكات لا تزال مهمة كوسيلة للردع والصدقية. لكن، بعد عقد ونصف العقد من سقوط جدار برلين، من الواضح بشكل متزايد أن هذه التحالفات لم تعد تلائم تشكل السياسات التي بدأت الان في تلك المنطقة.

 

لدى البيت الأبيض فرصة لخلق إطار مؤسسي رؤيوي لشرق آسيا. على المدى القصير، يمكنها تحويل محادثات الأطراف الستة حول كوريا الشمالية إلى منظمة خماسية دائمة تجتمع بشكل منتظم لمناقشة مختلف القضايا الأمنية في المنطقة، في ما يتجاوز التهديد النووي الكوري الشمالي هذه التعددية الآسيوية ستكون حاسمة ليس فقط لتنسيق الاقتصادات المزدهرة في المنطقة بل أيضا لضبط العواطف القومية التي بدأت تلوح في كل بلد آسيوي.

على عكس أوروبا، تفتقد آسيا إلى المؤسسات السياسية التعددية القوية. لدى أوروبا الاتحاد الاروربي وحلف الأطلسي ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي ومجلس أوروبا.

في المقابل، ليس في آسيا سوى آسيان، والمنتدى الاقليمي لآسيان حول القضايا الأمنية، ومنتدى «آبيك » للتعاون الاقتصادي في آسيا - المحيط الهادئ. آسيان لا تضم الصين أو اللاعبين الكبار الآخرين في شمال شرق آسيا، وآبيك ليست أكثر من هيئة استشارية. الامن الاسيوي تضمنه ليس معاهدات دولية بل سلسلة من العلاقات الثنائية المتمحورة حول واشنطن، منها على وجه أخص معاهدة الامن الأميركية - اليابانية والعلاقات الأميركية - الكورية الجنوبية.

أسباب هذه الاختلافات بين أوروبا وآسيا تكمن في التاريخ.فالأوروبيون تربطهم أصول ثقافية متشابهة وتجارب مشتركة في القرن العشرين، إلى حد انهم كانوا مستعدين للتخلي عن جزء من سيادتهم القومية لصالح الاتحاد الاوروبي. وبالمقارنة، ثمة قدر كبير من اللاثقة بين اللاعبين الكبار في آسيا. هذه الشكوك سببها جزئيا موازين القوى المتغيّرة مثل بدء تفوق الصين على اليابان وذكريات حرب الباسيفيك. بعد 1945، كانت كل من اليابان وألمانيا في حاجة لإقناع جيرانها بأنها لم تعد تشكّل تهديدا. ألمانيا الجديدة فعلت ذلك بالتخلي عن سيادتها لسلسلة من المنظمات التعددية، واليابان فعلت ذلك من خلال التخلي عن سيادتها في الشؤون الامنية للولايات المتحدة. وهكذا، كانت الترتيبات الأمنية الشاملة في آسيا غائبة، مع قيام واشنطن بلعب دور مركزي في التواسط والموازنة.

هذه الروابط الثنائية تبقى فائقة الاهمية، خاصة العلاقات اليابانية - الاميركية. فالضمانات النووية الأميركية والقوات الأميركية المتمركزة في اليابان تطمئن بقية آسيا بأن اليابان لن تتسلح مجددا بشكل كبير. بيد أن نظام الحرب الباردة حول التوازنات الامنية بدأ يتآكل، فيما الأجيال الجديدة من السياسيين الأسيويين تتسلم السلطة وتواجه بيئات متغيّرة.

المشكلة الأولى ترتبط بعلاقة الولايات المتحدة مع كوريا الجنوبية. فالجيل الجديد من الكوريين يسعى إلى التصالح مع كوريا الشمالية بدل مجابهتها.والعديد من الشبان الكوريين الجنوبيين يعتبرون الولايات المتحدة التهديد الامني الاكبر لبلادهم وليس كيم جونغ الثاني.

ظاهريا، التحالف الأميركي - الكوري الجنوبي يبدو قويا. لكن سوء التفاهم يمكن ان يبرز بسهولة ثم يتضخم، فيما الكوريون يتهمون الاميركيين بممارسة سياسة عدوانية ضد بيونغ بيانغ.

المشكلة الثانية هي علاقة الولايات المتحدة مع اليابان. وهي علاقات متغيرة بطريقة مقلقة للغاية لبقية آسيا. فاليابان، التي تخشى التهديد النووي لكوريا الجنوبية، تعيد النظر في حاجتها لقوات دفاعية أقوى، وبدأت تتحدث عن ضرورة تحولها إلى «دولة طبيعية». وبالتالي، تبعية اليابان لأميركا منذ نهاية الحرب الباردة على وشك الانتهاء لصالح تحالف بين متساوين.

موقف اليابان الجديد يجب أن يحظى بالترحيب. والواقع أن الولايات المتحدة تدفع طوكيو للقيام بدور جديد منذ العقد الأخير من الحرب الباردة.

المشكلة الثالثة هي الصين. فهذه الدولة التي تمتلك الأن أسرع اقتصاد في العالم (وأكبره أيضا) لا تزال خارج أي تحالفات أمنية عدا عضويتها في مؤسسات دولية مثل الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية. بيد ان هذه العزلة النسبية لن تستمر.

لقد شكلت الصين دوما وجع رأس للولايات المتحدة. إنها نوع من القوة التي تتعامل معها الولايات المتحدة بشكل سيئ: فلا هي صديق واضح ولا خصم واضح. وهي في آن تهديد استراتيجي وشريك تجاري مهم. والحصيلة كانت علاقات غير متسقة تتذبذب بين التعاون البراغماتي والتوتر. ومستقبل هذه العلاقات يعتمد على كيفية تطور السياسات الصينية: ما إذا كانت الصين ستثير مواجهة مع تايوان وتستخدم قوتها الاقتصادية لتحقيق الهيمنة الآسيوية، أو إذا ما كانت ستطور مجتمعا تعدديا تملي فيه المصالح الاقتصادية العلاقات الطيبة مع جيرانها.

في هذه الأثناء، يمكن للولايات المتحدة انتهاج احدى مقاربتين: إما السعي لعزل الصين وتعبئة بقية آسيا في تحالف لاحتواء القوة الصينية الصاعدة، أو محاولة ضم الصين إلى سلسلة مؤسسات دولية هدفها استيعاب الطموحات الصينية والحفز على التعاون.

رغم تحبيذ المحافظين الجدد الأميركيين للخيار الأول، فإن عزل الصين سيكون خطيئة استراتيجية. فحتى لو عرفت الولايات المتحدة أن الصين تشكل تهديدا استراتيجيا على قدم المساواة مع الاتحاد السوفيتي السابق، إلا أنه ليس ثمة حليف لأميركا يمكن أن ينضم إلى تحالف معاد للصين في أي وقت خلال المستقبل القريب. فاليابان وكوريا الشمالية وأوستراليا وأعضاء آسيان لديها كلها علاقات معقدة مع الصين تتضمن درجات مختلفة من التعاون والنزاع. وفي غياب عدوانية صينية، وليس هناك أي طرف مستعد لتعريض هذه العلاقات للخطر.

وعلى أي حال، ضم الصين إلى المؤسسات العالمية أثبت أنه فعال. وهذا ما يعيدنا إلى ضرورة إقامة نظام امني تعددي في شرق آسيا.

 

on foreign relations . 2005

  مواضيع أخرى للمؤلف
←  الوقت لم يتأخر كثيرا لوقف تدهور أمريكا السياسي
←  روسيا تحرز انتصارا في جورجيا
←  ظهور عالم ما بعد الحقائق
←  كيفية إنقاذ الديمقراطية من براثن التكنولوجيا
←  أفكارٌ وجدل حول الأفكار
←  فوضى العراق… التحدي الأعظم للرئيس الأمريكي المقبل
←  النمو الاقتصادي وحده... لا يضمن استقرار العالم
←  أميركا غزت العراق لاسباب امنية وليس من أجل النفط
←  عزل أميركا للصين خطيئة استراتيجية
←  لا يــــــــــــــــزال الـــــتــــــاريــــــــخ منتهيـــــــــــــاً
←  الليبرالية في خطر وتحتاج إلى الأمة
←  الوباء والنظام السياسي يحتاج إلى دولة
←