×

  رؤا

أفكارٌ وجدل حول الأفكار

20/09/2022

فرانسيس فوكوياما

* زميل أقدم في "مركز الديمقراطية والتنمية وسيادة القانون" في "جامعة ستانفورد" ومؤلف كتاب "أصول النظام السياسي: من عصور ما قبل الإنسانية إلى الثورة الفرنسية"

صحيفة "برلينر مورغنبوست" سبتمبر 2003

 

ـ مع 11 سبتبمبر بدأ النضال ضد الإرهاب. كيف تقيِّم الحصيلة بعد مرور ثلاثة أعوام؟

ـ ليس من السهولة أن نحدد ذلك، لأننا ما زلنا وسط الحرب القائمة منذ ذلك الوقت. ومن الصعوبة التكهن متى سنخرج من هذه الحرب. ولكن، على كل حال، ثمة حقيقة مؤكدة وهي أن الحرب العراقية أحدثت ضربة معاكسة للنضال الشامل ضد الإرهاب على النطاق العالمي. لقد تحول العراق الى حاضنة ومرسى للإرهاب، يتوالد هناك إرهابيون، وهم يقومون بما يريدون. وفي الحقيقة تستطيع أن تشبّه العراق اليوم بما كانت عليه أفغانستان في الأمس. ولذلك يتوجب الإنتهاء من هذه الحاضنة الخطرة وبسرعة.

 

ـ هل كانت خطوة إزاحة نظام حسين خاطئة؟

على أية حال لم تكن إزاحة نظام صدام حسين لها علاقة بالحرب ضد الإرهاب وتندرج في هذا السياق. كان العراق تحت نظامه مشكلة قائمة بذاتها. وكان من الممكن التعامل مع المسألة على نحو مختلف، كاستمرار فرض العقوبات الإقتصادية مثلاً، بل وتشديدها. والحقيقة أن الحرب في العراق أرجعتنا خطوات الى الوراء في حربنا ضد الإرهاب.

ـ وهل ترى هناك تقدماً أو نجاحاً ملموساً في حربكم ضد الإرهاب؟

ـ طبعاً. كانت نهاية نظام طالبان نجاحاً استثنائياً. لقد دفع الإنتصار في أفغانستان تنظيم القاعدة الى الشلل ـ سحب منها معسكرات تدريب الإرهابيين، وضرب شبكتها التنظيمية وأضعفها للغاية. وثمة حقائق كثيرة للإنتصارات التي تحققت ضد القاعدة، وهي لاتتبين في العلن. وهكذا أصبحت اليوم مناطق عديدة في العالم أكثر أماناً.

 

ـ قبل فترة قصيرة انتقدت، في مقال لك، حكومة الولايات المتحدة الأميركية. ما هو الخطأ الذي ارتكبه البيت الأبيض؟

ـ ثمة أخطاء.. ولكن الخطأ الأول كان الإعتقاد الجازم والقناعة التامة بإمكانية تحويل العراق الى الديمقراطية، بينما كنت، منذ البداية، متأكداً من صعوبة التحول. وأرى بأن المسألة عسيرة للغاية، وتلزمها طاقة كبيرة وتحتاج الى نفس طويل. لقد قللت حكومة الولايات المتحدة الأميركية من أهمية العملية وامتثلت للسهولة، وفق قناعتها، بصدد التحول في العراق. وهكذا فإن الأخطاء جعلت من العملية الديمقراطية أكثر صعوبة.

ثمة خطأ آخر، هو ان الولايات المتحدة الأميركية تعتمد على القوة فقط، وهي القوة العظمى الوحيدة. ولكن هذه القوة تفتقد اليوم جدل السيطرة وتستعملها دون حساب لمعرفة النتائج. وهكذا تمتثل الحكومة على القوة والحزم أكثر ما تمتثل لقوة الإقناع. وبذلك غالباً ما تسلك بغير تحفظ أزاء الآخرين وتنظر إليهم باستصغار. وأعتقد بأن هذا يقود الى أزمة ثقة تجاه القوّة الأمريكية.

 

ـ في كتابك الجديد دعوةٌ لبناء الدولة. ما الذي تقترحه في هذا السياق بخصوص العراق؟

ـ أظهر النموذج العراقي حتى الآن إخفاق الولايات المتحدة في بناء الدولة. وما زال عليها ان تتعلم الكثير. على الأرجح نحن لم نستعد للأمر ونحضّر له بقدر كاف من الإستعداد. وبسبب من التعثر أو الفشل تضعف رغبتنا وربما تزول بعد فيرة قصيرة. وينطبق الأمر بهذا الخصوص على الموقف من الأمم المتحدة.

 

ـ وأفغانستان؟

ـ هناك تمضي الأمور على نحو أفضل، كما يصرح الكثيرون. وأعتقد بأن موقفاً، كما نلاحظه ونلمسه في العراق، سوف لن يحدث في أفغانستان.، على الرغم من الخسارة التي مني بها أمراء الحرب وبارونات المخدرات. في الواقع أنا متفائل بخصوص أفغانستان.

 

ـ لنعد الى 11 / 9 ، هل تغير العالم العربي بعد هذا التاريخ المشهود؟

ـ لقد استيقظ العديد من الحكومات العربية. ولأول مرة أخذت تنتبه وترى وتعترف بمرض مجتمعاتها، وتحاول معالجة ذلك. وأعتقد بأن معالجة تلك الأمراض ـ الفساد وغياب الحريات والحقوق المدنية..الخ ـ سيطول بغية الشفاء الكامل.

 

ـ وهل غيّرَ 11 سبتمبر الأوروبيين؟

ـ عندما تقصد العقلية الأوروبية، ما إذا تغيرت بعد 11 سبتمبر، فالجواب كلاّ مع الأسف. الأوروبيون يغلقون أعينهم أمام مشكلات الشرق الأوسط. وعلى سبيل المثال، يعتقد الفرنسيون بأنهم سيكونون بمنأى عن الإرهاب حينما يتخذون موقفاً مناهضاً من الحرب في العراق. الى جانب هذا تواجه اوروبا مشكلة معقدة مع الإسلام هي أشد مما تواجهه الولايات المتحدة الأميركية. على خلاف اميركا فإن اوروبا تضم جالية اسلامية كثيرة العدد. وهذه الجالية ـ الأقلية ستصبح على المدى البعيد مشكلة حقيقية. وكذلك، على خلاف الولايات المتحدة، فإن اوروبا سهت وتقاعست عن إدماج هذه الأقلية في مجتمعها.

 

ـ أنت ترى، على الأرجح، حرباً على جبهتين قادمة نحونا؟

ـ نعم، أعتقد ذلك. بل اعتقد أيضاً بأن الصراع الداخلي ـ هو أصعب وأقسى بالنسبة الى أوروبا من غيرها. أما الخطوة الأولى في هذا الصراع فينبغي ان تكون، قبل فوات الأوان، محاولة الربط بين الهجرة وبين الإندماج. و تتطلب العملية تلازماً متيناً بين الأثنين على نحو لا انفصام فيه ليتحقق النجاح. ولهذا فالفصل بين الهجرة والدمج سوف لا يؤدي الى الغرض المطلوب، بل سيعمق الأزمة الإجتماعية.  ينبغي أخيراً أن يقال، وبكل وضوح أن ثمة ارتباط وثيق بين معدل الجريمة والهجرة الأجنبية. وحينما لا تكون أوربا حاسمة في موضوع الهجرة الأجنبية، ولا تولي انتباها خاصا للمهاجرين اليها من المسلمين فإن الأمر سيودي الى الإنفجار.

 

* سيد فوكوياما، أعلنت في العام 1989 في نص اطروحة طويلة " نهاية العالم " وبسبب تلك الأفكار التي طرحتها اكتسبت شهرة عالمية. منذ ذلك الحين ارتبط اسمك وتحددت هويتكَ بهذه الفكرة، هل يمثل الأمر لك امتيازاً أم انه يمثل غبناً؟

ـ حسناً، هناك بعض الإستنتاجات السلبية، بضمن استنتاجات أخرى. انني أُسألُ باستمرار...

 

* كما يحصل الآن مثلاً...

ـ ولكن من جهة اخرى لم أكن أحوز على كل هذا الإهتمام وأوخذ على محمل من الجد ما لم أكن قد اشتهرت.

 

* لم تُنتقد في آنه وحسب، بل هُزيء بافكارك بما يثبت عكسها. لقد أعلنتَ نهاية التاريخ، إلاّ أن ما حدث فيما بعد كان حدثاً تاريحياً بالتأكيد؟

ـ لقد يأست منذ فترة طويلة من الأمل بأن يتناول ويناقش أولئك النقاد موضوعتي على نحو جاد. والذي لا أفهمه هو أن عدداً ليس بالقليل من هؤلاء هم من الماركسيين الذين لا يرغبون أو يفضلون فهمي بشكل واضح ومقنع. كان عليهم حقاً أن يتذكروا الفكرة التي اعتمدوا عليها وارتبطوا بها، وهي فكرة ان التاريخ يملك غرضاً واحداً، هو الخطو نحو تكامل تشكل المجتمع البشري.

أما الذي قلته، فهو أن التطور قد اوصل المجتمعات البشرية الى غرضه النهائي: الديمقراطية الليبرالية الغربية. وهكذا أصبح، بأفول الشيوعية، اقتصاد السوق والديمقراطية التعددية هو النموذج العالمي بغير منازع. لم تعد ثمة تناقضات تناحرية. لذا فإن افكاري ما زالت قائمة.

 

* انتهى التاريخ، ولكن واجهتنا أحداث تاريخية مهمة. كيف توّفق بين هذا وذاك؟ ما الذي حصل في 11 سبتمبر؟

ـ بالطبع كان 11 سبتمبر مقطعاً تاريخياً. إلاّ أن ما قلته، بأن عملية التحديث في كل مكان ستصب في الديمقراطية الليبرالية، ومازال هذا القول قائماً وصحيحاً.

 

* ألا تعتقد بأن الإسلاموية تمثل فكرة جديدة وهامة تتعارض مع الديمقراطية الليبرالية؟

ـ الإسلاموية خطاب معادٍ للغرب، وتشكل هجوماً مباشراً على المباديء الديمقراطية الليبرالية في الغرب، إلاّ أن النزعة الإسلامية تفتقد الى الجاذبية بالنسبة لغير المسلمين. وحتى بين المسلمين ثمة مجموعة صغيرة من البشر تسير في نهج الآسلاموية. أما أغلب المسلمين فيفضلون أن يعيشوا نمط مجتمع غربي حديث.

* إحتفيتَ في العام 1989 بانتصار الرأسمالية، بالخصخصة وباقتصاد السوق. وفي كتابك الجديد " بناء الدول " تؤكد على الأهمية الفعالة للمؤسسات الحكومية القوية، أعتقد بأن هذا الأمر مدهش بالنسبة لشخصٍ محافظٍ مثلك، من جماعة ريغن.

ـ لقد أسيء فهمي باستمرار. لم أكن في أي وقت من الأوقات من رجال ريغن، بمعنى انني كنت أؤيد وأستحسن قلة بروز الحكومة، بل بالعكس. وقد كشفت الأحداث في السنوات الماضية بأن الدول الضعيفة هي المشكلة الكبرى في عصرنا.

* تعتبر من الشخصيات البارزة بين المحافظين الجدد في الولايات المتحدة. لقد دخلت الآن في تناقض مع رفاقك في الفكر، حيث أنتقدت في مقالة لك حرب العراق وأوضحت أوهام وأخطاء حكومة بوش بهذا الخصوص. يبدو ان الأوربيين كانوا محقين على العموم في موقفهم المتشكك. هذا ما تقوله أنتَ أيضاً. أظن ان اصدقاءك لا يريحهم سماع ذلك؟

ـ هل تعرفين بأن المحافظين الجدد يؤمنون بعدة امور، من ضمنها ان الديمقراطية نموذج عام وشامل، وباننا يجب أن نوجه سياستنا الخارجية وفق قيم معينة، وأن نوظّف قوة أمريكا لهذا الغرض. ولكن لايعني هذا، بأي شكل من الأشكال، حتمية الدخول الى العراق. الأوربيون والأمريكيون يرسمون على نحو متزايد صوراً كاريكاتورية كل عن الآخر. وفي أوربا عداء ضد أمريكا، عداء بلا روح.

في الجانب الآخر يقوم العديد من أصدقائي، من المحافظين الجدد، بتشويه جوهر الإعتراضات والإنتقادات والمخاوف الأوربية. وأريد هنا أن أذكّرَ ببعض الأشياء، من ضمنها، ضرورة أن يكون للمرء حلفاء. لذا لم أفهم لماذا بذلت حكومة بوش جهوداً لإغضاب أصدقائنا القدامى.

* حصلت الولايات المتحدة الأمريكية بعد 11 سبتمبر على دعم عالمي قبل ان تخوض حرب افغانستان، و تصرفت آنذاك بحذر. لماذا بددت رأسمالها بعدئذٍ في حرب العراق.

ـ فكر بوش بأن العراق يمثل فعلا خطراً كبيراً. إعتَقَدَ بأن صدام حسين يمتلك أسلحة دمار شامل سيقدمها للإرهابين. وكان آخرون في الحكومة يرون بأنه لا يمكن تفويت الفرصة السانحة لإدخال الأمريكيين في حرب ضد العراق. هؤلاء لم يفكروا ملياً بأن هذا سيغضب الأوربيين مثلما سيغضب قطاعات اخرى من العالم. ربما كانوا يأملون في أن يتوقف انتقاد أوربا عندما يتم اسقاط النظام. ولو تمّ العثور على أسلحة الدمار الشامل لبدى الدخول الى العراق شرعياً. لقد أخطأوا في الحسابات. ويبدو هذا الآن غير معقول، خاصة وان العراق تحوّل الى ميناء للإرهابين. هكذا، من خلال استراتيجية العداء للإرهابين، أصبح خطر الإرهاب أشد.

* لعبة بوكرٍ خطيرة إذاً

ـ نعم ولا. كانت هنالك، في عشرات السنوات الماضيات، أحادية القرار. يجب أن لا ننسى بأن الولايات المتحدة الأمريكية إبان الحرب الاباردة تقدمت الى الأمام ومارست الضغوط على الأوربيين أو ابتزتهم أحياناً. وقد أثرت فيما بعد على الرأي العام من خلال صواب ونجاح سياستها. ولهذا فإن أناس مثل وزير الدفاع رامسفيلد مقتنعون بأن الأوربيين غير متمكنين وغير قادرين على حلّ مشكلاتهم ومواجهة الأخطار، وعليه يتوجب علينا نحن ان لا ندعهم يعيقون عملنا. مرة أخرى أقول: هذا الرأي خاطيء تماماً. فمن خلال عدم اهتمام الحكومة بآراء الآخرين تلحق ضرراً فادحاً بأمريكا.

 

* ألن يتغير هذا سريعاً بمجيء رئيس ديمقراطي؟

ـ ربما ستتغير نواحٍ في الأسلوب، وسوف لن يتبع جون كيري الطريقة الخشنة التي أدت الى فقدان الأصدقاء. ولكن من الخطأ ومن السذاجة الإعتقاد بأن دخول رئيس ديمقراطي الى البيت الأبيض الى سينهي كافة التوترات القائمة. الأمريكيون والأوربيون يفكرون على نحو مختلف في موضوعات مثل استخدام القوّة العسكرية وفي الموقف من المؤسسات الدولية.

 

* الى اي مدى؟

ـ ينظر الأمريكيون الى الديمقراطية كمصدر وحيد للشرعية، لذلك فان تقييم الأمم المتحدة بالنسبة لهم يختلف عن تقييم الأوربيين لها. لا يفهم الأمريكيون أي نوع من الشرعية يمكن منحها لمؤسسة ما تترأس فيها ليبيا لجنة حقوق الإنسان. أما الأوربيون فقد عاشوا تجربتهم واكتشفوا بأن الحفاظ على السيادة الوطنية أورثت الكثير من المشكلات للقارة. ومن هنا فانهم يثمنون المؤسسات الدولية بشكل خاص، مما يشكل احد مصادر التناقضات.

 

* سؤال شخصي. هل انتخبت بوش قبل اربع سنوات؟

ـ نعم.

 

* وهل تنوي انتخابه مرة اخرى؟

ـ كلا لن انتخبه مرة ثانية.

 

* إذاً ستنتخب كيري.

ـ هذا أمر ٌ صعب بالنسبة لي، فهو شخصية ضعيفة، وهو انتهازي لا يستقر على رأي..يقول الآن فجأة: ينبغي الإنسحاب من العراق خلال ثلاثة اسابيع. إلاّ أن الكل يعرف انتهازية هذا الطرح لأنه جاء بعد استبيان الرأي العام الأمريكي الذي بيّنَ فرصة نجاحة ضئيلة. وكما ترى من الصعب عليّ الإختيار بين بوش وكيري.

  مواضيع أخرى للمؤلف
←  الوقت لم يتأخر كثيرا لوقف تدهور أمريكا السياسي
←  روسيا تحرز انتصارا في جورجيا
←  ظهور عالم ما بعد الحقائق
←  كيفية إنقاذ الديمقراطية من براثن التكنولوجيا
←  أفكارٌ وجدل حول الأفكار
←  فوضى العراق… التحدي الأعظم للرئيس الأمريكي المقبل
←  النمو الاقتصادي وحده... لا يضمن استقرار العالم
←  أميركا غزت العراق لاسباب امنية وليس من أجل النفط
←  عزل أميركا للصين خطيئة استراتيجية
←  لا يــــــــــــــــزال الـــــتــــــاريــــــــخ منتهيـــــــــــــاً
←  الليبرالية في خطر وتحتاج إلى الأمة
←  الوباء والنظام السياسي يحتاج إلى دولة
←