×

  رؤا

فوضى العراق… التحدي الأعظم للرئيس الأمريكي المقبل

20/09/2022

فرانسيس فوكوياما

* زميل أقدم في "مركز الديمقراطية والتنمية وسيادة القانون" في "جامعة ستانفورد" ومؤلف كتاب "أصول النظام السياسي: من عصور ما قبل الإنسانية إلى الثورة الفرنسية"

صحيفة (فايننشل تايمز) 19/9/2004

يمكن القول ان السمة الغريبة الغالبة حتى الآن على السباق الرئاسي الأمريكي الحالي هي غياب المناظرات الجادة بين المرشح الجمهوري جورج بوش، وبين منافسه الديموقراطي جون كيري في شأن قضية العراق.

فكيري كان أدلى بصوته في وقت سابق مؤيداً شن الحرب على العراق ثم أنه صرح قبل بضعة أسابيع - وعلى نحو مثير للاستغراب - بأنه مازال على موقفه السابق المؤيد لشن تلك الحرب، رغم ما تمخضت عن أحداثها حتى الآن، إلا أن التراجع السريع الذي منيت به شعبية المرشح الديموقراطي أخيراً في أعقاب المؤتمر القومي للحزب الجمهوري - وهو التراجع الذي كشفت عنه أرقام استطلاعات الرأي - دفعه الى التوجه نحو النأي بنفسه عن تلك الحرب حيث بدأ في انتقاد الطريقة التي تعامل بها بوش مع المتمردين العراقيين, وعلاوة على ذلك فإن كيري اقترح من جانبه أنه من الممكن للولايات المتحدة أن تنسحب من العراق في غضون أربع سنوات.

والواقع أن مثل هذا التصريح يفتقر الى الحكمة وذلك لأن تحديد موعد نهائي للانسحاب هو أمر يبعث باشارة خاطئة الى اصدقاء الولايات المتحدة وأعدائها على حد سوء كما أنه يجعل كيري يبدو متذبذباً في مواقفه, كما أن الكلام نفسه ينطبق على اقتراح المرشح الديموقراطي القاضي بأنه من الممكن في يوم من الايام أن يتم استبدال قوات دولية لتحل محل القوات الأمريكية الموجودة حالياً في العراق.

وفي واقع الأمر، فإن فشل الادارة الأمريكية الحالية في التخطيط في شكل كاف لعملية اعادة اعمار عراق ما بعد الحرب، كان فشلاً جسيماً على صعيد السياسات، وهو الفشل الذي سيؤدي الى تقليص الخيارات الأمريكية المستقبلية في هذا المجال الى حد كبير, كما أن تفاقم أعمال العنف خلال الفترة الأخيرة بشكل ادى الى ارتفاع تعداد الخسائر البشرية الأمريكية في العراق الى أكثر من ألف قتيل هو أمر يبرز مدى انعدام الأمن في ذلك البلد.

بيد انه لا ينبغي للمناظرات والنقاشات الحقيقية أن تركز على مسألة الفوضى السائدة في العراق بل ينبغي لها ان تركز على ابراز الاستراتيجيات الفعلية التي يمكنها ان تساعد الولايات المتحدة على استعادة عافيتها والتخلص من تلك الفوضى، وهو الأمر الذي يعد واحداً من أعظم التحديات التي سيتعين على الرئيس المقبل للولايات المتحدة أن يواجهها.

إن الخطة طويلة الأمد التي وضعتها ادارة بوش منذ تسليم السيادة العراقية في يونيو الماضي هي خطة مباشرة تعتمد على تقوية حكومة اياد علاوي الانتقالية عن طريق البناء والدعم المستمرين لقوات الجيش والدفاع المدني والشرطة, بحيث تصبح قادرة في مرحلة ما على استلام مهام الأمن من القوات الأمريكية والبريطانية، ووفقاً لتلك الخطة فإنه من المقرر اجراء انتخابات في شهر يناير المقبل لاختيار أعضاء مجلس تأسيسي سيتولى صياغة دستور يتم بموجبه وفي ظله تنظيم انتخابات عامة بحلول ديسمبر من العام 2005. ومن الناحية النظرية فإن العراق سيكون لديه حكومة شرعية وديموقراطية في شكل كامل عند تلك المرحلة وسيكون بإمكان التحالف أن يبدأ في تقليص وجوده العسكري في العراق تدريجياً.

بيد أن من يعتقد ان هذا السيناريو سيتحقق على أرض الواقع ما هو إلا شخص يعيش في عالم الخيال, فالعقبة الأولى والابرز هي عقبة الوضع الأمني, وها هي حكومة اياد علاوي تواجه حركات تمرد مسلحة أبرزها تلك الحركة التابعة للمرجع الديني الشيعي الشاب مقتدى الصدر، الا ان الأمر الأكثر خطورة على المدى البعيد هو الوضع في الفلوجة وفي غيرها من المدن التابعة للمثلث السني الذي يشهد عنفاً متزايداً, فمدينة الفلوجة التي باتت قاعدة للمتطرفين الاسلاميين، تبدو الآن واحدة من عدة مناطق لا تستطيع قوات التحالف أن تذهب اليها.

ومعنى هذا هو أن الولايات المتحدة قد سمحت بتأسيس ملاذ جديد للإرهابيين في وسط العراق، وهو ملاذ لا يمكن قهره واخضاعه عسكرياً إلا بتكلفة فادحة، كما انه من المستحيل للمرء أن يتصور كيف سيتم اجراء الانتخابات في المناطق السكنية من العراق بعد خمسة أشهر فقط من الآن، ومن البديهي أن عدم اجراء انتخابات في وسط العراق سيعني عدم وجود ممثلين سياسيين سنيين شرعيين كي يشاركوا في العملية السياسية.

والمشكلة التي لا تقل خطورة عن ذلك هي افتقار الحكومة الجديد الى القدرة على الهيمنة الكاملة على مجريات الدولة، فمن المعروف ان جوهر أي دولة يكمن في هيمنتها الكاملة على القوة الشرعية، وها هي الولايات المتحدة تسعى منذ فترة الى اقناع الميليشيات العراقية المختلفة وليس فقط «جيش المهدي» بالاندماج تدريجياً مع القوات التابعة للحكومة المركزية، بيد أن هناك مشكلة أو معضلة خطيرة أشبه بمعضلة «أيهما أولاً: الدجاجة أم البيضة»؟ فليس هنا لأي طرف أو حزب في العراق الاستعداد لنزع سلاح الميليشيات التابعة لها، الا اذا اطمأن تماماً أولاً الى أن مصالحه ستبقى مصونة, وفي المقابل فإنه لا يمكن لأي حكومة مركزية قوية أن تظهر الى حيز الوجود دون دعم من جانب الميلشيات المسلحة, وحتى الآن أبدى المتمردون مهارة عالية في مهاجمة من يتطوعون للخدمة في صفوف القوات الحكومية.

وفي حال تأجيل الانتخابات العراقية المقررة وترك سلطة الأمر الواقع في أيدي الميليشيات المسلحة، فإن الرئيس الأمريكي المقبل سيواجه خيارين حرجين، أولهما أن يستمر في الضغط في اتجاه اقامة دولة عراقية موحدة، وثانيهما، أن يسعى الى ترتيب لتقاسم السلطة يعتمد على اتفاق يضم الأكراد والشيعة، وهو الترتيب الذي يتخذ من الاستقرار هدفاً وغاية بدلاً من الديموقراطية.

ولقد برز في الآونة الاخيرة «حديث فضفاض» حول امكانية تقسيم العراق الى 3 دول منفصلة: كردية وشيعية وسنية, والواقع انه لا ينبغي لأحد أن ينصح بهكذا أمر الا كإجراء ينم عن يأس تام, فالتداخل التشابكي بين سكان العراق يعني أن أي تقسيم سيؤدي الى اثارة فوضى دموية, وعلاوة على ذلك فإن سيناريو التقسيم سيثير ردود أفعال محتملة من جانب دول مجاورة كإيران وتركيا اللتين ستتأثران حتماً بنتائج أي تقسيم.

وعوضاً عن سيناريو التقسيم، يمكن للتحالف أن يركز جهوده على المناطق الكردية والشيعية القادرة على اقامة شكل من أشكال الحكم الذاتي الديموقراطي وأن يعمل في الوقت ذاته على منع انتقال العدوى الى تلك المناطق من المثلث السني، فمن المعروف أن الأكراد والشيعة في العراق يتمركزون في مناطق غنية بالنفط، أما بالنسبة الى السُنة، فمن الممكن عرض الصفقة التالية عليهم: «ترتيب لتقاسم السلطة تحصلون بموجبه على جزء من العوائد النفطية يتناسب مع تعدادكم بالنسبة الى اجمالي تعداد سكان العراق» مقابل تعايشكم السلمي الكامل مع المناطق الكردية والشيعية التي ستمضي قدماً سواء بكم أو من دونكم.

إلا أن حتى هذا الأمر قد يكون من الصعب ترتيبه، لأنه لا يحل معضلة وضعية بغداد التي يختلط فيها السكان الشيعة مع مواطنيهم السُنة على نحو معقد للغاية كما أنه سيتطلب اللجوء الى قمع كامل لمقتدى الصدر وللميليشيا المسلحة التابعة له، وسيتطلب اجراء انتخابات في أي مكان من الممكن اجراؤها فيه في العراق وسيحتاج الى تحويل ميزان القوة في مدن مثل الفلوجة من الإرهابيين الأجانب والى شيوخ القبائل والعشائر المحلية أو حتى الى البعثيين السابقين, وعلاوة على ذلك فإن ذلك الأمر قد ينطوي على تخلي الولايات المتحدة عن فكرة دولة عراقية موحدة، والتركيز بدلاً من ذلك على تعزيز قدرة الشخصيات السياسية الأكثر اعتدالاً كي تستطيع أن تدافع عن نفسها ضد المتمردين السنة وضد الجهاديين الأجانب.

لقد عمدت الادارة الأمريكية الحالية من خلال المؤتمر الجمهوري الأخير الى الدمج بين هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وبين الحرب في العراق، وجعلهما مرتبطتين في سياق الحرب على الإرهاب، وكأن جنود التحالف الذين يقاتلون ضد ميليشيا مقتدى الصدر يفعلون ذلك انتقاماً ممن دمروا برجي مركز التجارة العالمي - والواقع أن هذ التصور قد أصبح صحيحاً الى حد ما، لا لشيء سوى لأن سوء ادارة الحرب ادى الى خلق أفغانستان جديدة في داخل العراق.

ولذلك فإن استئصال وازالة هذا الملاذ الجديد للإرهابيين في العرق يمثل أولوية ملحة اذا أردنا له ألا ينشر العدوى على أجزاء أخرى من العالم.

إن إدارة بوش ارتكبت عدداً لا حصر له من الأخطاء على صعيد السياسة الخارجية، خصوصاً في ما يتعلق بالعراق, وفي حال اعادة انتخاب تلك الادارة فإنه سيتعين عليها ان تعيد النظر بأمانة في ما وقعت فيه من أخطاء وأن تدرس الكيفية المثلى للمضي قدماً.

أما إذا فاز كيري في الانتخابات الرئاسية المقبلة، فإنه سيتعين عليه أن يتجاوز مرحلة التصريحات الانتخابية الارتجالية السخيفة وأن يشرع فوراً في وضع استراتيجية واضحة المعالم لمعالجة الوضع في العراق

  مواضيع أخرى للمؤلف
←  الوقت لم يتأخر كثيرا لوقف تدهور أمريكا السياسي
←  روسيا تحرز انتصارا في جورجيا
←  ظهور عالم ما بعد الحقائق
←  كيفية إنقاذ الديمقراطية من براثن التكنولوجيا
←  أفكارٌ وجدل حول الأفكار
←  فوضى العراق… التحدي الأعظم للرئيس الأمريكي المقبل
←  النمو الاقتصادي وحده... لا يضمن استقرار العالم
←  أميركا غزت العراق لاسباب امنية وليس من أجل النفط
←  عزل أميركا للصين خطيئة استراتيجية
←  لا يــــــــــــــــزال الـــــتــــــاريــــــــخ منتهيـــــــــــــاً
←  الليبرالية في خطر وتحتاج إلى الأمة
←  الوباء والنظام السياسي يحتاج إلى دولة
←